بصحبة مجموعة من اللوحات الفنية التشكيلية التي تأخذ من المنمنمات روحها، ألقت الشاعر والتشكيلية الإماراتية وفاء خازندار مجموعة من نصوصها في مركز كانو الثقافي.
استضاف مركز كانو الثقافي التشكيلية والشاعرة الإماراتية وفاء خازندار وخلال الأمسية ألقت الشاعرة مجموعة من قصائدها وصاحب الإلقاء عرضاً لمجموعة من اللوحات التشكيلية التي أنجزتها خازندار لتصاحب قصائدها ضمن متون دواوينها (سلاح أبيض)، و(خازنة الفرح) و(طيور الضباب) ومجموعتها القصصية ( بورتريه جدتي). وذلك بحضور مجموعة من الشعراء والمثقفين ورواد المركز.
السنابل تأكل صبر الجوع
الشمس تطفئ وهج الرغبة
تبقي لون الصمت على العتبات
تنشر أنفاس الطين
على جسدي
تأتي
أعلم أنك ستأتي
القلب يئن
العالم يغرق بين يدي
أغادر إليك
متشحة الليل
حيث الأكوان بلا مواسم
تحتفظ بعقد القحط
تتعاقب المواسم والجهات
أبقى وحدي مع طائر
قتلة فقر الحنطة
على صقيع رمل بعيد
أجد رأسي قريباً مني ولا أجده
ابحث في أدراج الجسد
عن صندوق اختفى فيه
أنقب عني كثر هذه الرؤوس
من ثقب رأس مجهول
أطفأه جمر التعب
صوب خازنة الفرح
تجلسين قبالة الجدار، تمسحين بعينيك أثاثاً ورقياً، وحكايا مطرزة على مناديل من حرير، ووروداً !شاحبة، في آنية من خزف عتيق.
الجدران تتقارب، كأنها في حوار ! ثم... تتبادل المواقع، تعيد تشكيل المكان ثانية، مددت يدك إلى شعرك !لترفعينها قليلاً عن حافة رقبتك، بدوت لحظتها مثل (فينوس) عربية.
ثبت نظرك ثانية في بياض الجدار، وبياض القماش، واستدرت نحو ذاتك، وجه واحد خرج تواً من !عتمة الوجوه والتواريخ، راح يتطلع إليك بحنو.
تأطر ! صار حقيقة نفسه! ومثل تاريخ الأشراف، بدا للوجه هيبة وهالة، كشمس وصيحة!
حاولت تجميع شتات ذاكرة خضراء، وعلى مسند الرسم، عدلت من وضع اللوحة البيضاء،وبلا وعي !ومثل امرأة مسحورة، أمسكت أناملك بالفرشاة، وأخذت تحكي !
ها هي مدورة الوجه، غطاء الرأس، القلادة، وانحدرت نحو الثوب المطرز!
- وجه بلا ملامح ؟ وجه القماش؟ تساءلت: ما الذي دفعك لتعيدين رسم صورة جدتك، فالصورة تلمع منذ سنين بتينك العينين العسليتين، برغم تهدل الجفون، وكسرات الحزن النائمة كالنجوم على هدبها! تتكلمان، عينان من حكايا ومرايا في آن، تقولان وتعكسان، كأنهما رواية، كأنهما بحر.
لم تتخيل، يوماً، نفسك، اثنتين؛ هي المرأة الحاضرة بكل وجعها، وأنت الطفلة بضفيرتها، تستأنسين الجلوس بين ساقيها، لتفرق لك شعرك وتضفره، وتقص عليك المرويات، عن حياة حقيقية عاشها جدك ووالدك، عن حرب وحب، حيث لم يتعادلا في العطاء، ولا في الغبن ! على تلة من ألق، تناثرت تلك البيوت.
لكن بيتا ً واحدا ً، بدا كأنه حصن من رخام، تحيط به خضرة سامقة لأشجار الصنوبر واللوز، وزيتونات معمرة!
وعلى شرفته اختلطت أنسام هواء عليل مع زقزقة عصافير الجنة وطيور الحب، وتلك البلابل التي لا تستوحش أنسا ً ولا حيوان!
سلالمه، تصعد بالداخل إليه، كأنها تذهب به إلى العلا، لكنها تقود أيضاً إلى عوالم باطنية ! كأنها !أيضاً عالم سفلي عميق الغور، لعائلة تصارعتها العاطفة والقسوة
...تذكرت ذلك القصر المنيف، واقترحته، أول الأمر، خلفية لصورة الجدة !
وفى لحظة، تجمد الزمن، ليرسم طفولتك، منعزلة وحيدة، كأنك لم تخرجي من رحم أمك قط
حين كبرت قليلاً اشتدت عزلتك، وأخذت تسيرين على دروب الوحي والمسافات البعيدة، وحيدة متنائية، تتحركين ولا تصطدمين بشيء، اخترعت المعاني، والأمكنة في خيالك، كي تقبلي تناقضاتها !ومفارقات حياتك، كما اخترعت سبلاً للاختباء المرير
ابتكرت مغارات وكهوفاً مجهولة، تتوحدين بها مع نفسك فقط، تحاورين جدرانها الرطبة أبداً وترسمين عليها مخاوفك!
الآن وقد تجاوزت عقدك الثالث، أدركت، متأخرة جداً، أنك سمحت للكهف بأن يكون ملاذك، ولم تستبدليه بالبيدر الأصفر أو بالبيارة، إلا بعد أن تدبغ جلدك بعصا الظلم، وتمزقت طبلتي أذنك بالزعيق الجارح والسخرية وسموم الشكوك!
الآن، تبحثين عن موسيقى تخرجك من العُتم، وتري إلى صورة جدتك مضيئة، باهرة، ملاذا ً للأسئلة والسجال!
...جدتي مدفأتي
هكذا كنت تقولين وتشعرين، وأنت ترمين بكاءك الحار وجسدك البارد وسط ذلك الحضن الذي اعتاد أن يبث الدفء والحنان منذ سبعين سنة ونيف!
ضربت بالأخضر على القماشة، بالأخضر العميق تماماً.
بدت جدتك وكأنها تبحث عن أول العتاب، في أول الكلام، تتحدد ملامح الفم، والنظرة، وعلى الوجنة! رسمت بالفرشاة المسحة الأساس للألق، والقلق
بأحمر مخلوط قليلاً بياضاً وصفرة، شعت الوجنة ُ، ثم أسرعت أنامل الفرشاة، لترسم الغضون !والأخاديد، بأسى متقطر ...
- مابك يا صغيرتي ؟
بحنو العاطفة، تساءلت جدتك، وأنت تعيدين ملامح الوجه الذي تحبين والحكايا التي شغفت بها... ما أتعسك!
وراح الصوت المشجع يتدافع، بين النبر الهادئ الرصين وبين الحنان الدفئ، ويشجعك
يا صغيرتي، أراك تريدين الخلاص وتنشدين راحة القلب، أستشعر أنفاسك اللاهثة، كأنك تركضين مساف العمر في ثوان، كمن يركض إلى موعده الأول، ما أعجلك، صبرت مختبئة بليل طفولتك السنين الثقال كلها، والآن تفرين مثل عصفور شارد من قفصه، لكن لا تدرين إلى أين المفر، إذ لم يعتد جناحاك على اقتراف مسرة التحليق بحرية، بعد، هيا اصرخي، أخرجي صوتك من علبة نفسك المغلقة، أخرجي إليك، كي تتعرفي ملامحَك، على الأقل، بَلْهَ روحك الهائمة، أنت وحيدة، نعم وخائفة، وضعيفة، مدي يديك، اطلبي العون، ستجدين يداًً حانية تمسح عن جبينك الحزين غبار هذا العالم الضنين، ولتطلقي صمتك كي يُغني، ألم تتعلمي بعد غناء الصمت ؟
ُبوحي بصمتك إليك، سيرتفع نشيدُ موجك في نشيج صوتك، وتعلو النغمة، مثل موجة عاتية ...
سكتت جدتك عن الكلام المباح كأنها شهرزاد تعري عقم شهريار، وجبروته المزيف، تماماًً مثل حمل !كاذب
حين وضعت لمسة أحمر على وجنتها، وسددت غُضناًً غائراًً بالزاهي من الوردي، كي تبدو نضرة مثل أقوالها وأفعالها، وسعت قليلاً من تلك الغمازة، فبدت كأن شفتها تبتسم قليلاً، وخف عن فمها !المزموم، ذلك الجَلد البين ...
نظرت إلى وجه جدتك وهو يشع بالأمل، كأنها تقول
لا تكوني نسختي، ولكن خذي من صبري عبرة، وتصرفي بقلبك، وحافظي على ذلك بعقلك، مثل الحب !نعشق بقلوبنا ونحافظ عليه بعقولنا...
سمعت تكسرات ضحكة حانية، انثالت مثل مطر ناعم من بين شفتي جدتك !
- سأحدثك عن جدك وأبيك، وخذي ما ترينه مناسباً لك ولزمنك.
كان جدك رجلاً صالحاً،لربما اعتبرته من طراز العمالقة الأفذاذ، الذين لا يتكررون، وكان فحلاً، لكنه! ناعم في الحنان الصامت والسري مثل فراش دفئ
!قاسمته الحياة، وتحملت قسوتها وقسوته معها، أيضاً، وكنت لينة ً مثل كلمة طيبة.
لم يُظهر حبه علانية لأحد، معتبراً ذلك نقيصة في الرجال وضعفاً، كأنه نشأ فاقداً نعمة الحب والدفء وهو ليس كذلك لمن يستخرج مكنونه، ويُلمع جواهره
وفى يوم مطيرٍ بارد، جاءني أبوك – وكان بَعدُ طفلاً – يلثغُ بعفوية براءته
! - أريد قفصاً من حديد لأرتديه
كان يجهل أن المعطف هو الذي يدفئ الجسد المرتجف البردان لا القفص الحديد، وظل حتى وفاته يطلب الدفء ولا يجده، أو أنه لم يستشعره أبداً، إذ ظل عند حد الارتعاش الأول الذي حفر جَلداته على جسده! الغض، وروحه البريئة.
وظلت قدماه الصغيران متجمدتين، حتى داخل حذائه، فلم تتسع خطاه، وظل طيلة سنوات عمره يخشى الخطى الواسعة، والجريئة، ففقدت قدماه قدرتهما على النمو، حتى كاد لا يخلع حذاءه أبداً كي لا يكشف! عن قدمي طفل.
أذكر يوماً أنه جاء فزعاً ليناشدني بأن أظل أمه، ويظل ابني، مهما اختلف شكله ...
لا أدري وقتها كيف أصف مشاعري المختلطة، بين البكاء والبسمة المرة، ودهشة السؤال، وتلاشت دهشتي حين أخبرني بأنه انطلق بأحد الحقول وفتن بالورد وخضرة الحشائش وحنو عناقيد العنب السخية، ثم انفجر باكياً، وهو يخبرني أنه أكل - برسيما ً- أليس هو شيء تأكل منه كائنات أخرى، ثم :نأكله نحن بدورنا ؟ (تساءل)، فضحكتُ وأكمل والدك.
... خفت من تبدل الأدوار، فتأكلني كائنات ما، لكنها ستلفظني، إذ ما اعتادت نسيجي، كما البرسيم
توقف لحظة وقد احمرت عيناه، ليكمل بتقطع وشبه تأتأة: (يا أمي أخاف أن أتحول إلى... كائن يسير على أربع أو خمس.
لقد أعجبني طعم البرسيم، يا... أمي !إنه... لذيذ!
احتضنتُ عقلهُ الذي لم استطع مجاراة شطحاته! وأخذته بين ذراعي، مطمئنة إياه بأنني سأحبه ولن أتخلى عنه، مهما تغيرت هيئته، أو شكله، لأنني سأعرفه دائماً من قدميه الصغيرين.
ومازحته: ستبقى ابني الذي أحب، بقدمي طفل! لوهلة شعرت كأن القماشة أمامك تدمع، لامست بأناملك صورة جدتك، فأحسست حرارة نابضة تسيل من عينيها، لم ترسمي دمعة، بل أبقيت الوميض يتحدى الغضون، والأخاديد، وانغمرت معها تسرد: توفى جدك، ولم يستطع والدك إكمال دراسته، فأخذته دوامة ُ الأعمال الحرة، والحرف، وكان ميالاً لتفكيك السيارات وتصليحها، فصارت مهنته، وبجده وصبره تقاسم ورشة شيخ طيب طاعن بالسن، لا ولد له ولا وريث، وقبل أن يقضي، تنازل عن حصته... في الورشة لأبيك، مكافأة لإخلاصه وتفانيه...
وحين تزوج من أمك أنجباك وثلاثة أولاد وبنتين، لكنه عجز أن يكون الأب المتفهم، وظل عصبياً، يرتفع صوته لأدنى مناقشة، ولأتفه سبب، حتى صار مثار تعليق الجيران وقولهم كلما تعارك ( بدأ عبد الوهاب يغنى!) فيضحكون، حتى اعتادت ذلك وصار من يوميات صبرها الجميل !من جانب آخر كان كريماً لدرجة الإسراف، إذ يملأ البيت طعاما ً ومؤونة مواسم ! لكنه كان شحيحاً في الحب لدرجة البخل وأتاح !في المجال للأسرة أن تتربص بعضها ببعض، لأنه ترك حبل المشاكل على غارب الأم والأيام.
العدد 2876 - الأربعاء 21 يوليو 2010م الموافق 08 شعبان 1431هـ