العدد 2876 - الأربعاء 21 يوليو 2010م الموافق 08 شعبان 1431هـ

جعفر حسن يقرأ البنية القـصـصيـة فـي متوالية «الهامات» للحجيري

في أمسية نقدية بأسرة الأدباء والكتاب

أقامت أسرة الأدباء والكتاب أمسية نقدية لقراءة المجموعة القصصية (الهامات) للقاص أحمد الحجيري وقد قدمت خلال الأمسية ثلاث أوراق نقدية أساسية قدمها كل من النقاد جعفر حسن وفهد حسين وزكريا رضي، وقد حضر الأمسية مجموعة من المثقفين والمهتمين والأصدقاء.

في بداية ورقته أشار الناقد جعفر حسن إلى أن القاص أحمد الحجيري حين يكتب متواليته الثلاثية الموسومة بالهامات، فإنه يكتبها ضمن تدفق لغوي رشيق، تكاد لا تحس فيها بالزيادة، بل يترك فراغات في القصة، تلك الفراغات ضرورية لحركة خيال المتلقي الذي يكمل النص في فعل القراءة. لغة تحس فيها تلك المكابدات التي تفصح عن علاقة عميقة بالبنية القصصية، والتي ينهض فيها الحدث فجأة بتوتر الشخصية الهادئة التي تنفجر غضبا ذات نهار، فتكشف عن عورات المجتمع المحيط الذي يقوم في فضاء القرية، وليتقلص الحدث ليشمل فضاء يوم واحد أو يلتوي الزمن لينتقل فجأة إلى ما بعد سنوات ممتدة لكنها غير محدودة، ويتصاعد في فعل التخيل الذي يتحول من صورة فردية إلى متخيل جمعي ليدخل عبود العواد إلى المقدس الأسطوري أو ما يشبهه.


متشابهات المتوالية

ويضيف حسن بأنه يمكننا تلمس الحكاية الإطارية في القص العربي القديم في عملين بارعين من التراث، ولعل تلك الظاهرة قائمة في قصص ألف ليلة وليلة، باعتبارها قصة تسردها شهرزاد، ولكن أبطالها يتحولون إلى رواة ينفذون إلى قصص جديدة تنبثق من القصة ذاتها، وبذلك تتناسل الحكاية عبر انفتاح أطرها. ولعل اقرب الأشكال لتوالي القصة القصيرة بالرغم من اختلاف الآراء حولها من امتلاكها لمقومات القصة القصيرة أو كونها نوعاً سردياً مستقلاً بذاته، يمكننا النظر إلى مقامات بديع الزمان الهمداني وغيره ممن كتبوا نسجا على منواله في نمط المقامات، ولعل من سمات المقامات أن لها راوياً واحداً وبطلاً واحداً بالمقابل، بينما يتعدد الحدث عبر مسيرة السلسلة من القصص القصيرة التامة حينا والبعيدة عن ذلك حينا آخر بتغير زمانها ومكانها واختلاف مواقفها، ويبدو أن الحدث فيها ينمو عبر فعل الكدية بالحيلة اللطيفة التي تعتمد على اللغة وفنونها التي يتقنها البطل ليصل إلى ما يصبو إليه، بينما تبدأ بحدثنا فلان.

ونجد أن متوالية أحمد الحجيري تقوم على راو واحد هو راو عليم مخبأ بحنكة القاص في ثنايا اللغة، فرغم أننا لا نتعرف عليه إلا من خلال اللغة التي يظهر فيها بصفته متكلما حين يقول: «وما أكثر ما يهز الناس رؤوسهم في قريتنا» ويظهر الراوي في (نا) المتكلمين التي تجعله من سكان القرية، وبالتالي يظهر الراوي العليم الذي يصف الأحداث ولا يشارك فيها، وهو ذات الراوي في المتوالية إذ ينتقل من قصة إلى قصة بصفته كذلك، ولكن لنا أن نتساءل حول تدخل الراوي العليم في الحدث إذ يحاول إيصال رسالة ما للمتلقي من خلال تدخله، على الرغم من أننا وصفنا الراوي بأنه يصف الحدث ولا يتدخل فيه مثل:

«عندما رفعت المسكينة رأسها وقد بغتت بهذا النعت الجارح تابع تهكمه:

- أنت يا أم قبيح .. إذا سمحت لي .. أنت بقرة لا .. أنت بقرة عجوز ...

نكست أم جميل المصدومة رأسها كأنها لا تريد أن تصدق ما تسمع»

بينما الراوي هنا يتدخل ليصف أم جميل بأنها مسكينة عندما نعتها عبود العواد بأم قبيح ووصفها بالبقرة العجوز، وبالتالي لم يترك للمتلقي أن يتخذ موقفا من سباب عبود العواد لأم جميل، وهل يقفز هنا الموقف نحو استعطاف المتلقي ليفكر في حالة أم جميل أم أنه مجرد تدخل ناتج عن تصور مسبق لحالة المرأة في البلاد العربية، تلك المرأة المكسورة والمضطهدة تعمل في البيت وخارجه بينما يتربع بعض الأزواج على أريكة الراحة؟


كذلك يتدخل الراوي في الحدث عندما يقول:

«انبرت امرأة عجوز شمطاء كان يقال عنها منذ أمد بعيد بأنها تبيح للرجال فاكهة جسدها ينهشون منها حيثما يشاءون معلنة – وهي كاذبة في إعلانها – بأن الميت كان أحد عشاقها فيما سلف» وهو تدخل من الراوي العليم في الموقف، بينما يتضح موقفه من سياق القصة التي لا تشير إلى علاقة فاحشة بين عبود العواد والمرأة البغي، وبالتالي ما قيمة أن يقول الراوي ذلك مرة أخرى لتكذيب تلك التأويلات، وهل هو موقف مسبق ينساق مع تصور شخصية عبود العواد؟ هل هناك مبرر فني لتدخل الراوي هنا، وهل كونه راوياً عليماً يتناقض مع فعل التدخل المباشر الذي رأيناه في القصة؟ وهل يمكن للتأويل هنا أن يسعفنا في الوقوف مع ذلك التدخل للراوي؟

ونتعرف في الثلاثية على الشخصية المهيمنة داخلها والمتمثلة في عبود العواد، وثبات الشخصية من سمات المقامات كما سبق أن أشرنا، وذلك بالرغم من تعدد الشخوص التي ينالها فعل عبود العواد، كما أن الموضوع الثالث الذي تتشابه فيه المتوالية مع المقامة كونها تدور على حدث واحد هو ثورة عبود العواد، وتستثمر تلك الثورة لصالح البناء الفني في القص.


طيف الحدث

تبقى الثلاثية تبني الحدث حول ثورة عبود العواد المباغتة واختفائه فجأة من المشهد وعودته بعد أن يترك جراحا غائرة في نفوس أهل القرية إذ يكشف تناقضها ويفضحها أخلاقيا وسلوكيا في حياة القرية.

ويضيف حسن بينما تقوم بنية الحدث في القصة الأولى على ذلك التحين لتلك اللحظة الحاسمة التي يشعر فيها الشخوص بقوتها ليرميها عبود العواد بالحقيقة المرة التي تظهر في السياق باعتبارها حالة من السخرية اللاذعة، وتلك السخرية هو ما يجعل المتلقي يتعاطف مع دور عبود العواد، فينحاز أخلاقيا ضد تلك الشخوص التي يفضحها عبود، والتي يشعر المتلقي فيها بالأمان وهو يمر بتجاربهم المرة مع ثورة عبود العواد وتوزيعه البصاق على الجميع حتى لا يسلم منه الإيجار الذي يتركه لصاحب الحجرة التي يصفها الراوي بأنها قن للدجاج.

بينما يقوم الحدث في القصة الثانية ويتنامى من خلال عودة عبود العواد بشكل مفاجئ ليوم واحد كما رحل بشكل مفاجئ، والراوي هنا يستثمر معرفة قائمة في ذهن المتلقي عن عبود العواد وما فعله في القصة الأولى، بينما لا ينفك يذكرنا بذلك الحدث السابق ويظهر على شكل ذاكرة عند الشخوص، ولعل ذلك يشي بتسلسل القصة من حيث الاعتمادية على الحدث السابق لكل قصة من الثلاثية.

تلك التأويلات يخترقها فعل عبود العواد في مدح من يمشي منتصبا وتوزيعه لزهور الفل عليهم ونهر من ليس كذلك، ومنعه الأم من تخليص ابنها من بين براثن رجل قاس حتى يقوم الابن بتخليص نفسه عبر عض يد المعتدي كما توحي القصة ورقص عبود العواد وتحوله لطفل صغير، وتصوير الطفل المأخوذ للشمس على أنها رغيف خبز طازج، بينما يتواصل الحدث عبر صفير عبود العواد ونفخه في قيثارته وإطلاقه لألحان عجيبة جعلت الكل يتراقص بدخول حمى الرقص لكل البيوت.

ويتطور الحدث من خلال سرد يرتكز على مقول أهل القرية الذين بدأوا بتأويل عودة عبود لصالح جبر كرامتهم المهدورة جراء كشفه لعيوبهم، ويدخل شيئا فشيئا في التعالي نحو صورة عجائبية لرجل لا يعرفه أهل القرية، كما يوحي صمته الذي سقط في القصة الأولى، ويرتقي السرد بعبود العواد في القصة الثانية نحو عوالم متعالية عن صورة البشر، وبهذا يمهد الراوي للحدث الذي سيدخل عبود العواد في الرؤية الأسطورية في نهاية الثلاثية.

«ولكن أسراب فراشاته وتهويمات يمامه التي خلفها وراءه .. تأتي القرية كل مساء لتفرش أسرة الأطفال وتهدهدهم .. تأتي مرفرفة في أحلام الكبار .. ومعها تأتي من البعيد أصداء لحون لم يعزف مثلها قط .. ولكنها تقترب .. بلا شك»

تلك العجائبية التي تنمو في تفسيرات أهل القرية وتتصاعد في أرواحهم التي تطلب الخلاص من خلال إعادة تأويل الحدث لصالح الغفران المختبئ وراء الضمير المثقل بالذنوب الذي كشف عنه عبود العواد في ذات انفجار مفاجئ في القصة الأولى، تلك الحالة تتصاعد من الخوف منه في القصة الأولى (الهامات) إلى الرجاء الذي أعاد تأويل عودته لتخيل تصالحهم معه في القصة الثانية (اعتدال الهامات)، لينمو إلى حالة التقديس في القصة الثالثة (قبر الغريب).

يوغل الراوي في تصويره لهذه العجائبية التي انطلقت من عودة عبود العواد من غيابه المفاجئ الذي يشبه حضوره المفاجئ في القصة الثانية ليواصل ذلك الفعل ويستثمره في القصة الثالثة «قبر الغريب» حتى يتحول عبود العواد إلى شخصية خرافية أو مخلوق هلامي آت من عالم آخر، أو انه آدمي بأجنحة متقصفة، أو جذع متصالب كالنخلة بما يجعله مختلفا عن زمر القرية.

كما يبدأ الحدث بتساؤلات عبود العواد المتأمل لحال القرية التي صارت ترهقها غبرة، وعبر مجموعة من الأسئلة التي ينطلق بها ليصور حال أهل القرية التي شب صبيتها قبل الأوان، بينما يموت العواد عند سدرة قرب بيت امرأة عجوز يحكى عنها أنها كانت تهب الرجال فاكهة جسدها وتتركهم ينهشون منها حيثما يشاءون، فيدفن هناك ويتحول قبره لمزار موشى بالخضرة.

ولعل ظهور الشجرة التي مات عبود العواد إلى جانبها مضطجعا يدفعنا للتأمل في طبيعة الثقافة العربية وما تختزنه من قداسة ترتبط بالشجرة وتتناسل من شجرة طوبى في الإسراء والمعراج إلى الشجرة التي يبايع المسلمون الرسول تحتها حتى الشجرة التي اختبأ في داخلها النبي إلى الأشجار المقدسة لأسباب عديدة كما نجدها في قصة الاسدية عند حسين المحروس في مجموعته ضريح الماء حتى الأشجار العادية التي تدخل في القداسة بمنع الأمهات أطفالهن من اقتلاع شتلاتها.

بينما يتنامى الحدث عبر إصرار المرأة المشكوك في ممارستها للعهر على دفنه إلى جانب بيتها إذ يرفض أهل القرية دفنه في مقبرتهم وذلك لاختلافه عنهم، ولعلنا نفهم كنه ذلك الاختلاف من خلال ثور عبود العواد وكشفه لعورات مجتمع القرية، ليصل بالحدث إلى حده الأقصى عبر تصوير قبره كقبر الأولياء الذين تزار قبورهم ويرتفع فعل المعرفة بعبود العواد إلى مصاف العلماء الجهابذة ذوي الكرامات، وترتفع المرأة لتصبح فاضلة بصورة مفاجئة تنبئ بتأويل الحدث الذي يقوم في ذهنية أهل القرية باعتباره تاريخا يفهم، «أما خطبه مؤرخ مرّ بقبر الغريب» رأيت في أقصى هذه القرية عندما مررت بها قبراً مهيباً تعلوه قبة ذهبية عجيبة وحوله الناس قياماً وقعوداً لا تكاد تجد لك منفذا لتلامس القبر للتبرك به من شدة الزحام، وقد رأيت فيما رأيت هامات الأكابر والأصاغر تخرّ له سجداً .. ويقوم على خدمة الضريح أحفاد امرأة فاضلة كانت تجترح الأعاجيب في عصرها، ويقال بأن المقام يضم جسد علامة جهبذ، وإن من كرامات صاحب المقام أن المرأة العاقر عند زيارتها لضريحه يفرج الله عنها في الحال، وان الرجل العاطل عن العمل لا يكاد يغادر عتبات القبر حتى تنهال عليه عروض العمل من كل حدب وصوب، وإن مشاكل كل الخلق تنحل عقدها بمجرد الدعاء عند قدم الضريح .. هذا ما سمعته ولمست بعض مظاهره، والله أعلم».


إحكام الرتاج

ينتقل الحدث في الثلاثية المتتابعة عن عبود العواد من حالة الثورة إلى البشر الذي ينفثه عبود العواد بعزفه على القيثارة التي أخرجها من بين ضلوعه، وعادة ما يخرج الإنسان القيثارة من مكان ما في ثيابه التي لا يمكننا تصور أنها تسع قيثارة، وبالتالي نبدأ في التساؤل عن كنه تلك القيثارة، وخصوصا عندما يصفر شخص ما في داخل القيثارة، وبالتالي لم تكن تلك قيثارة بالمعنى الحرفي وإنما دخلت في سطوة المجاز فنسمع الراوي يقول في (اعتدال الهامات):

«وأخرج من بين ضلوعه قيثارة عجيبة وراح يصفر في داخلها فتخرج ألحانا لم يسمع أحد بمثلها قط، وبدأ الرقص .. رقص الجميع» بينما يتخلى عبود العواد عن قيثارته التي اختطفها الصبية حين تستطيل القصة نحو نهايتها فيقول الراوي على لسان أحد من شهد ذلك اليوم:


«لم يذد عنه الأطفال وهم يتخاطفون قيثارته»

ولعل ما يثير الدهشة هو الإشارة إلى حدث جديد في القصة الثالثة (قبر الغريب) لم تشر إليه القصص السابقة بالرغم من أنه يوحي بأنه حدث في الماضي وبالتالي يكون من الضروري أنه شمل في القصص السابقة ولكننا لا نجده فيها وذلك عندما يقول الراوي:

«لم تتناثر الفراشات في طريقه كما حدث في المرة السابقة ولم يأته رجع نايه الذي أهداه مرة إلى طفل كانت عينه بسعة ساحة القرية» ذلك الحدث المرتد إلى القصة الثانية التي تشير إلى القيثارة ولكنها لم تشر إلى الناي وبالتالي نبدأ في التساؤل عن تلك القيثارة التي صفر داخلها عبود العواد هل هي ذات الناي الذي أهداه لطفل ما؟ بينما تشير القصة إلى اختطاف الأطفال للقيثارة وليس الناي، أم هي إشارة إلى حالة سحرية تتواصل مع القيثارة العجيبة التي جعلت كل أهل الحي يتراقصون مرحا؟

العدد 2876 - الأربعاء 21 يوليو 2010م الموافق 08 شعبان 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً