مبدأ الصراع على البقاء أنتج في نهايات القرن التاسع عشر ومطالع القرن العشرين تيارات سياسية إيديولوجية أخذت تتنافس في تنويع مصادر القوة ومنابت «علتها الأولى». والعينات الفردية «الرسمية» التي اعتمد عليها دوركايم لقراءة ظاهرة «الانتحار» من خلال رصد تأزم علاقة الفرد بالمجتمع تحولت لاحقاً إلى عينات «جماعية» تقرأ القوة (الدمار الذاتي) في سياق معايير خطيرة دفعت الدول الدخول في سباقات التسلح والفضاء والمختبرات وحقول التجارب لتطوير أدوات القتل من جانب وضمان حق التفوق من جانب آخر.
مبدأ البقاء للأصلح الذي بدأ مع داروين في الطبيعة وانتقل مع نيتشه إلى الإنسان أخذ بإعادة تشكيل عوامله وظروفه وأدواته لينتهي إلى تأسيس مدارس بالغت في تركيز عناصر التفوق في الأجنة والأجناس والأعراق والألوان مقابل توجهات اجتماعية وتاريخية تصالحية (إنسانية) مضادة رفضت الأخذ بهذه التوصيفات قياساً أخيراً للتراتب الكوني والتمييز بين البشر. وأدى الاختلاف في القراءات إلى إدخال النخبة الأوروبية في مسارات فلسفية - اجتماعية متنوعة التوجهات حاولت تأويل نهضة أوروبا «ولماذا حصل ما حصل» انطلاقاً من مناهج تاريخية بذلت جهدها العقلي والتوثيقي لمقاربة اللحظة الزمنية التي دفعت القارة نحو التطور الانقلابي السريع في خطواته ومحطاته.
من «أين بدأ التطور وكيف» كان السؤال الأول. إلى «أين ينتهي التطور وما هو الشكل النهائي الذي ستستقر عليه البشرية» كان السؤال الثاني.
سؤال «النهايات» لم ينفصل عن سؤال «البدايات». فالنهاية سواء كانت سعيدة أم شقية أو بين الدرجتين اختلفت عليها النخبة، كذلك كان حال البداية ودفعتها التكوينية الأولى.
هيغل في فلسفته (المخطط التاريخي) أكد أن الأنوار بدأت من الشرق (الصين مهد الطفولة) وأخذت بالتطور (صراع الأفكار) والانتقال إلى الهند وبلاد فارس واليونان والرومان وصولاً إلى الجرمان (بروسيا). فالشمس تاريخياً أشرقت برأيه في الشرق وستغرب في الغرب. والأنوار التي بدأت في الشرق كانت طبيعية (الشمس) وخارج وعي الإنسان بينما هي في الغرب ستكون إنسانية لأن النور (التنوير) سيخرج من داخل الإنسان (ذاته) لا خارجه (الطبيعة).
ماركس أخذ مخطط هيغل التاريخي وأعاد تشكيل محطاته قالباً آلياته من المثالية (الفكرة) إلى المادة (الاقتصاد) معتبراً أن النهاية شيوعية حين تنجح الطبقة العاملة (البروليتاريا) في إلغاء التناقض بين نمط «الإنتاج الاجتماعي» وأسلوب «الملكية الخاصة». وإنجاز هذه المهمة التاريخية الصعبة (أزمات عالمية دورية مرة كل عشر سنوات تقريباً) سيؤدي في النهاية إلى تفكك الطبقات (تناقض الأضداد) وغياب الدولة - الطبقة عن مسرح التاريخ بعد أن يتحقق «المجتمع الفاضل» ويبلغ تقدمه الأقصى ما يؤدي إلى استغناء الإنسان عن أدوات الهيمنة والسيطرة والقمع وبالتالي تخطي (اضمحلال) وظائف الدولة.
اختلاف فكرة النهايات بين هيغل وماركس لم يمنع اتفاقهما على تعيين فترة النهوض الأوروبي (البداية). فالبداية المعاصرة عند هيغل وماركس انطلقت من القرن الخامس عشر. هيغل قرأ البداية فكرياً (فلسفة ديكارت من نتاجاتها الأولية) وماركس اعتبر أن الاكتشافات الجغرافية شكلت المنعطف في السياق الطبيعي الكوني لنمو «الرأسمالية» حين تحول الإنتاج من بضاعة للاستهلاك الفردي إلى فائض يتجاوز حاجة السوق ويحتاج إلى تصدير وتوسيع الدائرة لاحتوائه.
الرأيان انطلقا من القرن الخامس عشر. الأول فلسفي - تنويري، والثاني جغرافي - اقتصادي. وهذا ما جعل ماركس يختلف عن هيغل في تصوره «المادي» حين قرأ المستقبل انطلاقاً من آليات الماضي وانكسارات الحاضر. والاختلاف بين المنهجين أسس منهجية ثالثة قرأت اللحظة الزمنية لتطور أوروبا انطلاقاً من الدين (حركة الإصلاح البروتستانتية) بوصفه ذاك الإطار الاجتماعي - التاريخي لحركة الاقتصاد وتنوعه الإنتاجي.
الاتجاه الجديد في قراءة البدايات أسسه ماكس فيبر في آلية تاريخية - فلسفية بدأت مخططها من القرن السادس عشر لا الخامس عشر. أثار التعديل الذي أدخله فيبر على العوامل الدافعة (العلة الأولى) نقاشات بشأن التوقيت ودقته الزمنية ومدى صحة دور الدين في إنتاج التطور الحديث وبالتالي إمكانات تكيف المسيحية المعاصرة مع مدارس إلحادية ومادية أخذت تنتشر وتهمين على عقل «النخبة» وجنونها المعرفي.
ولد فيبر في آرفورت في العام 1864 (السنة التي بدأت فيها الولايات المتحدة بالخروج من آثار الحرب الأهلية التدميرية والظهور كدولة كبرى). درس فيبر في هيدلبرغ وستراسبورغ وغوتنفن (1882-1886) القانون واستخدمه منهجاً رياضياً في كتابة أطروحته عن «الملكية والمجتمع التجاري». درجة الدكتوراه التي حصل عليها فيبر في العام 1889 أهلته ليصبح رجل قانون في العلوم القضائية في العام 1892 ما وفر له فرصة للاطلاع على وثائق الملكية في أرشيف جامعة برلين وجامعات أخرى حين عمل أستاذاً في فلسفة القانون (القضاء) واللاهوت والتاريخ والاقتصاد السياسي بين 1893 و1897. بعدها غادر مهنة التعليم في العام 1903 ومارس القضاء فترة قصيرة، ثم تفرغ للإشراف على إصدار مجلة اجتماعية في العام 1904 ويقوم خلالها برحلة استكشافية إلى أميركا ليتعرف على خصوصيتها «الرأسمالية» المختلفة في تكوينها التاريخي - الاجتماعي عن رأسمالية أوروبا.
في العام 1904 - 1905 كتب فيبر مجموعة نصوص انتقد فيها الماركسية معتمداً على نظرية ترابط العلوم ودور الدين في تشكيل الاقتصاد وهو ما عرف لاحقاً بعلم الاجتماع الديني. وشكلت ملاحظاته البسيطة محاولة لضبط الفلسفة في إطارات عقلانية تتخطى موجة «تغيير العالم». فالعقلنة برأيه تعيد تركيز الفكرة على سكة حديد قانونية لا شعبوية. خلال هذه الحقبة تأثر فيبر بفلسفة كانط (العقلانية) ومدرسة هيغل التاريخانية ومنهجية ماركس الاقتصادية (التحليل والتفكيك) ولغة نيتشه المجنونة (الانفعالية) ليؤسس رؤية مستقلة في قراءة علم الواقع (العلم بالواقع) تطورت إلى نظرية خاصة في فهم الأشكال التاريخية والأنماط الاجتماعية وكيفية تكوينها.
اجتهاد فيبر في تطوير علوم الاقتصاد السياسي التاريخي ساعده في تجاوز الماورائية (الوقائع الماورائية) إلى تكوين رؤية تاريخانية أخذت تدرس التشكيلات الاجتماعية كالدولة والمنظمات الحرفية والمجتمعات العاملة والهيئات المهنية والمؤسسات انطلاقاً من الربط العقلاني (الكانطي) بالمنهج التاريخي (الهيغلي/ الماركسي) بالمعرفة القانونية واتصالها بالمعرفة العينية (الواقع وأنظمة الملكيات). فهذه التشكيلات تمثل برأيه تطورات تاريخية نمطية وجملة نشاطات نوعية لأشخاص مفردين ضمن شبكة من العلاقات الاجتماعية.
المعرفة القانونية بالتاريخ الاجتماعي للتشكيلات بدأت عند فيبر حين درس قانون التجارة في المدن الإيطالية والتاريخ الزراعي لروما، ما فتح له باب تأسيس نظرية تكشف العلاقة بين القانون العام والملكيات الخاصة (صكوك التملك) وأنظمة التجارة (الوقائع العينية). وأدت هذه المعرفة بالقانون بوصفه الإطار التاريخي الذي ينظم العلاقات الاجتماعية ويرتبها في سياقات اقتصادية (مواثيق التجارة والزراعة والعقار) إلى استنتاج فيبر بأن البروتستانتية في القرن السادس عشر شكلت ذلك الدافع الأول (الحافز أو المحرك) لنمو الرأسمالية المعاصرة في أوروبا وانتقالها العيني من الجنوب إلى الشمال والغرب.
الإصلاح الديني كان بداية التطور المعاصر في رؤية فيبر الفلسفية وهو شكل خطوة تاريخية في كسر الأنماط الإنتاجية للتشكيلات الاجتماعية التي تتضمن خريطة طريق قانونية للملكيات والأنظمة وشبكة المنظمات الحرفية والهيئات المهنية. وهذه الشبكة الموروثة شكلت النواة الأولى للتراكم الأولي للرأسمالية المعاصرة في ظل إطارات إصلاحية دينية (بروتستانتية).
واجهت نظرية فيبر عن الدفعة الأولى (أصول التطور الأوروبي) ردود فعل سلبية من جانب القوى الماركسية التي اعتبرتها قوة اعتراض مثالية على المدرسة المادية، وإيجابية من جانب القوى التي ترى في الإصلاح الديني نقطة عبور للحداثة. إلا أن النقاش تجاوز الإطار الزمني حين رد على فيبر خبراء في التاريخ الأوروبي أكدوا أن بدايات الرأسمالية تشكلت اجتماعياً في شمال إيطاليا قبل ظهور «البروتستانتية» بفترة قصيرة.
الاختلاف على «العلة الأولى» وأسبابها وعواملها وظروفها لم يحسم بين المدارس الأوروبية حتى الآن، ولكن مختلف الفروع الفلسفية (النخبوية) تؤشر مجتمعة إلى القرن الخامس عشر لما شكله من منعطف تاريخي في مسار الحضارات. وأهمية فيبر في هذا المعنى أنه نجح في توليد حوار اضطره لاحقاً إلى تغيير رأيه في فترة التوقيت من دون أن يتراجع عن منهجه الفلسفي القانوني في قراءة تاريخ التشكيلات الاجتماعية وترابطها العياني مع الدين.
فيبر الذي توفي في ميونيخ العام 1920 شهد في حياته الكثير من المتغيرات البنيوية وعاصر حروب الانتحار (الدمار الذاتي) وعايش نهاياتها التي أدت إلى استخدام أسلحة الدمار الشامل (القنابل الكيماوية والبيولوجية والغازات السامة والخردل) وقوضت المدن وقضت على 15 مليون نسمة في أوروبا وغيرت خريطة العالم السياسية (تفكك السلطنة العثمانية وانهيار الامبراطورية النمسوية - الهنغارية وهزيمة ألمانيا وانتصار الثورة البلشفية في روسيا) وأنتجت موازين قوى إقليمية صاغت ما يسمى بالنظام العالمي الجديد.
النظام العالمي الجديد الذي بدأ تأسيسه في مؤتمر فيينا العام 1815 تطورت نواته الأولى ليعاد توليفه وتحديثه في مؤتمر برلين 1878 ثم ليعيد إنتاج قوانينه وترتيبها في ضوء نتائج الحرب العالمية الأولى في فرساي.
شملت معاهدة فرساي التي وقعت العام 1919 بين ألمانيا (دول المحور) ودول الحلفاء في باريس 434 مادة أهمها المادة 231 التي حمّلت ألمانيا مسئولية الحرب وطالبتها بدفع تعويضات مالية والتخلي عن مستعمراتها وراء البحار (آسيا وإفريقيا) و التنازل عن الاليزاس واللورين لفرنسا. فهذه المعاهدة القاسية التي ألهبت المشاعر القومية وشجعت لاحقاً على نهوض الحركات الفاشية في إيطاليا والنازية في ألمانيا وأدت إلى تبرير اندلاع الحرب العالمية الثانية (1939-1945) لم تقتصر تأثيراتها الجيوبوليتكية على أوروبا وإنما أعطت ذريعة قانونية تاريخية لبداية خروج قوة عظمى (أميركا) من أرضها ومحيطها الجغرافي ومجالها السياسي الإقليمي إلى العالم.
معاهدة فرساي 1919 شكلت ذلك «البرزخ» الجغرافي - التاريخي بين لحظة تراجع أوروبا عن موقع الريادة والقيادة (النموذج العالمي) وبين بدء ظهور الولايات المتحدة على المسرح الدولي لتقود العالم في القرن العشرين.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2870 - الخميس 15 يوليو 2010م الموافق 02 شعبان 1431هـ