قرار حزب «العمل» الانضمام إلى حكومة بنيامين نتنياهو أعطى تكتل «ليكود» فرصة تشكيل وزارة متطرفة بغالبية برلمانية (66 مقعدا من 120). فالحكومة التي ستتألف من أربع مجموعات ستكون الأسوأ في تاريخ الدولة العبرية وهذا ما دفع الكثير من المراقبين إلى توقع انهيار المحادثات الإسرائيلية - الفلسطينية (الهشة أصلا) وظهور معالم سياسة شديدة الانغلاق. حتى الرئيس الأميركي باراك أوباما أبدى تحفظه على توجهات الحكومة المزمع تشكيلها وتوقع أن تكون مفاوضات السلام صعبة في ظل ائتلاف وزاري يتبنى أيديولوجيات مقفلة في تفكيرها ونظرتها إلى محيطها والعالم.
هناك مروحة من الآراء تنطق بها المجموعات المتحالفة في الحكومة المحتملة وكلها تركز على رفض القرارات الدولية واتفاقات السلام الموقعة ومشروع حل الدولتين. كذلك ترفض بعض اتجاهات الحكومة فكرة التعايش مع الفلسطينيين، وتدين نظرية التساكن بل بعضها يطالب بطرد الشعب الفلسطيني وترحيله من أراضي 1948 باعتبار أن «إسرائيل» دولة اليهود ولا يجوز أن يتقاسمها معهم شعب ينتمي إلى دين مختلف ويأبى الاعتراف بهوية أخرى ويعارض سياسة تل أبيب في الضفة والقطاع.
مشروع التهويد ربما يشكل حجر أساس في حكومة أقصى التطرف. وهذا ما يجعل احتمال مواصلة المفاوضات مع الجانب الفلسطيني مسألة صعبة لأن الفريق الذي يرفع لواء الطرد والترحيل يرى أن «دولة فلسطين» قائمة في الأردن ولا داعي لإعطاء دولة ثانية للفلسطينيين في الضفة وغزة. بل إن الفريق المذكور يجاهر بدعوته إلى رفض سياسة تبادل الأسرى وعقد صفقات مع طرف يهدد أمن «إسرائيل» بالصواريخ.
المسألة إذا ستكون ساخنة على مختلف الجبهات وتحديدا في الإطار الفلسطيني إذ إن ائتلاف أقصى التطرف لا يرغب بالانسحاب وتفكيك المستوطنات في الضفة بل يريد توسيع دائرة التوطين بداعي التهويد ويريد أيضا عزل الفلسطينيين وترحيلهم إلى الأردن حتى تصبح دولة اليهود لليهود من دون شريك. وفي حال لجأت حكومة نتنياهو إلى تطبيق هذه «الإيديولوجيات» الكريهة في عنصريتها وتعصبها وتحويلها إلى برنامج عمل سياسي في السنوات المقبلة فمعنى ذلك أن المنطقة مقبلة على مجموعة تغييرات ديموغرافية قد تؤدي إلى زعزعة الاستقرار وإثارة انقسامات كيانية تهدد فعلا الخريطة الجغرافية لفلسطين ومحيطها العربي والجواري.
الاحتمال المرجح هو عدم قدرة ائتلاف أقصى التطرف على برمجة تلك الأيديولوجيات الحزبية النظرية في برنامج عمل تشرف «دولة» على تنفيذه. فالعالم الآن ليس في موقع يسمح له برؤية مشهد نزوح الملايين من ديارهم إلى أمكنة أخرى. كذلك لم يعد بمقدور العالم تحمل هذا الكم من العصبية والعنصرية والتعصب الديني والقومي من دون عقاب أو محاسبة.
احتمال عدم قدرة نتنياهو على ترجمة الأيديولوجيات الكريهة والفوقية والشوفينية إلى سياسة عملية لا يعني أن الحكومة ستكون متساهلة في التعامل مع القضايا المشروعة للشعب الفلسطيني. فهي قد لا تستطيع تنفيذ وعودها الانتخابية السخيفة ولكنها تستطيع تعطيل أي محاولة دولية أو عربية أو إقليمية للضغط عليها باتجاه تنفيذ تلك الالتزامات التي اتفق عليها سابقا. وهذا يعني أن حكومة تل أبيب قد تتشدد إلى درجة تجميد الحلول وبعثرتها وتعطيل التفاهمات وتشتيتها من خلال التلاعب بورقة الانقسام الفلسطيني بين «فتح» و«حماس» أو من خلال العودة إلى حكاية «المسار السوري» والتلويح بتوقيع اتفاق سلام جزئي مع دمشق.
كل هذه الأمور السلبية واردة. وحزب «العمل» الذي انزلق تاريخيا من هيئة دينية - علمانية ساهمت في تأسيس «الدولة الصهيونية» إلى مجموعة من الانتهازيين تتنافس على الكراسي لتأمين مظلة قانونية لأحزاب دينية وقومية وعنصرية متطرفة بات في موقع العاجز الذي يخاف على صورته من الغياب.
انزلاق حزب «العمل» من أيديولوجيا دينية - علمانية قامت على أساسها الحركة الصهيونية في نهاية القرن التاسع عشر إلى وعاء أيديولوجي يحتوي أو يبرر فتاوى أحزاب دينية - عنصرية أو دينية - قومية تبيح علنا سرقة أراضي وخيرات الفلسطينيين وتشرع الاستيلاء على القرى والأحياء وتعتبر القتل خطوة إنسانية وإبادة المدنيين أو طردهم وترحيلهم مسلكيات جيدة لكونها تضمن هوية الدولة واستقرار اليهود... يعطي فكرة عن ذاك المسار المتدحرج لفكرة تأسست على وعد إلهي (أرض المعياد) معطوف على وعد سياسي (وعد بلفور الاستعماري البريطاني). فالحزب الذي خرج من خيمة أيديولوجية مزجت بين وعد ديني ووعد سياسي ليس غريبا عليه الانتهاء في موقع لا يتناسب مع صفات وتوصيفات حاول اكتسابها من خلال «الاشتراكية الدولية».
هذا الحزب الاشتراكي - الصهيوني تشكل في فترة حاولت النخبة اليهودية السياسية الأوروبية ترتيب تسوية أيديولوجية بين نزعة قومية عنصرية دينية وتوجهات اجتماعية - اقتصادية تعتمد على نظريات الملكيات العامة والتعاونيات المشتركة والاتحادات العمالية. وبسبب العوامل الظرفية نجحت قيادة حزب «العمل» في الأربعينات والخمسينات والستينات في تأسيس «دولة» تربط الدين (الوعد الإلهي) بتشريعات قانونية اعتمدت في أصولها على الدساتير الأوروبية (المدنية والعلمانية). وجاءت عملية الربط لتطوع القانون في خدمة الدين وتكيف الدين في خدمة الدولة.
الوظيفة التقليدية لحزب «العمل» ودولته الصهيونية أخذت تتحطم تاريخيا نتيجة صعود تيارات دينية وقومية وأصولية وعنصرية صافية تتغذى من موجات الهجرة المتواصلة التي تحمل معها ثقافة رافضة للمزج بين الدين وتشريعات غير يهودية - تلمودية.
هوية «دولة» حزب «العمل» تغيرت خلال العقود الستة الماضية. والأفكار التي تأسس عليها الجيل الأول (المؤسس) أخذت بالتفكك التاريخي حلقة بعد أخرى لتقوم مكانها مجموعة حلقات بديلة مشدودة إلى عقلية جيل يرفض الإزدواجية بين الدين (العقيدة) وقوانين (تشريعات) مستمدة من دساتير غير يهودية. وبسبب هذا الاختلاف بين حقبة التأسيس والحقبات اللاحقة طرأت على الثقافة الإسرائيلية مجموعة تحولات أيديولوجية استمدت قوتها من المتغيرات الديموغرافية (السكانية) التي أدخلت تعديلات بنيوية على هيكلية الدولة وهويتها.
الدولة تغيرت كذلك مؤسسها حزب «العمل» بوصفه يشكل ذاك الوعاء الذي يمزج تلك المتحولات. إلا أن وظيفة حزب «العمل» هذه المرة ستكون مختلفة عن السابق باعتبار أن الناخب الإسرائيلي الذي اختار التطرف الديني والقومي والعنصري بات أقرب إلى تبني ثقافة تركز على صفاء الهوية وتؤكد على شرعية يهودية الدولة من دون شريك لقوة أخرى مختلفة في الدين.
نظرية توحيد الديني بالقانوني وإعادة تأسيس الدولة الإسرائيلية على قاعدة تشريعات يهودية ترفض العلمانية الصهيونية تشكل نقطة تحول في شخصية الجماعات السياسية المتطرفة التي قرر حزب «العمل» الائتلاف معها في حكومة مشتركة يقودها نتنياهو. وهذا التحول الذي أعطى رجال الدين (الحاخامات والراباي) دور القوة المقررة للقوانين والتشريعات والسياسة يوضح طبيعة الحكومة المقبلة ويرسم صورتها الأيديولوجية وأسلوب تعاملها مع الفلسطيني أو المحيط العربي - الإسلامي المختلف في كلياته وجزئياته عن هذه الثقافة النامية في الشارع الإسرائيلي.
قرار انضمام «حزب العمل» إلى حكومة أقصى التطرف الديني والقومي والعنصري هو إشارة سياسية إلى نهاية حقبة وبدء ظهور طور جديد في دولة «إسرائيل» يرمز من بعيد إلى نمو قوة الراباي (رجال الدين الحاخامات) وتراجع قوة العلمانية (الدولة). فالمعادلة الإسرائيلية التي بدأت في نهاية الأربعينات على قاعدة غلبة الدولة على الدين انتهت في العقد الأول من القرن الجاري إلى بدء الاستقرار على قاعدة غلبة الدين على الدولة. وحين يصبح الدين هو الدولة فمعنى ذلك أن فكرة «التهويد» والطرد والترحيل باتت سياسة قد تكون صعبة التحقيق في الظروف الراهنة، ولكن لابد من الانتباه إلى مخاطر تداعياتها في فلسطين 1948 أو في الضفة والقطاع.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2393 - الأربعاء 25 مارس 2009م الموافق 28 ربيع الاول 1430هـ