ماجد الشيخ - كاتب فلسطيني/ ، والمقال ينشر بالتعاون مع «مشروع منبر الحرية www.minbaralhurriyya.org»
من الثمار المرّة التي طرحتها وتطرحها شجرة الحياة في بلادنا، ذلك التأصيل العنفي/ الإرهابي، والإصرار المميت على رعاية وسقاية التخلف المعرفي الشامل، عبر معاداة سلطة العقل والعقلانية، والعلم والعلمانية، وكأن هذه الأقانيم «عمل من رجس الشيطان»، وبالتالي لا يصح للإنسان مقاربتها أو تأصيلها في حياته. لهذا شكل ويشكل الانتقال من أرض المجتمعات التقليدية، إلى أرض مجتمعات الحداثة ودولها/ الأمم، العديد من نقاط السلب والإيجاب الكاشفة راهناً، كما وعبر التاريخ، في استظهار لذاك الاختلاف البيّن والجوهري بين «المسلم العادي» والآخر «المتضلّع فقهياً»، حيث تبدو المسألة مختلفة في الشكل فقط بين هذا وذاك، وأولئك «الجهاديين» حملة السواطير والسكاكين والأحزمة الناسفة، لكنهم في الجوهر، كلهم في العداء سواء أكان اتجاه الحداثة وكامل منتجاتها، أو اتجاه العلم والعلمانيين، ولو لم يقرّوا علناً باستفادتهم الكبرى من منتجات الحداثة واستخدام بعضها لمصلحة مشاريعهم الآنية والمستقبلية.
وهكذا يجري استغلال وجود الحرية في الغرب من جانب هؤلاء، لصالح أهداف عقائدية تهدف لإعادة انتظام البشر وسلوكياتهم، في أنساق من العبودية والقنانة التي أضحت تنتظم في إطارات حلقيّة أو تجمعات أو تيارات أو أحزاب دينية ذات طابع سياسوي أكثر أدلجة، لا تراعي بل تعادي قيماً كونية أساسية عدة، في سياق استمالة أعضائها نحو تلك القيم الإخضاعية التي تُعدّ شرطاً لازماً من شروط «الإيمان الديني»، كما أمسى يحددها البشر في سياق سلوكهم وممارساتهم الحياتية اليومية بعيداً عن رعاية ورقابة النصوص المؤسسة التي تباعدت في سلوكها وممارستها العقدية، ولم تعد ملزمة لأحد في «أرض الجور والتخلف»، فما بالنا ونحن نتحدث ونعني أرض الحداثة كمرسى وميناء أخير لمسلكيات تبدو هجينة من ناحية، و»ملتزمة» من ناحية أخرى، حسب الناظر إليها من موقعه الديني العقائدي أو السياسوي المؤدلج، أو اللاديني.
في هذا السياق المحدّد، تبدو الانتهازية واضحة وضوح الشمس، في سلوك أولئك الذين يعتبرون وجودهم في أرض مجتمعات الحداثة ودولها، ضريبة «الجزية الدينية» المفروضة على أهل البلاد، حيث يجري التعاطي معهم كـ «ذميين». هذه المفارقة التاريخية غير المسبوقة، لا تتم للأسف في سياق إعادة اعتبار للعقل، أو إعمالاً لفكر نقدي، لكنها للأسف تُعيد الاعتبار لإعمال بعض من النصوص المؤسسة، وإسقاطها إسقاطاً متعسفاً على واقع لا ينتمي إليه هؤلاء، قدر ما يريدون استعادة الهيمنة عليه «فقهياً»، بادعاء «أحقيتهم اللاهوتية» لفرض جوهر أيديولوجي مضاد للعقل، ومعاد للفكر، ومغاير للنقد ومسئولية الفرد عن ذاته، وما يصدر عن هذه الذات من تصرفات وأعمال، هي في المآل الأخير لها وعليها في نفس الوقت.
هذا يضع «الإسلام» في الغرب على تماس مباشر مع الحداثة، تماس تناقضي يُباعد بين الفرد/ الإنسان والمجتمع، وبين «المجتمعات الميكروية الصغيرة» المتديّنة... والحرية، وبين الحرية والاستقلالية الفردية والمجتمعية، كما تمارسها المجتمعات الحداثية، وتلك التي تجور على أفرادها، فتبقيهم أسرى الأنساق السلفية/ الماضوية التي يُعاد تكرارها واجترارها، رغم ما أسفرت عنه من براهين ودلالات حملت معاني الإخفاق والفشل، وما أقيم بموجبها من مبان متصدعة ومتداعية، هي إلى الانهيار أقرب، وهي تغرق في جمودها وتكلسها، ما قاد إلى خلق أبعاد تناقضية جديدة/ أو متجددة، بين القيم الدينية المعزولة أو ذات الطابع الانعزالي، وبين الحواضن المجتمعية الأصولية، كما عاشها «مسلمو الغرب» في بلدانهم الأصلية التي نشأوا وتربوا فيها، وتلك الحواضن الجديدة في بلاد الحداثة، حيث التناقض على أشدّه، في اعتمال لمسلسل من الصراعات العنيفة «المكبوتة» إلى حد ما، وسلسلة الحروب الأهلية، وهي تؤسس لتنافر شديد الوقع، يخفّف منه استيعاب الحداثة لطرائق المتدينين في التعاطي معها كونها دريئة هروب ولجوء، وعزلة وانعزالاً، مع ما يحمله هؤلاء من مخاطر إنشاء وإفشاء منطق صدامي، كنوع من أنواع الحروب الأهلية التي سبق للحداثة وأن تجاوزتها وطوتها تاريخياً، وأقلمت مجتمعاتها على نسق من التعايش والاندماج في داخلها. وذلك حين جرى ويجري استبعاد كامل عناصر التفجير، عبر التأسيس لحياة ديمقراطية أتاحت وتتيح تداولاً سلمياً للسلطة، وقد أثبتت أنها الأجدى والأنفع لسلوك دروب السياسة وإحيائها بعد موات، والحفاظ على مفهوم المواطنة في العقد السياسي والاجتماعي الذي ينظم حياة الناس، في بلاد تحترم حريات وإرادات الناس لذاتهم، لا لمصالح فردية منفعية ومصلحية وفئوية زبائنية، كما هو حال بلاد الجور والتخلف، وكما هو حال تفكير الهاربين منها إلى بلاد قدمت الحداثة لهم فرصة الحياة المدنية، لكنهم للأسف استمرأوا ويستمرئون «خياراتهم التكليفية والخلاصية»، كي يستمروا عالة على غيرهم، وعالة على دينهم حتى، وعلى بلادهم كذلك، تحت دعاوى الجزية والحسبة والغزو والفتح والاستعلاء المرضي، وإلى ما هنالك من دعاوى فصامية.
بين انفجار الهويات الدينية والقومية وفق أبرز تجلياتها الأيديولوجية الزائفة، وتصادمها ذاتياً وبينياً، وبين ادعاء الطهارة والقداسة الأيديولوجية للأصوليات الدينية، ومزايداتها كل في مواجهة الأخرى، تكمن مسيرة طويلة من سرديات الادعاء والتعالي والصلف والغرور الممزوجة بقدر عال من الفصام والأيديولوجية المريضة، فأي ادعاء لـ «المسلمين» في الغرب عن طبيعة مجتمعاتهم ودولهم، البعيدة عن شوائب المجتمعات الغربية، تفضحها تلك الممارسات والسلوكيات التصادمية والانتحارية للفرد وللجماعة الدينية في «الفضاء الإسلامي»، حيث تحولت المجتمعات والدول إلى أشتات متواجهة ومتناحرة، في خلاف يستعيد إرث الماضي كله، بسردياته الخرافية والأسطورية، وتبجيلية ذاك التراث «المنتقى» و»المصفّى» الذي لم يجر الحفاظ إلاّ على سيمائه وسماته التقليدية، كمرتع للخلاف والاختلاف، وعدم الاتفاق إلاّ على أقل القليل من العبادات والتشريعات والطقوس التي تحولت هي الأخرى إلى عناوين رمزية، وكمؤشر لتصادم الذات مع ذاتها، والذوات المتشابهة مع المتشابه والمتنافر من الذوات ذاتها والذوات الأخرى، حتى بلغت الحروب الأهلية أمداءً لم يعد معها من مجال لأي إصلاح، لا للنصوص الدينية ولا للبشر، فأي أمل باستعادة ألق الوحدة السياسية أو المجتمعية أو الأهلية في بلاد أسس الدين الواحد بطوائفه ومذاهبه لانقساماتها، وللفتن المتناسلة من فرقها وتياراتها وأحزابها التي لم تنجُ من التمزيق البيني الداخلي، استناداً إلى تأويلات ما أنزل الله بها من سلطان، ومنها ما صارت بقوة القائلين بالتأويل الإسنادي/ العنعني هي السلطان.
لهذا... قلنا ونقول إن الإنسان منذور للانتصار لقيم العقل والتنوير والاستنهاض، أي لقيم العقل والعلم التي لا يمكنها الوقوع في حبائل الأصوليات المتناحرة والمتقاتلة في داخلها وفيما بينها، تلك القيم ليست قمينة بسلوك طرق الاستتباع للآخر، أو الخضوع لمنطق رفض العلمانية من قبل أعدائها المتسربلين بالدين وبأقنعة المقاومة، على ما صارت تجارة بعض متدينينا، وهم يلبسون ألبسة غير ألبستهم، فالمقاومة والإرهاب لا يمكن أن يلتقيا أو يتعايشا فوق سطح واحد، كما أن الحداثة بقيمها الكونية لا يمكن إخضاعها لإحالات ومجالات التفكير الخرافي أو الأسطوري، على أن المقاومة إما أن تكون وطنية بالضرورة، أو أن فئويتها والذهاب للأقاصي المذهبية، لن تكرّس سوى الاحتلالات الأجنبية، مضافاً إليها تلك الاحتلالات المكشوفة للفضاء العام، واستبعاد السياسة، وإقصاء المختلفين، واستبعاد الحوار، وترذيل قيم التسامح، وجماع هذا كله تلك الوصفة المؤكدة لتخليق واقع تعصّبي تُدميه الحروب الأهلية، وتملأ فضاءه العام معطيات صراع الهويات القاتلة المتذابحة والمتحاربة، من أجل إحلال الرموز التقليدية، بديلاً لقيم الحياة المتجددة الأكثر حداثة، في مواجهة «الموات العظيم»، ذاك الذي أفشته وأشاعته البنى الخرافية وأساطيرها المؤسسة، في بنية مجتمعاتنا وسلطاتنا «الدولتية» الاستبدادية.
إقرأ أيضا لـ "منبر الحرية"العدد 2872 - السبت 17 يوليو 2010م الموافق 04 شعبان 1431هـ