واقعتان حصلتا الأسبوع الماضي كشفتا عن أزمة أخلاقية لاتزال تعاني منها دول الغرب على رغم الكلام اليومي عن الحرية والإخاء والمساواة وحقوق الإنسان وحماية الفرد من الظلم والتفرقة والتمييز وغيرها من مفردات تتعلق بحق الشعوب في تقرير مصيرها وضمان حرية الإنسان من السلب والنهب والتنكيل والتعذيب.
الواقعتان تطرحان أزمة تتجاوز تلك المصطلحات البلاغية بوصفها موضوع نقاش يتعلق بميدان الأخلاق والصدق والنزاهة والعدالة ومعيار ميزان الحق والعدل بين القوي والضعيف.
الواقعة الأولى جرت حوادثها في الجمعية الوطنية الفرنسية (البرلمان) حين أقر أعضاء المجلس في قراءة أولى وبغالبية ساحقة (335 صوتاً ضد صوت واحد) مشروع قانون يحظر ارتداء النقاب في الأماكن العامة، الأمر الذي أثار اعتراض جمعيات تعمل في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان وحق الفرد في اختيار الرداء الذي يناسبه. والمفارقة في الموضوع تمثل في امتناع الكتل النيابية اليسارية والاشتراكية والشيوعية عن التصويت (المقاطعة) ليس حباً في النقاب وإنما خوفاً من أن تتحول الخطوة إلى سابقة قانونية تفتح الباب لقراءات أخرى تتناول ملفات خطيرة تزعزع الاستقرار والسلم الأهلي وتشجع قوى التطرف في كل الاتجاهات على استخدام الخطوة ذريعة لتبرير أعمال مضادة تهدد حق الإنسان في تحديد اختياراته ونمط معيشته. موقف الاعتراض السلبي (نعم ولا في آنٍ) ليس جيداً ولكنه أكثر أخلاقية لأنه على الأقل أشار إلى نوع من الصدقية والمصالحة بين الكلام النظري والفعل الميداني وعدم إعطاء فرصة لتلك الاتجاهات الأيديولوجية التي تعارض أصلاً ميثاق حقوق الإنسان وكل الوثائق المتصلة بالحرية والإخاء والمساواة والتسامح والانفتاح والتعايش.
الواقعة الثانية جرت حوادثها في العراق حين قرر جيش الاحتلال الأميركي تسليم سلطة متعاملة تأسست حكومتها في ظل العدوان سجناء إلى خصوم ما يعرض حياة بعضهم للانتهاك والتعذيب وربما الانتقام والتشنيع والقتل. هذا التسلم والتسليم غير أخلاقي في كل المعايير القانونية والإنسانية لأن المعتقل تأسس في إطار حرب افتعلتها إدارة جورج بوش السابقة بذرائع تبين أنها كاذبة ومخالفة لمواثيق الأمم المتحدة وضد الإجماع الدولي الذي نهض في العام2003 ضد قرار دولة كبرى انفردت بالخطوة لتمرير مشروعات التقويض والتقسيم وزعزعة الاستقرار وتغيير الخرائط السكانية. وحين يكون أصل المبدأ خطأ وتأسس على باطل تكون كل النتائج الناجمة عنه باطلة. هذا على الأقل ما كان يقوله ويردده باراك أوباما خلال حملته الانتخابية للفوز بموقع الرئاسة ضد المترشح الجمهوري.
قرار تسليم المعتقلين للخصوم خطوة لاأخلاقية لأن القانون الدولي (معاهدة جنيف) يمنع تعريض حياة أسرى للخطر في حال كان الطرف الآخر أظهر خلال فترة حكمه تصرفات تتسم بقلة الاحترام لحقوق الإنسان. الطرف الآخر وباعتراف إدارة أوباما وحتى إدارة بوش أنه أسوأ نظام في المنطقة وحكومته فاشلة وفاسدة وتعاني من انقسامات طائفية وتجاذبات مذهبية وأحقاد متوارثة عن تجربة النظام السابق.
السؤال إلى أوباما الذي يدعي أنه ضد مبدأ الحرب على العراق ويرى أن تيار المحافظين الجدد ارتكب خطأ في الاحتلال أضر بسمعة الولايات المتحدة وعرض مصالحها للاهتزاز وجنودها للقتل، كيف يقبل أو يوافق على تنفيذ اتفاقات (أجندة خفية) وقعها سلفه بوش مع رئيس حكومة تأسست في ظل الاحتلال وبالضد من الشرعية الدولية؟
ليس هناك حاجة للجواب لأن التاريخ هو الشاهد على معضلة أخلاقية وما تفترضه من معاملات. في الحرب العالمية الثانية احتلت ألمانيا فرنسا وأسست حكومة فيشي (المتعاملة مع النازية) برئاسة بيتان وأخذت بمحاربة الحكومة الحرة (ديغول) ومطاردة المقاومة وتسليم رجالها للجيوش الهتلرية. آنذاك وقفت الولايات المتحدة وبريطانيا مع حكومة ديغول في المنفى ضد حكومة فيشي المتعاملة مع الاحتلال بذريعة أنها فاسدة وغير شرعية.
هذا المبدأ الأخلاقي إما أن يكون صادقاً أو كاذباً. فهل الحكومة في بغداد تتمتع بتلك المواصفات الخلقية أم أنها نتاج الاحتلال؟ وهل الحكومة المتوافق على اتهامها بالفساد والرشوة والمحسوبية والكذب والخداع تشكل فعلاً ذلك الطرف المحترم الذي يترفع عن الانسياق وراء العصبيات الضيقة وحس الانتقام والثأر؟ عملية تسليم السجناء في ظل الاحتلال لا تقل خطورة في أبعادها الإنسانية عن صور التعذيب التي ظهرت للعالم من خلف قضبان سجن أبوغريب.
إدارة أوباما تقول إن حكومة بغداد فاشلة وفاسدة ومنحازة وغير موثوقة وإنها غدرت بالولايات المتحدة وتلاعبت بمصالحها وبهدلت النموذج الذي كانت تريد تقديمه لشعوب «الشرق الأوسط» وغيرها من اتهامات بالاختلاس والتزوير وتهريب الأموال وهدر الثروة الوطنية ونهب المتاحف والآثار وبيع النفط سراً إلى آخره من التصريحات العلنية والموثقة. إذا كان هذا هو توصيف واشنطن لنظام وحكومة ونموذج ساهم الاحتلال في إنتاجه، كيف تُقدِم إدارة أوباما على تسليم أسرى إلى خصوم من هذا الصنف؟ المسألة أخلاقية ولها علاقة بالمبدأ وهي تتجاوز السياسة. السياسة تتغير وهي مرهونة بالمصالح (ليس هناك من عدو دائم وصديق دائم) أما الأخلاق فهي موضوع آخر لأنها تشكل مختبراً لمدى التزام الدول الكبرى بمبادئ تدعي يومياً الدفاع عنها.
الصدق في التعامل يكشف المبدأ الأخلاقي على حقيقته، لأنه يشكل ميزان العدل ومدى تصالحه بين الفكرة والممارسة ويوضح ذلك المقدار النسبي في التعارض بين القول (الكلام) والفعل (التجربة الملموسة). كذلك الصدق يرسم علامة فاصلة بين المبدأ العام وازدواجية المعايير وتلك الهوة التي تعزل شعارات تدعي الدفاع عن الإنسانية والحقوق وسياسة قائمة على الكذب والخداع.
الواقعتان الأولى في فرنسا (تحظر النقاب) والثانية في العراق (تسليم الاحتلال لأسرى) تكشفان فعلاً عن أزمة أخلاقية تعاني منها دول الغرب حين تتعرض إلى امتحان يهدد أصل المبدأ بالاهتزاز ويدفعه إلى الانزلاق نحو فضاءات من التأويلات والتفسيرات والأسئلة وبالتالي الارتداد إلى سجال قديم يعيد فتح ملفات يفترض أن العالم تجاوزها وأنهى النقاش بشأنها.
ما حصل في فرنسا والعراق (الولايات المتحدة) يتجاوز السياسة لأن المسألة لها صلة بالمبدأ وما يعنيه من ارتدادات أخلاقية تطرح أسئلة بدائية وأولية تمس جوهر حضارة تدعي أنها تتميز عن غيرها انطلاقاً من تلك المواثيق الدولية عن الإنسان وحقوقه.
الارتداد ليس ضد مبادئ حزب البعث وتنظيم القاعدة وأنظمة الاستبداد وغيرها من أطراف متشابهة أو متطرفة في عقليتها وتعاملها مع الآخر. فهؤلاء أصلاً خارج موضوع أزمة الأخلاق.
الأسئلة موجهة ليس إلى هذا الفريق وإنما إلى قوى تحتاج إلى إجراء مصالحة بين المبدأ وأزمة الأخلاق حتى تكون صادقة بين القول والفعل. وعدم التزام الصدق في التعامل المبدئي في الملفات يترك فعلاً المسألة معلقة وربما مفتوحة على الارتداد والنكوص من الأسوأ إلى الأسوأ. وحين تبدأ الأمم بمخالفة مبادئ تأسست حضارتها عليها لأسباب ظرفية ومصالح مؤقتة فمعنى ذلك أنها دخلت في مسار تاريخي طويل سيؤدي بها في نهاية المطاف إلى الانحطاط وإلغاء موقعها الخاص ودورها المميز.
ما بين النقاب الفرنسي والسجن الأميركي مسألة قيمية تتصل مباشرة بالمبدأ الأخلاقي. والمضحك في الموضوع أن الضربات التي توجه من الداخل ضد جوهر المبدأ لا تأتي من خصومه وإنما من أصحابه. وشر البليّة ما يضحك.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2871 - الجمعة 16 يوليو 2010م الموافق 03 شعبان 1431هـ
لم يوفق الكاتب بهذا المقال !!
صحيح أن الغرب يعاني من انفصام شخصيه، ديمقراطية تحترم الانسان في الداخل وشيطنة في الخارج لا تحترم الانسان في أغلب الاحيان.
-
لكن القراررين الذين أغضباك أنت، هما في اعتقدادي قراران صائبان.
-
النقاب يهين المرأة ويشوه صورة الاسلام المسلمين. وإلغاء النقاب هو لصالح المرأة والإسلام ونتمنى لو صدر هذا القرار منا المسلمون.
-
أما العراق الذي له ألف تحية مني، هو الآن على الطريق السليم، لتكوين نظام سياسي يحترم الانسان والوطن.
-
أما طارق عزيز فاطمئن، سينال جزاءه العادل، وكذلك الآخرين.
صحه الله لسانك
بوركت من كاتب ومفكر
عبد علي عباس البصري(هذاكلامك خير دليل عليك)
(إدارة أوباما تقول إن حكومة بغداد فاشلة وفاسدة ومنحازة وغير موثوقة وإنها غدرت بالولايات المتحدة وتلاعبت بمصالحها وبهدلت النموذج الذي كانت تريد تقديمه لشعوب «الشرق الأوسط») حتى تعلم انت والي على تفكيرك ان الرائد لايكذب اهله، معنى كلام اوباما ان الحكومه العراقيه لا تنساق مع الاحتلال الامريكي ولم تتكون تحت اشراف الاحتلال الامريكي ، فهي عصيه على الامريكان ، بس اخشى ان لا تصيطر اسرائيل على شبكات الاتصالات عن طريق العملاء .
عبد علي عباس البصري
سؤال للكاتب العزيز عن طارق عزيز لا تخاف عليه لانه لن يودع في سجون صدام الداخل فيها مقبور والخارج منها مولود، ابدا بدل ان تمدح الامريكان لانهم سلموا سجناء عراقيين الى دوله عراقيه ديموقراطيه حره متعدده الاطياف ، سجونها تحت اشراف البرلمان العراقي، هل رأيب اثر للتعذيب في جسم صدام حسين حين اعدامه ؟ ولو الشيئ البسيط حتى الرقبه اراد السجان ان يوضع عليها خرقه تقيه حز الحبال؟! العراق في ظل دوله دستوريه وليس في دوله بوليسيه ولاجاسوسيه للاسرائيليين ، خرج كيسنجر ولم يحرز اي تقدم في وضع رئيس للعراق .
عبد علي عباس البصري
الله عليك يااستاذ نويهض ،مازلت تكتب وتكتب عن النخب الاوروبيه في القرون من الخامس عشر الى التاسع عشر ،والتحورات الدينيه ولاديولوجيه ، فما زالت اوروبا القاره المتقدمه حتى في الحريات الشخصيه حتى اثرت في الفكر العربي في المهجر ، فلم نظرت بالعين القاصره فهم منعوا النقاب ولم يمنعو الحجاب أعني في الاماكن العامه . ثانيا : أنته ليش اعيونك تنظر الى فرنسا ولا تنظر الى مصر العربيه وفي كليه الجامع الازهر ، عندما هاجم الشيخ الطنطاوي المنقبه وقال فيما قال لها انا افهم من الذين خلفوك ، ومنع النقاب في ...