صمت متوقع، ومتعمد، ومدروس بعناية من لدن بعض مؤسسات السلطة التنفيذية، واحتجاجات متصاعدة مشتتة تسودها العفوية السياسية، هي الأخرى متوقعة، صادرة من مختلف أطراف المعارضة، وبالونات تجارب تتطاير في سماء مؤسسات الإعلام المحلية، و»انشداه» مبرر ومفهوم يسيطر على سلوك المواطن المتأهب لتحديد خياراته الانتخابية.
هذه هي الصورة، في شكلها الرئيسي، دون الخوض في تفاصيلها الثانوية، كما تراها عين المراقب السياسي للساحة البحرينية.
من يحاول أن يحدد مواقف وردود فعل القوى الفاعلة على الملعب السياسي سيكتشف، وبكل سهولة أن موقف السلطة واضح وصريح، فقد دأبت على أخذ زمام المبادرة، حتى في مراحل تراجعها، وخلق الحقائق على الأرض، وإجبار المعارضة على إما القبول بها، أو اللجوء إلى ردود فعل يغلب عليها طابع الآنية والانفعال، ومحاولة استرداد النفس، الأمر الذي يمكن السلطة من تحصين مواقعها، وتعزيز مواقفها، ويمدها بحقن جديدة متواصلة من المقويات التي تسمح لها الاستمرار في الانتقال إلى مستوى أعلى في الصراع، يبيح لها الإمساك بزمام المبادرات التي تبقيها في مقدمة السباق، ويجعلها قادرة في آن، على إنهاك قوى المعارضة، وتخفيف سرعة حركتها، وتقزيم حضورها، ومن ثم تقليص أدوارها، وفي بعض الأحيان تحجيم آفاق برامجها.
هذا التفوق الاستراتيجي الذي حققته السلطة، لم يأت، إلا في مراحل قصيرة ومحدودة العدد في تاريخ البحرين الحديث، بفضل حنكتها أو ذكائها السياسي، أو رقي خططها، إذ غالبا ما كانت تصل إلى ذلك عبر قوانين وإجراءات معينة، وفي حالات كثيرة عبر طرق تلتف فيها على المعارضة، وتضرب عرض الحائط بمصالح المواطن، وتصادر فيها أبسط حقوقه التي يحتاجها كي يمارس دوره السياسي البناء، بطرق سلمية، دون التفريط في تلك الحقوق التي تبيحها له أبسط الدساتير المعمول بها في المجتمعات المتحضرة، ودون إجباره على اللجوء إلى التمرد العنيف الذي قد يضعه في خانة القوى الإرهابية.
وطالما اننا بصدد رسم معالم لوحة الساحة السياسية المحلية التي نتحدث عنها اليوم، فيمكن تلخيص هذه السياسات، التي تبقي زمام المبادرة بين يديها، في الخطوات التالية:
1. تمزيق قوى المجتمع، بما يؤدي إلى شرذمة منظماته المجتمعية، كي تسود مكانها الانتماءات طائفية، أو تسيطر على سلوكها النزعات الفردية، مما يحول دون تبلور تكتل سياسي/ مجتمعي كبير يمتلك عناصر القوة الكافية التي تؤهله للدخول في معارك كبيرة ضد السلطة، تكون مادة الصراع فيها القضايا الكبرى التي تتجاوز المطالب اليومية التي تتحكم فيها، بوعي أو بدون وعي، السمات الخدماتية، والتي لا يؤدي تحقيقها فقدان السلطة لأي من مراكز قوتها الرئيسية، أو التفريط بمصالحها الاستراتيجية.
ونجحت السلطة التنفيذية على امتداد الخمسين سنة الماضية من خلال ممارسة التمزيق المجتمعي هذا، في تحويل البحرين اجتماعيا، كما هي جغرافيا، إلى أرخبيل من الجزر المنفصلة عن بعضها البعض، وغير القادرة على التلاحم لتكوين الكتلة الاجتماعية السياسية الحرجة التي تؤهلها لخوض المعارك الكبرى التي نتحدث عنها. كما نجحت السلطة أيضا، وعند بعض المنعطفات التاريخية المصيرية، أن تبرز نفسها كالجسر الوحيد الآمن الذي يمكن أن يربط بين أي من تلك الجزر. وربما نجد في تجربة المجلس الوطني في منتصف السبعينيات من القرن الماضي الكثير مما يثبت هذا السلوك السلطوي. كما أن أبرز شاهد على نتائج نجاحات السلطة في مشروع هذا التمزيق المجتمعي العمودي، هو التخندق الطائفي الذي بات يسيطر على منظمات المجتمع المدني التي أصبحت ضحية هذا التشرذم.
ولتحقيق ذلك المشروع صوبت السلطة سهامها نحو منظمات المجتمع المدني، وجردت، من خلال إضعاف تلك المنظمات الوطنية من الداخل، عن طريق بذر سوسة الذهنية الطائفية في صفوفها، المعارضة من أهم وأقوى جدار حماية يمكن أن يصد هجمات السلطة عليها.
وجردة سريعة للدور الهامشي الذي تمارسه تلك المنظمات اليوم، هو خير دليل يؤكد حالة الضعف التي تعاني منها، ومرحلة التهميش المؤطر التي تمر بها.
2. تشظية كل خندق من خنادق القوى المعارضة إلى آخر أصغر حيزا وأضيق منه أفقا، إذ لا يكفي التمزيق المجتمعي المحض، بل ينبغي أن يواكبه تشظية سياسية تحول قوى المعارضة إلى موزاييك مشوه وشبه مشلول، حركته بطيئة وردود فعله متلكئة، مما يبقيه دوما في مؤخرة السباق، ولا يبيح له، بغض النظر عن نواياه او محاولاته، أخذ زمام المبادرة، او تجاوز برامج السلطة. ومرة أخرى هنا استعانت السلطة بسيف جلاد الطائفية، ونجحت في شرذمة كل طائفة من الداخل إلى درجة أفقدت تلك الطائفة التماسك الذي تحتاجه لحماية نفسها كطائفة، دع عنك الدفاع عن ذاتها كقوة مجتمعية فاعلة. وخير تعبير على ذلك الكتل السياسية البرلمانية، التي أصبح من المشكوك فيه أن تحتفظ «جمعية الوفاق» بحصتها المطلقة الشيعية، وهو امر بتنا نلمس أخطاره واضحة في التصريحات التحذيرية من احتمالات شق صفوف الكتلة الشيعية البرلمانية المتماسكة التي أطلقها بعض القادة «الوفاقيين».
نجاح السلطة في شق وحدة الكتلة البرلمانية السنية تحاول أن تعيده اليوم في التعاطي مع نظيرتها الشيعية. محصلة ذلك خسارة فادحة للطائفتين، ما لم تحسن قيادتيهما التصرف وبسرعة لدرء هذا الخطر المحدق بهما، والقنبلة الموقوتة المخبأة في مكان ما بين ظهرانيهما، ليس بالعودة إلى قوانين اللعبة الطائفية التي تحسن ممارستها السلطة، أفضل من أي لاعب سياسي سواها، وإنما بتجاوزها والتمسك بقوانين الصراعات الوطنية والاجتماعية التي تفتقد السلطة إلى مهارات استخدامها.
3. التفاتة قاتلة نحو التيار الوطني الديمقراطي، حيث باتت الشائعات غير البريئة، والمسمومة تروج ضد عناصره المنظمة وغير المنظمة من أجل تقزيم المنظمة وتجريد غير المنظمة من أي دور سياسي إيجابي محتمل. فطورا نسمع أن السلطة سوف تمد يدها للتعاون مع هذا التنظيم، ضد تنظيم آخر، أو ضد حلفائه من أجل ضمان نجاح عنصر أو أكثر من أعضائه في الوصول إلى البرلمان، وأحيانا تتردد أخبار حول «صفقات سياسية كبيرة» تتم في الخفاء، مع قيادة تنظيم معين، بعيدا عن أعين أفراده او أسماع حلفائه.
كل ذلك من أجل زرع بذرة عدم الثقة في صفوف كل تنظيم على حدة، ونشر الخوف بين التنظيمات، ضد بعضها البعض على مستوى التحالفات القائمة بينها.
إقرأ أيضا لـ "عبيدلي العبيدلي"العدد 2873 - الأحد 18 يوليو 2010م الموافق 05 شعبان 1431هـ
يا من دل على ذاته بذاته
كلامُ سليم .. لكن هل من حيٍ يَسْمَع ؟ السلطة تنجح وتواصل تفوقها .. وبقية الاطراف من أسوأ إلى أسوأ .. منهم من سقط في هاوية الفشل وآخرين ما زالوا يصارعون على حافته ! متمسكين بآخر الحبال .. فتدوس ارجل السلطة ايديهم لتقتل آخر محاولات المقاومة في اراداتهم .. والمواطن بين غافل ومساعد .. لكن كما هو الحال دائماً .. يديه لا تكمل الصفقة !! نحتاج لايادي كثيرة .. ليكون الفعل والصخب اكثر واكثر واكثر !