بعد الزيارة الناجحة التي قام بها رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري إلى دمشق وتوقيعه والوفد الحكومي المرافق 17 اتفاقاً ومذكرة تفاهم بين البلدين، بات من الممكن القول إن العلاقات السورية – اللبنانية دخلت في طور تعدد المسارات. فالمرحلة الجديدة التي تأسست على قاعدة دولة تفاوض دولة لا تعني بالضرورة أن ملامح وفضاءات وظلال المرحلة السابقة انتهت ولا عودة لها.
بقايا المرحلة القديمة يرجح أن تستمر تفعل فعلها الميداني إلى مدى بعيد وذلك يعود لأسباب مختلفة تتصل بالجغرافيا والتاريخ وتداخل معابر الحدود وتشابك المصالح ومصادر المياه وتجاور العائلات واختلاف طبيعة السلطتين واقتصاد النظامين. كل هذه التشابهات والاختلافات ستبقى تلعب دورها في تعديل التوجهات الرسمية ما سيكون له تأثيره الدائم على إعادة تشكيل خريطة الاتصالات والعلاقات المتبادلة والمحكومة بشروط المعادلة الإقليمية والضمانات الدولية.
الثنائية السورية – اللبنانية لا يمكن فصلها موضوعياً. كذلك أظهرت الوقائع التاريخية، وتحديداً منذ دخول الجيش السوري لبنان في العام 1976، أن هناك صعوبات ذاتية في توحيدها أو دمجها بسبب نمو قوة الدولة القطرية (الكيانية) وما تمثله من مقومات خاصة تتصل بالاقتصاد وصلته بالسوق وآلياتها وبالسلطة وطبيعة تكوينها السياسي المرن. اختلاف النموذج يشكل نقطة مركزية في تأخير التقارب الثنائي ومنع تطور العلاقات باتجاه الوحدة أو الدمج. وهذا الاختلاف بين السلطتين شكل على مدار العقود الأربعة الأخيرة ذلك الهامش المستقل الذي تحول في لحظات إلى فاصل ارتسمت في إطاره كل عناصر التوتر والتباعد والمخاوف المتبادلة.
الجانب اللبناني في رؤيته للعلاقة التاريخية – الجغرافية مع سورية ليس موحداً تقليدياً. الطوائف المسلمة كان لا مانع لديها من توحيد الدولتين في إطار رؤية عربية شاملة. والطوائف المسيحية في مجملها كانت حذرة من التعاطي مع هذا الاحتمال وتميل عموماً نحو ترجيح مفهوم التنسيق الذي يضبط العلاقات في دائرة قانونية محكومة بالمصلحة المشتركة وآليات السوق والتجارة ومنظومة التبادل.
هذا الانقسام التقليدي بين الطوائف المسلمة والمسيحية على ترتيب العلاقة الجوارية مع دمشق دخلت عليه تعديلات معتبرة منذ صدور القرار الدولي 1559 وما أعقبه من اغتيالات وتفجيرات وحروب واعتداءات انتهت بصدور القرار 1701 الذي يضبط الحدود الأمنية مع «إسرائيل» ويطالب بترسيم الحدود السياسية مع سورية ومراقبة معابر الخروج والدخول. الطوائف المسلمة الآن لم تعد متحمسة على الوحدة والاندماج كذلك الطوائف المسيحية لم تعد متخوفة من ذلك الاحتمال.
الزيارات الناجحة التي قام بها الحريري الابن بعد توليه رئاسة الحكومة تمت تحت سقف معادلة دولية تشرف على إدارتها سلسلة قرارات صدرت عن مجلس الأمن معطوفة على متغيرات نسبية طرأت على المنظومة الإقليمية العربية وما أنتجته من تقارب ثنائي مدروس بين الرياض ودمشق. وأدى هذا التحول الذي تأسس على قاعدة خروج الجيش السوري من لبنان بعد اغتيال رفيق الحريري في مطلع العام 2005 إلى إنتاج حيثيات ميدانية أخذت تفرض خريطتها السياسية على التوازنات المحلية في بلاد الأرز وما تمثله من امتدادات أهلية (طائفية – مذهبية) على المستوى الإقليمي.
هذه التوازنات التي أعيد تشكيلها في انتخابات العام 2009 أعطت صورة متوازنة نسبياً في معادلة القوة الأهلية بين مجموعات 8 آذار و14 آذار حين تبين أن سورية ليست ضعيفة ولكنها في الآن غير قادرة على امتلاك الأدوات الكافية لترجيح كفتها. فالانتخابات أعطت 14 آذار غالبية نسبية ولكنها تحتاج إلى التفاهم مع قوى 8 آذار حتى تستطيع منع بلاد الأرز من الانزلاق نحو أزمة متدحرجة في مرحلة لا تزال التهديدات الإسرائيلية تهدد الجميع بالاجتياح.
عوامل موضوعية وذاتية ساهمت في تعديل خريطة التوازنات في توجهات القوى السياسية المحلية في لبنان إلا أن تلك التصويبات لم يكن بإمكانها أن تخرج على المسرح لو لم ترافقها تحولات دولية وإقليمية طرأت على المنطقة العربية وساحات الجوار بسبب هزيمة تيار المحافظين الجدد في انتخابات الرئاسة الأميركية في خريف 2008 وخروجه من البيت الأبيض في شتاء 2009.
كل هذه الطوارئ ساهمت في تشكيل قناعات عند الطوائف المسيحية والمسلمة أخذت تدفع باتجاه تصحيح العلاقات مع سورية ونقلها من عتبة «الشقيقة» إلى درجة «الدولة» حتى لا ينهار النموذج اللبناني ويتفكك إلى جمهوريات مذاهب ومناطق. كذلك نشأ تطور سياسي مهم في الجانب السوري حين أخذت السلطة تعدل خطابها الإيديولوجي التقليدي وتحدث لغته القديمة باتجاه التعامل مع لبنان بوصفه دولة مستقلة وليس مجرد محافظات سلختها فرنسا عن سورية في العام 1920.
التعديل الذي طرأ على الخطاب السوري في رؤيته للكيان اللبناني يمكن أن يتراجع أو يتقدم ولكن الوقائع الميدانية المشروطة بالرقابة الدولية والضمانات الإقليمية تبدو حتى الآن هي الأقوى في معادلة التوازن الثنائي بين البلدين وهو الأمر الذي ظهر في الزيارات الناجحة وتوقيع 17 اتفاقاً شملت بنودها الملاحة البحرية والتجارية وتبادل المنتجات الصيدلانية وحماية المستهلك والعدل ومكافحة المخدرات والزراعة والصحة الحيوانية والتربية والتعليم الفني والمهني والسياحة والاستثمارات والازدواج الضريبي والتعاون الثقافي والمجال البيئي.
الاتفاقات مهمة وتعتبر خطوة نوعية في تحسين العلاقة «الأخوية» بين الدولتين، ولكنها في النهاية لا تشتمل على النقاط الخطرة والحساسة وهي المياه والدفاع وترسيم الحدود. فهذه الملفات الساخنة تم تأجيل بحثها إلى مرحلة لاحقة حتى تأخذ وقتها في التفاوض والتدقيق بأوراقها.
التأجيل للدراسة والتمحيص والتدقيق مسألة ضرورية حتى يأخذ كل طرف حقه. إلا أن تطويل المدة في ظروف تشهد المنطقة خلالها متغيرات دولية قد تطرأ على المعادلة الإقليمية مسألة تحتاج إلى مراجعة خوفاً من أن تنتكس علاقات دولة مع دولة لتدخل في مسارات متنوعة ومختلفة منها الرسمي والشرعي والقانوني ومنها قنوات الأخوة الأهلية وما تمثله من تجاوزات واختراقات سياسية تتصل بملامح وفضاءات وظلال مرحلة سابقة.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2875 - الثلثاء 20 يوليو 2010م الموافق 07 شعبان 1431هـ