التفكك السياسي القائم حالياً في العراق يكشف عن أزمة الاجتماع الأهلي على العصبية الطائفية والمناطقية والمذهبية. فالانكفاء إلى داخل الطائفة أو المذهب أو المنطقة قد يساعد بداية في ترسيم حدود المناصفة والمحاصصة وإعادة تشكيل مواقع النفوذ في السلطة ولكنه يتحول إلى مأزق يثير الانقسام السياسي في إطار الطائفة نفسها في مرحلة إعادة توزيع الغنائم على الأطياف والمكونات.
التبعثر الطائفي - المذهبي في العراق بعد الاحتلال وتقويض الدولة أدى إلى توليد آليات ذاتية أخذت ترسم حدود التفكك في داخل المجموعات الأهلية. فالتبعثر الأساس الموضوعي للتفكك السياسي ومنه بدأت تتفرع الانقسامات لتولد توترات يصعب فهم تقلباتها وألغازها. ائتلاف دولة القانون مثلاً عقد تحالفاً بناء على رغبة إيرانية مع الائتلاف الوطني العراقي لتشكل مجتمعة ما بات يعرف بالتحالف الوطني، وكانت ذريعة هذا التحالف هو منع تكليف رئيس القائمة العراقية إياد علاوي بتشكيل الحكومة حتى لا يخرج المنصب من الطائفة الشيعية.
المنطق الانغلاقي المذكور أنتج مجموعة فيتويات (حق النقض) داخل التحالف الوطني. دولة القانون تريد المنصب وهي غير مستعدة للتنازل عنه حتى لشخص آخر من حزب الدعوة. التيار الصدري لا يريد المنصب ولكنه غير مستعد للتنازل عنه لشخص نوري المالكي وإنما لوجه آخر من التحالف بشرط ألا يكون في حال عداء مع التيار. المجلس الأعلى لا يمانع أن يكون المالكي ولكنه يفضل أن يذهب المنصب لنائب الرئيس العراقي عادل عبدالمهدي أو لرئيس توافقي لا يغضب الفرقاء.
منطق الانغلاق ساهم في توليد انقسامات أخذت تزعزع أركان التحالف الوطني وتشطر الطائفة من الداخل باتجاهات متعارضة. التيار الصدري توجه إلى دمشق والتقى علاوي وبحث معه في اسم بديل عن المالكي. المالكي التقى علاوي وبحث معه في تشكيل حكومة ثنائية وتوزيع المقاعد بالتفاهم مع التحالف الكردستاني. الأحزاب الكردية حائرة وضائعة في اتخاذ مواقف حاسمة فهي تريد منصب رئاسة الجمهورية ومستعدة لمقايضة الطرف الذي يستعد للتنازل عن موقع الرئاسة على أن تتوزع المقاعد السيادية بشكل متوازن على الكتل النيابية الأربع.
القائمة العراقية أيضاً ليست بعيدة عن خريطة الانشطارات السياسية الداخلية ما أدى إلى توليد حركة اتصالات تراوحت بين اللقاء مع التيار الصدري والتفاهم مع المالكي والتنسيق مع التحالف الوطني والتقارب مع المجلس الأعلى. والمجلس الذي تحالف في معركة الانتخابات النيابية مع الصدر بات يواجه بدوره مروحة من التعارضات الداخلية التي تتفاوت بين اختيار عبدالمهدي لأخذ المنصب وبين عدم ممانعته في تكليف شخص من دولة القانون وأخيراً معارضته تمسك المالكي بالمنصب.
لعبة الكلمات المتقاطعة تكشف عن وجود سيناريوهات تعكس في النهاية الأزمة العامة لبلد أصبح ساحة مكشوفة يصعب رصد تحولاتها الداخلية من دون مراقبة امتدادات الطوائف الإقليمية ودور دول الجوار في التأثير على الموازين المحلية وموقع أطرافها في إدارة معادلة لزجة (زئبقية) تفتقد إلى قواعد صلبة يمكن البناء عليها. داخل التحالف الوطني هناك توجهات متخالفة. وداخل دولة القانون هناك وجهات نظر ضائعة بين التحالف مع الائتلاف الوطني أو التفاهم الثنائي مع القائمة العراقية. وداخل القائمة العراقية تتعايش مجموعة خطوط متوازية بين الالتقاء بالتيار الصدري أو التنسيق مع المجلس الأعلى أو التعاقد مع دولة القانون.
شبكة سياسية من الكلمات المتقاطعة محكومة بمربعات عمودية وأفقية وأسئلة غامضة وأجوبة مبهمة، تعطي في النتيجة فكرة عملانية عن مدى خطورة ضياع الهوية المشتركة واضمحلال الروابط الجامعة التي تحتاجها أي دولة لضمان الوحدة وحماية المصلحة الوطنية العليا. فما يحصل في العراق يشكل عينة عن معنى انهيار الدولة وانفراط العقد الأهلي وتوزعه إلى كرات صغيرة تتدحرج على منحدر سياسي لا نهاية له. والمثال العيني الذي انكشف عن تفصيلات غير منتظرة في المشهد العراقي أدى في جوانبه الخفية إلى إحداث ارتباك في الصورة العامة وخصوصاً تلك التيارات التي تقرأ السياسة في إطارها المذهبي والطائفي الضيق.
هناك مفاجأة بدأت تفعل فعلها وتحبط الكثير من التوجهات التي لا تفهم سوى لغة الطائفية في التعامل مع القضايا. والحسنة في المفاجأة المهمة أنها كسرت حدة الاستقطابات الأهلية المذهبية وأخذت ترسم خريطة سياسية للتحالفات تتجاوز تلك التصورات الضيقة التي تتعاطى مع الحاضر انطلاقاً من الماضي ولا ترى في المستقبل سوى ارتدادات إلى الهويات الصغيرة والانتحار الذاتي على شاكلة تنظيمات «القاعدة» المتخصصة في قتل العربي والمسلم وعابر السبيل.
الانغلاق ليس حلاً بل هو أقصر طريق للانهيار والتبعثر والتمزق، كذلك التقوقع على مكتسبات رخيصة لا قيمة لها في معادلة الضعف والقوة سوى استنزاف الطاقة وهدرها في قنوات لا فائدة منها لأنها في جانب تشتت الوحدة وفي جانب آخر تدفع الأجزاء إلى التصادم من الداخل.
خريطة الكلمات المقاطعة التي تشكلت سياسياً في مناسبة اختيار الشخص المجهول لمنصب رئاسة الحكومة هي نتاج أزمة عامة بدأت تمر بها كل الطوائف والمذاهب والمناطق في العراق. فالشمال في أزمة بين العودة إلى الوطن الأم أو الانفصال أو التمايز أو الالتحاق بدولة مجاورة بديلة. والجنوب في أزمة بين دعوة للانفصال أو التمايز الجهوي الفيدرالي أو الالتحاق بالجوار أو القبول بالتنازل عن خصائص تمنع الاندماج في بلاد الرافدين. والغرب في أزمة بين القبول بالأمر الواقع أو الانعزال عن العاصمة والوسط أو الخضوع لسلطة محلية لم تحسم إدارتها حتى الآن بين شبكات القاعدة وقوات الصحوة.
الحسنة الوحيدة من كل هذا التوزع والتشتت أنها كشفت عن مأزق عام أخذ يرسل إشارات سياسية بسيطة وخجولة تثير رعب طوائف ومذاهب ومناطق اعتقدت أنها استحكمت بالمعادلة وصادرت السلطة وانفردت بالغنيمة، ولكنها الآن وجدت أن الطريق طويل وشاق وشروطه صعبة تبدأ بالانغلاق والارتداد على الذات وتنتهي بالتآكل الداخلي... وربما الانتحار.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2880 - الأحد 25 يوليو 2010م الموافق 12 شعبان 1431هـ
صدام والآخرين
جزء من المشكلة هو أن التعقيد الحاصل نتيجة لوجود شعور لدى جهات عربية ترى أنه ينبغي عليهم إسترجاع العراق المسروق من قبل الشيعة, ولو كان الشيعة خارج اللعبة لوقف العرب مع النظام.
أنت ترى وجود الشيعة طائفية وعدم وجودهم وطنية.
هناك جانب موضوعي في هذا الطرح ........... ولكن ؟؟؟؟؟
لماذا لا يستطيع الكاتب أن يكون موضوعيا تماما.
--
ويبتعد عن التأثيرات الشخصية الخاصة بثقافته وقراءته الشخصية للواقع العراقي.
--
أولا: ما هو الهدف من إقحام أيران في تشكل التحالف الوطني.
--
أليس هناك اسباب كثير غير أيران تحتم هذا التحالف.
--
ثانيا: أنا أعجب للحسنة التي تراها أنت، والجهة التي تتحدث عنها أعلنت منذ البداية أن العراق لكل العراقيي.
--
أما صدام حسين (زائر 1) فهو لم يكن مشروع دولة اطلاقا. فهو دكتاتور ظالم مستبد دمر العراق وأهله.
--
ألله يرحم
ألله يرحم صدام حسين ، وجوده ضمن عدم انفلات الوضع لهذا المأزق