العدد 2873 - الأحد 18 يوليو 2010م الموافق 05 شعبان 1431هـ

عِبَادَةُ الأصْنَامِ فِي عالمنا العربي!

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

يُخطِئ من يعتقد أن عبادة الأصنام في عالمنا العربي هي عادة متروكة. ويُخطئ من يعتقد أن تلك العبادة «الوثنيّة» قائمة (حصراً) على الوقوف والركوع والسجود لمصنوع من خشب السّوحر، أو لصَنمٍ من الحجارة أو حتى من عقيق أحمر كهُبَلٍ. بل هي أبعد من ذلك بكثير.

تُعبَد الأفكار وتُؤلّه، فتُدار على رحاها حروب ليس لها أوزار لكي تُوضَع. وتُعبَد الأمكنة حتى تُصار إلى أودية مُقدّسة تتشبّه بأخرى طاهرة فيُنادَى بها «فَاخْلَعْ نَعْلَيْك إنَّك بالْوَاد الْمُقَدَّس طُوًى» حتى تتحوّل إلى مُلْكٍ عضوض، فمن يخرج عن حياضها غير مأسوف عليه، والداخل إليها غير مُرحّب به.

وأمام موجات التقديس المتنوعة تلك، تبرز عبادة النّسَب والألقاب والعناوين الأسرِيّة والقبليّة. فيُصبح الإنسان أسيراً لجَدٍّ قريب أو بعيد، يلوك اسمه في هزائمه، ويتغنّى به في انتصاراته الواهِمَة. في السياسة والاجتماع والاقتصاد والثقافة والدين والسلطة وفي كلّ شيء. فيصبح نسَبه كالمعبود الذي لا يُرى إلاّ من خلال المتخيّل الحالِم، والذاكرة البائسة.

من جوف التاريخ نقرأ كيف أن الإسلام قد هَشَّمَ غلواء القبيلة والنَّسَب والجُدُودِيَّة. وأزَاح فارق العرب عن غيرهم من العَجَم. وكان حين يُساوِي الخليفة بين مُسْلِمَيْن في العطاء، يَسْمَع من متسائل (سهل بن حنيف) يقول: يا أمير المؤمنين، هذا غلامي بالأمس وقد أعتقته! فيُقال له: نعطيه كما نعطيك. وأعطَى (الخليفة) كلّ واحدٍ منهما ثلاثة دنانير ولم يفضّل أحداً على أحد.

لقد أسّس ذلك الُعرف في الإسلام إلى إزالة فوارق الانتماء في الأعراق. فظهر إلى الساحة العلمية من غير العرب أبو حنيفة النعمان بن ثابت ومحمد بن اسحق الواقدي صاحب المغازي، والإمام الشافعي ومحمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبة البخاري ومسلم ابن الحجاج القشيري النيسابوري والفيروزآبادي وغيرهم.

ونقرأ أيضاً كيف حطَّم الأوروبيون بقوّة سطوة «النِبَالَة» المُتَسَيّدة، ونرجسية الأنساب. فأجهزوا على الروتشلديّة (نسبة لروتشيلد) والكاترينية (نسبة لكاترين الكبرى). ولم تَعُد عائلة ردازفيل يُتغَنّى بها لأنها كانت تملك نصف بولندا، ولا بأسرة استرهازي لأنها تمتلك سبعة ملايين فدّان.

وأصبح القروي هرمن هيس ونجل ممتهن تطريز الأقمشة لوب دوفيكا، وابن عامل سكّة الحديد بابلو نيرودا ذو مكانة رفيعة في العلوم والاختراعات دون تعيير. وبات جيمس وات وتوماس تلفورد ولودن ماكادم وجيمس مِل يتلقون تعليمهم من الاسكوتلنديين الكالفينيين دون غضاضة أو حَرَج.

لقد أسّس ذلك الفضاء الجديد في الاجتماع، إلى تصدّع وانهيار أنظمة اجتماعية فوقيّة استعلائيّة، وإلى بروز سمات مُجتمع متمدّن ومُتحضّر، غير أسير للتاريخ ولا لأحداثه وشخوصه، بعد أن كان الأوروبيون يتمارَوْن في كلّ شيء، اتّكاءً على الإثنيات وإلى مراكز العوائل وامتداداتها.

يُذكرّني الهَوَس بالرجوع إلى القبليّة والجُدُوديّة الرائج هذه الأيام بإشكال يهودي صهيوني بَرَزَ في أتون الدعوة إلى هوية مُحدّدة يجب أن تُقام لليهود داخل الكيان الصهيوني، سُمِّيَت بهويّة «الدولة اليهودية». بطبيعة الحال، فإن هذا الأمر قد دَفَعَ بالنقاش صوب قضايا أكثر خطورة، اختلَط فيها نابل الدين بحابل النّسب.

فبنو إسرائيل استقووا بأجدادهم على حِساب ديانتهم، فباتوا شعب الله المختار. وبدل أن يتماهى الدين بالحُكم السياسي ليتكرّس هذا المُركّب في هوية الإنسان كما جرى في حال المسيحية والإسلام، جُعِلَت الأنساب والأجداد في مرتبة أعلى من ذلك المُركّب، بل وطاغية عليه.

لذا، فقد أصبح في الكيان الصهيوني اليوم إشكيناز (يهود الغرب) وسفارديم (يهود الشرق) رغم أنهما من ديانة واحدة، وكأنه يعيد الخلط القديم الذي عاشه اليهود في الغيتو الأوروبي عندما قُسِّم العالَم إلى أناسٍ آريين وآخرين ساميين. وكان ذلك مدعاة لتأكيد الحالة اليهودية (الإثنية) ضمن الهوية الأوروبية.

هنا قد تتكرّر الحالة في مجتمعات أخرى وإن بمقاسات مغايرة. في مجتمعنا العربي يبدو أن التمسّك بالنّسب والجُدُودِيَّة هو إعادة تكريس لهويات صغيرة (أوّليّة) في حدودها وأفقها تعيد إلى الذاكرة المجتمعات البدائية التي تُخلّد آباءها وأجدادها لتنظيم هويتها وفضاءها وإن بتعصّب قبلي.

وعندما ترتدّ الجماعات البشرية إلى هكذا مُكوّن فإنها تتخلّف بما فيه الكفاية. فهي أولاً تصوغ لنفسها طقوساً وعوالِم معزولة تستصحب فيها كلّ المصالح والحروب القديمة التي اجترحها الآباء والأجداد في حياتهم، لتبقى لاحقاً في حالة تكلّس اجتماعي ونفسي خطير.

وعندما تستقرّ تلك الجماعات على هذا النّسَق فإنها تُصاب بالنرجسية رغم وهمها ووهنها، وتتحسّس من هويات صغيرة تعتبرها منافسة لها، على اعتبار أن تعدد الآلِهة هو بتعدّد المعبود من الأجداد والأنساب. وعندما تبلغ تلك الجماعات هذه الدرجة من المعتُوهِيّة، فإنها تصطدم بالهوية الكُبرى للوطن، بل إنها قد تعتقد بسذاجة أنها الأحق بالتّمثّل في قاسم الهوية الأشمل.

إن بلوغ أطراف من المجتمع هذه الدرجة من التخلف يُحيلها أوتوماتيكياً إلى الشعور بغياب المرجع القومي لها ولتاريخها، ويُقدّمها على أنها بعيدة عن التمدّن وأنها مازالت تعيش في جوف العِرق بتعصّب كبديل عن الارتقاء في حالة مجتمعيّة ناجزة، تستطبع من بيئتها وبمشتركاتها المُكوّنة للثقاقة أصلاً.

الغريب في الأمر، أن الاستغراق في تمجيد الحالة القبليّة يُضخّم من مكانتها لدى أصحابها. وفي أحيان كثيرة تختلط مع ذلك التمجيد الجاهلي أجزاء من الأسطورة والكذب وانتحال أوصاف لم يكن يتمتع بها الأجداد أبداً إن لم يكونوا على النقيض من ذلك تماماً. وهو ما يعني تحوّلها إلى حالة صنميّة، قد تُحال إليها كافّة القضايا التي يعجز الحاضر عن فكّها، وكأنّ الماضي هو القادر على حلّ مستعصيات واقع اليوم.

أتذكّر أن مُعرّب كتاب «الأصول الاجتماعية للدكتاتورية والديمقراطية لبارينجتون مور» أشار إلى طائفة الكارجو التي كانت تعيش في إحدى جزر المحيط الهادئ والتي لم تكُن تؤمن بأيّ دين سماوي أو أرضي، وإنما هي تعبد أرواج أجدادها.

يَصِفها حين كانت طائرات الحلفاء والمحور في الحرب العالمية الثانية تلقي بالمؤمن على الجنود عبر المظلات في هذه الجزيرة وكيف كان هؤلاء السّكان يحظون بجزء من تلك المأكولات المُعلّبة التي لم يروها قط. وكان اعتقادهم يترسّخ أكثر بأن من يأتي بهذه المؤن من الأعلى هي أرواح أجدادهم الميتين.

ما يُمكن أن يثق به المرء ويُعوّل عليه اليوم، هو أن تعيش الأجيال حاضرها بمعادلته لا بمقاسات سنين خَلَت. وأن تصنع لها تاريخها الخاص ومصالحها الخاصّة. لأن العيش على الصّدى المبحوح القادم من الزمن السحيق لن يزيدها إلاّ ترفاً في التفكير واعوجاجاً في السلوك، ومزيداً من المِرَاء العقيم.

ومَنْ كان له دِيْنٌ يحرص عليه فيُمكنه أن يقرأ تاريخ الإسلام في ذلك، وكيف أنه أبعد الناس عن صنميّتهم لأنسابهم. ومَنْ كان له غير ذلك، فعليه بتجربة الأوروبيين وعصر الأنوار وما بعد الثورات الاجتماعية الراديكالية، فلعلّه يُفلِح في فهم ما لَمْ يُفلِح في فهمه خارج ذلك.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 2873 - الأحد 18 يوليو 2010م الموافق 05 شعبان 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 14 | 4:06 م

      بويعقوووووب

      ما المانع ان يفخر الانسان او حتى يتباهى بانه من سلالة عائلة علميه او ابنا لاحد المجاهدين او حفيدا لاحد الشهداء او له قرابة باحد فاعلى الخير او ابا لاحد المتفوقين او انه يتشرف للانتساب الى قرية معينة او او او ما دام كل هذا لا يدخل فى دائرة الكفر او استعباد الاخرين وازدرائهم

    • زائر 13 | 9:28 ص

      جميع البشر سواسيا في الحقوق لا فرق بين ابيض واسود ووووووووو

      اكثر الذين يدعون بالأصل والفصل هم من يكونوا فاشلين في حياتهم العلمية مفلسين ويكونون بهذا الادعاء قد خالفوا الله وثم رسوله في القول الله سبحانه وتعالى يقول كلكم من آدم وآدم من تراب والنبي قرب سليمان الى درجة آل البيت وخيركم عند الله اتقاكم هكذا القول الجليل الخارج عن الجاهليه المظلمة التي يعيش فيها العرب جميعاً ويتفوق عليهم دول الخليج العربي والكل يريد ان يرسم شجره وليس كأن المرقد بين التراب والسقف حجره اين الملوك اين العظماء ليكف الاغبياء عن التباهي وشعار الامم المتحده معروف جميع بنو البشر سوا

    • زائر 12 | 5:21 ص

      الحكام الأعراب وما أدراك

      الحكام هم من يروج لهكذا عنصرية وتخلف.

    • زائر 11 | 3:21 ص

      جدحفصي

      المقصود الجانب السلبي من تفعيل الانساب الى مفاخرة هوجاء لافائدة منها , مجتمعاتنا مبتلية بهذا الداء ان لم تكن أكثر المجتمعات العالمية حاليا ابتلائا بة , كيف لاتبتلي بة والحكام في هذا المجتمع هم أكثر الناس مرضا بهذا الداء وكما جاء في الحديث الشريف عن الامام علي(ع) ان صلح الحاكم صلح المحكوم . أظن ان المعنى مفهوم !!.

    • زائر 10 | 3:15 ص

      ما اشار اليه الكاتب عين الصواب

      هذا هو حالنا اليوم وهذه الايام بالدات فكثير من العوائل باتت تبحث فلاش قريب من الام او الاب له وجاهة اجتماعية او صاحب جاه ومال حتى لو كان سيئ الخلق او ظالم للناس بس اهم ما في الامر انهة معروف بماله وسلطويته لتدون هذا الاسم كلقب للعائلة اعرف الكثير من العوائل غيرت القابها ومسمياتها الاصلية التراثية الى اسماء اصنامها وهم يعرفون سلطوية ومظلومية هذا اللقب لقد عاد كثير من الناس الى جاهليتهم الاولى رغم اننا في عصر لايقبل غير التفقوق العلمي والتقني دائما نبحث عن القشور ونترك الجوهر

    • زائر 9 | 2:35 ص

      (3) زائر رقم 2

      علم الأنساب يا أخي علم قائم بذاته
      في البحرين بس عدنا كتب في الانساب لها فوائد كثيرة.. ومنها طبعا اثبات ان سكان البحرين الأصليين تواجدوا فيها من عصور.. وحملة رسالة النبي الحقيقية من القدم

    • زائر 8 | 2:32 ص

      (2)

      وفي نظري ما في مانع ان الانسان يتفاخر بنسبه.. اذا ما استخدمه لممارسة السلطة
      فالامام الحسين أثناء القتال ارتجز :
      أنا ابن عـلي الخـير من آل هاشـم
      كـفاني بهـذا مفخـراً حيـن أفخـر
      وجـدّي رسـول الله أكرم من مشـى
      ونحـن سـراج الله في الناس يزهـر
      وفـاطـمة أُمـي سـلالـة أحـمـد
      وعمّـي يدعى ذو الجناحين جـعفـر
      وفـيـنا كتـاب الله أنـزل صـادقـاً
      وفـيـنا الهدى والوحي والخير يذكـر

    • زائر 7 | 2:31 ص

      (1)الكاتب يقصد شي معين.. لكم اني افتخر اني بنت فلان

      كاتبنا العزيز
      نسب الإنسان اذا كان من سلالة طاهرة مثل سلالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يفتخر فيه ويحمد الله عليه .. لكن طبعا المفروض ما يتصرف بتسلط لان عنده هذا النسب أو أي نسب غيره.. لان احنا بنروح بأعمالنا مو بأنسابنا

    • زائر 6 | 1:13 ص

      شكرا لك مرة أخرى >>>>

      فهذه إحدى المشاكل الكبرى التي يعاني منها الوطن العربي الجنائزي المقبور والذي يعيش خارج الزمن.
      --
      فمتى ترتقي البشر.... فقط عندما تحترم هذا الانسان .. هذا المخلوق العظيم ، النواة المكونة للاسرة والمجتمع والحضارة والرقي والعطاء.
      --
      وعندما لا يكون لهذا المخلوق قيمة .. مثل حال هذه الامة العربية البائسة الضائعة المخالفة لامر الله.
      --
      حيث يعيش الانسان ويموت دون أن يدرك أن له حقوق إنسانية منحها الله له وحرم منها ظلما.
      --
      إبن من ....... ومن عائلته .......النتيجة جهل وضياع.

    • زائر 5 | 1:10 ص

      ابناء الفقراء والتجار

      الغريب ان الكثير من عظماء التاريخ كانوا اشخاص غير معروفين لا من حيث النسب ولا الألقاب فغيروا التاريخ وبقي ابناء التجار والنبلاء عاجزين عن تقديم نموذج الا القليل منهم

    • زائر 4 | 1:07 ص

      الالقاب

      كل الذين يعيشون ويعتاشون على القابهم وآبائهم وعوائلهم هم اضعف الناس واوهن الناس فكرا وعملا . انهم يكررون الطبقية والتمييز والأنا على حساب الاخرين رغم ان الاخرين افضل منهم قولا وعملا

    • زائر 3 | 12:31 ص

      زائر رقم ن

      إنه الجدار الذي يستند إليه الضعفاء.
      ليس الفتى من قال كان أبي ... إنما الفتى من قال ها أنذا

    • زائر 2 | 12:06 ص

      لا ينفع ولا يضر

      علم الانساب علمه لا ينفع والجهل به لا يضر
      شكرا

    • زائر 1 | 12:04 ص

      نعم

      تعجبني يا بوعبد الله

اقرأ ايضاً