العدد 2876 - الأربعاء 21 يوليو 2010م الموافق 08 شعبان 1431هـ

دلمون المتأخرة ولغز الاستيطان

تحدثنا في فصل سابق عن فجوة تاريخية وانقطاع حضاري في البحرين ما بين حقبة باربار والحقبة الكاشية إلا أنها فجوة تاريخية بسيطة نسبياً إذا ما قورنت بالفجوة التاريخية التي أعقبت الحقبة الكاشية وهي الحقبة الممتدة ما بين (1240 ق. م. - 709 ق.م.)، حيث إنها تميزت بصمت عن ذكر اسم دلمون في النقوشات الفراتية بالإضافة إلى عدم تمكن البعثة الدنماركية من العثور على دليل آثاري بوجود حقبة تاريخية في هذه الحقبة مما جعل الآثاريين يعتقدون مدة طويلة أن توالي الاستيطان والإعمار في البحرين انقطع بعد انتهاء الفترة الكاشية ولم يستأنف حتى عودة اسم دلمون إلى الظهور في النقوشات الفراتية، مدللة على أن دلمون أصبحت ضمن نطاق سلطة الامبراطورية الآشورية الجديدة. في الواقع لم يثبت وجود هذه الفترة الممتدة على 500 سنة تقريبا في أي مكان في التنقيبات الدنماركية في القلعة واستمر الحال كذلك حتى مجيء البعثة الفرنسية بين 1979م و1982م. وقد حفرت البعثة الفرنسية أربعة خنادق أو حفر تنقيب توضح التسلسل الزمني للفترة بعد الكاشية.


نتائج البعثة الفرنسية

نشرت البعثة الفرنسية العام 1987م نتائج تحليلاتها على الفخار الذي عثرت عليه في موقع قلعة البحرين والذي ينتمي للحقبة بعد الكاشية وبالتحديد الحقبة (1240 ق. م. - 709 ق.م.) وذلك في بحث ترجمة عنوانه «لغز الاستيطان على جزر البحرين بين القرنين الثالث عشر والثامن قبل الميلاد» (The Occupational Enigma of Bahrain Between. the 13th and the 8th Century B.C). وقد تم تقسيم الفخار الذي عثر عليه إلى مجموعتين رئيسيتين، المجموعة الأولى عبارة عن فخار قرنفلي ضارب إلى الحمرة مزجت عجينته بحبيبات أملاح معدنية ويتخذ أشكالاً مختلفة، منها جرار ضخمة مستديرة الحافة، وطاسات حافتها بسيطة أو مقلوبة، وجرار تخزين قاعدتها طوربيدية (أي مدببة)، وقد عثر على فخار موازٍ لهذا النوع من الفخار بين فخار فيلكا الذي يعود للحقبة (1400 ق. م. – 1300 ق. م.) وكذلك ضمن فخار سوسة الذي يعود للحقبة(1200 ق. م. – 800 ق. م.). أما المجموعة الثانية والتي تعتبر أكثر شيوعاً من الأولى فتضم فخاراً غالباً ما تكون عجينته مزجت بالنباتات (القش) (straw-tempered wares) وفي حالات قليلة تكون عجينته مزجت بالرمل الناعم، ويوجد من هذا الفخار أشكال مختلفة وكذلك ألوان مختلفة فمنه البرتقالي والأصفر والأخضر. والعديد من فخار هذه المجموعة لم يعثر له على فخار موازٍ له (بمعنى أنه تم تطوير هذا النوع من الفخار محلياً)، إلا أن بعض أشكال هذه المجموعة من الفخار عثر عليه ضمن فخار فيلكا وسوسة التي تعود للحقب السابقة الذكر. وبعض أشكال هذه المجموعة من الفخار له فخار موازٍ عثر عليه في جنوب الجزيرة العربية على الأخص في هجر بن حميد في وادي بيحان في اليمن وهو مقر مملكة قتبان وكذلك في نجران الأخدود قرب حدود اليمن الشمالية والمملكة العربية السعودية. يذكر أن نوعاً من هذا الفخار عثر على شبيه له في قرية جنوسان أيضاً والذي تم تصنيفه سابقاً ضمن فخار الحقبة البابلية الجديدة وربما يجب إعادة تحديد حقبة زمنية مغايرة له في ضوء هذه النتائج.


لغز الاستيطان بعد الحقبة الكاشية

تم وضع سيناريو محتمل للغز الاستيطان بعد الحقبة الكاشية من قبل مونيك كيرفران وآخرين في البحث الذي سبق ذكره (أي بحث لغز الاستيطان). يبدأ السيناريو بسقوط الكاشيين الذي بدأ في جزر البحرين قرابة 1200 ق. م. أعقب ذلك سقوط الكاشيين في شرق الجزيرة العربية وفيلكا. بعد ذلك وبالتحديد في العام 1158 ق. م. انتهى حكم الكاشيين في بابل.

في جزر البحرين وبالتحديد في موقع قلعة البحرين بقيت جماعة صغيرة تصنع الفخار الكاشي حتى بعد انتهاء السيطرة الكاشية، إلا أن هناك سيادة لأنواع أخرى من الفخار الذي سبق الإشارة إليه وهو الفخار الذي مزجت طينته بالنباتات أو القش وهي ميزة تميز بها نوع من الفخار عثر عليه في مناطق مختلفة في شبه الجزيرة العربية. يذكر أن بلاد الرافدين ومنذ القرن الحادي عشر وصلت لها جماعات رعوية من الآراميين والكلدانيين الذين يعتقد أنهم جاؤوا من شبه الجزيرة العربية وربما كانوا يتحركون على ساحل الخليج العربي وصولاً لبلاد بابل وآشور.

ويحتمل أن يكون انهيار السلطة الكاشية قد أعقبه تدريجاً تسلل جماعات رعوية من منطقة الصحراء العربية الشمالية بما فيها الآراميون والكلدانيون لكل من جزر البحرين وشرق الجزيرة العربية وبلاد بابل. وهناك من يعتقد أن تلك الجماعات الرعوية ربما تكون أنهت حكم الكاشيين في جزر البحرين وخصوصاً ان هناك نقوشات توضح وجود قبائل تسمى الأحلامو تعيق التجارة بين دلمون وبلاد الرافدين.


أحداث عنق الزجاجة

تميزت الحقبة بعد الكاشية أو ما عرفت بفترة «لغز الاستيطان» بأفول اقتصادي وكذلك حضاري، حيث يعتقد أنه لم يبنَ مبنى رسمي لسلطة سياسية معينة وبقيت أطلال المدينة الثالثة التي تعرضت لحريق لا تعرف أسبابه في نهاية الحقبة الكاشية، بالإضافة لذلك هناك عدد قليل من مواطن الاستيطان التي تم تحديدها وتعود لهذه الحقبة. كل هذه المعطيات تلمح لوجود تقلص سكاني في جزيرة البحرين في تلك الحقبة. لقد تطرقنا في جزء «بناء النموذج» إلى أن هناك ظروفاً أخرى ساهمت مع الظروف الاقتصادية لهذا التقلص السكاني ويطلق على جميع هذه الظروف في علم وراثة الشعوب مصطلح «أحداث عنق الزجاجة». ومعنى ذلك أن الأعداد الغفيرة من السكان تعرضت لمجموعة من الأحداث على فترة معينة من الزمن طويلة نسبياً أدت لتقليص أعداد السكان وكذلك لغربلتها جينياً بمعنى أن هذه الأعداد الأقل من السكان تحمل عوامل وراثية معينة تجعلها أكثر تكيفاً مع البيئة المحلية. تلك الأحداث أدت لانصهار السكان مع بعض ليكونوا جماعة أقل عدداً من السابق لكن أكثر تجانساً. ويمكننا تلخيص تلك الأحداث أي أحداث عنق الزجاجة في ثلاثة أحداث رئيسية: أحداث اقتصادية، وأحداث بيئية (التغير في مستوى البحر وتقلص الموارد المائية)، وأحداث لها علاقة بالتكيف الجيني - البيئي وبالتحديد لها علاقة بمرض فقر الدم المنجلي والملاريا. وهنا يمكن الرجوع لجزء «بناء النموذج» حيث تناولنا فيه هذه الأحداث بالتفصيل.


الحقبة الآشورية والخروج من عنق الزجاجة

في هذه الفترة عاد اسم دلمون للظهور مرة أخرى ومن المرجح أن دلمون في هذه الفترة هي جزيرة البحرين، وورد في النقوشات التي عثر عليها في حضارة بين النهرين أن دلمون في هذه الفترة قد خضعت لدولة بابل الجديدة، وكان ذلك في فترة حكم سارجون الثالث الذي حارب الآراميين والكلدانيين وهزمهم قرابة العام 710 ق. م. وقد وثقت هذه المعركة في نقوش وورد في تلك النقوش ذكر حادثة إخضاع أوبيري ملك دلمون (التي يعتقد أنها في هذا التاريخ هي جزر البحرين) والذي خوفا من جبروت وعظمة سارجون الثالث ارسل له هدايا عديدة:

«أما أوبيري ملك دلمون الذي يعيش (حرفياً: الذي يقع معسكره) كالسمكة على بعد ثلاثين بيرو بعيداً في وسط بحر الشمس الشارقة فقد وصلته أخبار بأسي سماعاً، فحمل إلي هداياه».

وتتزامن فترة سيطرة آشور الجديدة على دلمون أو جزر البحرين بظهور لقى أثرية تحمل هوية آشور الجديدة مما يؤكد عملية السيطرة السياسية لتلك البلاد على جزر البحرين. ويعتقد انه بسيطرة بلاد آشور الجديدة على دلمون أو جزر البحرين قد حدث توسع حضاري واقتصادي في المنطقة حيث يعتقد أنه في هذه الفترة تم بناء مدينة دلمون الرابعة في موقع القلعة. إلا انه بالرغم من ذلك، لم تعد جزيرة البحرين في هذه الفترة ملتقى الطرق الدولية العظيمة كما كانت في العصور السابقة، وهكذا بقيت خلال القرن الثامن قبل الميلاد.


المدينة الرابعة

لا يوجد تاريخ محدد لبناء المدينة الرابعة في موقع قلعة البحرين ولكن يعتقد أنها بنيت قرابة 700 ق.م أي بعد ظهور اسم دلمون في النقش السرجوني السابق. ويعتقد أن المدينة بنيت على فترات بدأت أولاً ببناء مباني السكن والتي أسمتها البعثة الفرنسية (المدينة الرابعة أ) (IVa) الذي بني في نهاية حقبة الدولة الآشورية الجديدة. وعندما سيطرت الدولة البابلية الجديدة على جنوب بلاد الرافدين قامت بضم جزر البحرين لها، حيث ظهر اسم دلمون في النقوشات التي تعود لبلاد بابل الجديدة، وفي قرابة نهاية حقبة الدولة البابلية الجديدة في البحرين تم إضافة معبد في المدينة الرابعة وهو ما عرف بالمدينة الرابعة بـ (IVb). بعد العام 544 ق. م. عندما سيطر الفرس الأخمينيون على بلاد وادي الرافدين وامتدت سيطرتهم على جزر البحرين لم يظهر اسم دلمون، ولكن التأثيرات الأخمينية بدت ظاهرة في اللقى الأثرية التي عثر عليها في المدينة الرابعة والتي تتزامن مع السيطرة الأخمينية على بلاد الرافدين. وقد أطلق على الطبقات الآثارية في قلعة البحرين والتي تعود للحقبة الأخمينية بالمدينة الرابعة ج (IVc) والمدينة الرابعة د (IVd).


الحقبة الأخمينية والتوسع الزراعي

تميزت الحقبة الأخمينية سواء في إيران أوبلاد الرافدين أو الجزيرة العربية بتطور زراعي ملحوظ وذلك بسبب انتشار تقنية نقل الماء بالقنوات التحت أرضية أو الأفلاج. ويرجح لايتفوت (Lightfoot 2000) في بحثه عن تاريخ قنوات الري في الجزيرة العربية وما حولها الأصل الفارسي لهذه القنوات، حيث صمم الفرس تقنية الري التحت أرضية في وقت ما بين القرن العاشر والثامن قبل الميلاد، وأثناء السيطرة الأخمينية (559 – 330 ق. م.) بنى الفرس قنوات خلال معظم مملكتهم. الأدلة التاريخية والأركيولوجية ترجح أنه خلال هذه الفترة (أي الأخمينية) تم إدخال نظام القنوات في حضارة بين النهرين، وسوريا والأردن وفلسطين ومصر. وقد استخدم الفرس الأخمينيون نظام القنوات ليوفروا المياه لواحة خارقة المصرية قرابة 525 ق. م. وقد عثر على قطع فخار فارسية قديمة في قنوات في وادي القرافة في فلسطين مما يرجح أنها بنيت أثناء الحكم الفارسي لهذه الأراضي (537 – 332 ق. م.). وقد سيطرت الامبراطورية الأخمينية على بابل ومابين النهرين بعد 537 ق. م. وفي قرابة هذا الوقت أيضا تم ضم سورية كإقليم تابع للامبراطورية الأخمينية.

في عمان والإمارات قد يكون دخول تقنية القنوات التحت أرضية سابقاً للحقبة الأخمينية حيث وجد ضمن مواقع أثرية تعود لحقبة عصر الحديد الثاني ولكنها انتشرت في سنوات لاحقة. الغريب في كل ذلك عدم معرفة دخول هذه التقنية للبحرين وهذا ما سنحاول أن نلقي عليه الضوء هنا.


الخصوبة وتقليد تقديس الأفعى

ظهر في مواقع مختلفة في عمان والإمارات آثار تدل على تقديس الأفعى تعود لحقبة عصر الحديد الثاني متزامنة مع ظهور نظام الأفلاج في تلك المناطق، وقد وضعت عدة نظريات لأصل هذا التقليد الذي يبدو انه انتشر بصورة واسعة في شبه الجزيرة العربية والشرق الأوسط وإيران (Potts 2007، Benoist 2007). ويعتقد Benoist أنه أياً كان اصل هذا التقليد الذي ربما كان قادماً من إيران فإنه من المتفق عليه في تلك الثقافات التي انتشر فيها أن الأفعى تشير إلى الخصوبة وانتشار هذا التقليد متزامناً مع ظهور نظام الأفلاج في شبه الجزيرة العمانية يبدو أمراً طبيعياً بسبب زيادة الرقعة الزراعية وانتشار «الخصوبة» بسبب انتشار نظام الأفلاج (Benoist 2007).

في البحرين عثر في المدينة الرابعة على العديد من الأواني الفخارية التي وضعت بها أفعى ودفنت في أماكن مختلفة في المدينة الرابعة، وبالتحديد في الطبقات الآثارية المسماة المدينة الرابعة ج (IVc) والمدينة الرابعة د (IVd) أي التي تعود للحقبة الأخمينية (Potts 2007).

يرجح الباحثون أن القنوات التحت أرضية في البحرين والتي تعارفت عليها العامة باسم «الفقب» أي الثقب ظهرت في الحقبة الساسانية (Lightfoot 2000) أي بعد أكثر من 800 سنة من ظهورها وانتشارها في الحقبة الأخمينية. وبحسب تلك البحوث انه لا يوجد أي دليل آثاري يدل على تاريخ بناء تلك القنوات في البحرين. السؤال المطروح هنا: لماذا انتشر الفخار الأخميني في البحرين وانتشر معه تقليد تقديس الحية الذي انتشر مع الدولة الأخمينية والذي يعتقد أنه يدل على الخصوبة وانتشاره يدل على انتشار الخصوبة، ومع ذلك لم تنتشر معها تقنية نظام الأفلاج إلى البحرين؟ أضف لذلك أن الحقبة الأخمينية تعتبر حقبة بداية التوسع في البحرين وقد شهدت الحقبة التي تلتها أي الحقبة الهلنستية توسعاً كبيراً في مواقع الاستيطان.

العدد 2876 - الأربعاء 21 يوليو 2010م الموافق 08 شعبان 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً