يقول الصُحافي الأميركي آرام روستون في كتابه المثير للجدل (الرجل الذي دفع أميركا إلى الحرب) «استغلّ (أحمد) الجلبي قيمنا الأخلاقية، ومجتمعنا المفتوح، وثقتنا بأنفسنا».
ويضيف «كان يعرف (أي الجلبي) أن الأميركيين لا يكادون يتلذذون بشيء مثل حديث الأجانب عن حُريتهم، ودعوتهم لنشرها في بلادهم، وعَرَفَ حبّ الأميركيين للأرقام والحقائق، قدّم لهم كل معلومة، وكل رقم، وعَرَفَ بأن السياسيين لا يكادون يهضمون معلومة إلاّ ويريدون غيرها».
حديث روستون محلّ تهكّم قطعا. فالولايات المتحدة قد تتعاون مع معارضين سياسيين لأنظمة شمولية أو مُناكفة، لكن غباءها لا يقودها لأن تسمع منهم غير ما يطابق أجهزة استخباراتها الستة عشر. إنه أمر يدعو للسخرية حقا.
غايةُ الأمر ومنتهاه فيما قاله روستون، أن بُؤس قرار الحرب دفع بالكثيرين من المحافظين الجُدد والمرتبطين بهم لأن يُوزّعوا دمه (القرار) طمعا منهم في تشتيت الاتهام.
فنتائج الحرب على العراق لم تكن بذات الطموح في حدّها الأدنى، فضلا عن النتائج المثالية. تلك النتائج لم تنعكس فقط على الأميركيين، بل دفعت بكثير من العراقيين الذين أسقطوا تمثال الصنم في وسط بغداد، لأن تنهزم (أو تهتزّ) لديهم قِيَم التغيير.
نموذجان السيئ والأسوأ هما ما يتحدّث عنه العراقيون اليوم. أهل المناطق التي نالت حظا وافرا من سياسات البعث الانتقامية والقاسية يقولون إن واقعهم مهما ساء يبقى أفضل (مليون مرة) من عهد صدام حسين كما يقول عشائري نجفي يبلغ السبعين من العمر.
والمناطق التي نالها ظلم أقل، فاضلت بين ذلك العهد وواقع اليوم وما يكتنفه من وضع أمني هشّ، ومُخرجات الحرب الطائفية الدامية، لينتهوا بأن عهد البعث أفضل (بمليون آخر مضاد) كما يقول عامل بغدادي.
لكن لا يمنع ذلك من أن يبقى جزء كبير من العراقيين يتمايلون ما بين السيئ والأسوأ، ومن هو المُستحقّ للأول، ومن هو المُؤهل للثاني. ربما نتائج الميدان اليومية هي من يُميّل البوصلة إلى هنا أو هناك.
يتحدث أحد العراقيين ممن كانت لديه تجارة واعدة (وهو بالمناسبة من إحدى أهم العشائر العراقية)، بأن عُدي النجل الأكبر لصدام حسين، كان يملك كامل الغطاء التجاري في العراق. وكان يريد أن يتقاسم الأرباح منه من دون ثمن.
خَسِرَ الرجلُ جزءا كبيرا من تجارته وترك العراق في العام 1996 ولم يعد له إلاّ بعد شهرين من سقوط النظام. لكنه اليوم لا يقبل مساواة واقع الحال مع الأمس. هو لا يرى في عراق اليوم سوى حالة من الفوضى والفساد رغم أنه موتور من البعث.
هنا لا يُمكن أن تَصِفَ هؤلاء بأنهم بعثيون. هم مُتضررون من البعث، وهم ضحاياه. لكنهم لا يستطيعون أن يقبلوا بواقع يزيد من كلفة الضرر بالنسبة لهم عن السابق لدرجة لم تعد مقبولة بأي حال من الأحوال. إنها نتيجة خطيرة ومُقلقة.
لنقل بأن الأنظمة السياسية في مُعظمها تُقيم لها متاريس وموانع حمائية. هي تتوزّع ما بين علاقات داخلية وخارجية، وأنصار تنتقيهم لدواعي إثنية وطائفية، وتقيم لهم نظام امتيازات مُغرية.
وهكذا كان. المناطق التي ناهضت البعث ستجدها اليوم أقرب إلى الخراب. هي كانت خارج مسطرة الأنصار. والمناطق التي كانت ممالأة (أو حتى رمادية) ستجد أن عافيتها بخير، على الأقل لما قبل السقوط.
ولكن ورغم كلّ ذلك، يبقى الحديث عن السيئ والأسوأ حديث غير منتهي. وهما يتقافزان في المناطق التي ناهضت ومالأت معا. وربما يكون ما جرى من انتخاب يوسف الحبوبي في كربلاء المقدسة ملمحا جيدا لفهم المفاضلة ما بين السيئ والأسوأ.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 2393 - الأربعاء 25 مارس 2009م الموافق 28 ربيع الاول 1430هـ