العدد 2393 - الأربعاء 25 مارس 2009م الموافق 28 ربيع الاول 1430هـ

تكوّن المجتمع البحريني قديما وتطوره

المجتمع البحريني القديم كأي مجتمع آخر كوّن لنفسه حضارة مادية معينة وثقافة خاصة به، أما الشعب فكوّن لنفسه لغة خاصة وتكون له محتوى جيني معين. وكل تلك العناصر التي تكونت قابلة للتغير والتطور، ويمكننا أن نناقش ذلك التطور حسب نماذج معينة. هذه النماذج يجب أن تتناول كيف تكونت جزر البحرين جيولوجيا وكيف تكونت الأشكال الجيومورفولوجية لسطح جزيرة البحرين (دورنكامب وآخرون) وكيف تكون المجتمع البحريني تاريخيا وأركيولوجيا (نموذج لارسن) و يجب أن تفسر النماذج كيف تكون الشعب نفسه وهل له امتداد متواصل أو منقطع وكيف كون لغته أو لهجته الخاصة به (النموذج الجيني اللغوي) وأخيرا، كيف أثرت البيئة المحلية في ثقافته وكيف انتقلت الثقافة من جيل لآخر وكيف تغيرت، وكيف أثرت البيئة في جيناته فقوة البيئة تؤثر على المحتوى الجيني للفرد (التطور الجيني الحضاري المتزامن). لا يمكننا أن نخوض في كل هذه النماذج من دون أن نعطي مقدمات لها ومدى ترابطها وكيف يقوي بعضها الآخر. فلكل نموذج من هذه النماذج هامش أو نسبة من الخطأ، ولكن عندما تتفق جميع النماذج على مجموعة من الحقائق فإننا نقلل بذلك هامش الخطأ لأقل ما يمكن.


نموذج لارسن

دراسة لارسن هي الدراسة الوحيدة من نوعها في البحرين التي درست تكون المجتمعات القديمة في البحرين، وكيف توسعت هذه المجتمعات ومن ثم تقلصت ثم عادت وتوسعت مرة أخرى. وكل ذلك ضمن نموذج يراعي المعطيات البيئية والعمليات الجيولوجية التي أثرت في جزر البحرين.

في محاولة لإعادة بناء كيفية تكون المجتمعات على أرض البحرين استخدم لارسن المعلومات المتوافرة عن الأحداث الجيولوجية التي مرت على البحرين والكم من المعلومات التاريخية المتاحة، إلا أن هذه المعلومات لم تكن كافية. فأضاف لها معلومات جديدة قام بتحليلها من معطيات أركيولوجية وسكانية. كان الهدف استخدام إعادة بناء البيئة والتقنية والشعوب كمؤشرات فعالة على تغيرات حضارية مستمرة. وهكذا، بدأ بالحصول على المعلومات المهمة بعد عزل ودراسة كل عامل على حدة بعدة طرق، فقام بتحليل السكان الحاليين ومشاكلهم مع استغلال الأراضي، بعد ذلك قام بعمل تنظيم زمني أركيولوجي للبحرين وذلك ليبني من خلاله إطارا لتحديد الاستيطان القديم ونظام استغلال الأراضي. وقام لارسن باستخدام المصادر التاريخية ليعيد بناء الأنظمة الاقتصادية والبيئية القديمة. وأخيرا قام بتحليل أشكال السطح والتضاريس لجزيرة البحرين وذلك ليبني سجل للعمليات البيئية التي أثرت على شكل السطح ومن ثم يضيف إطار جيولوجي ليتمكن من ملاحظة تنظيم استغلال الأراضي والاستيطان.

ومن خلال دراسة لارسن يمكننا معرفة بداية الاستيطان في جزر البحرين ومتى توسع ومتى تقلص وأي المناطق التي كانت مستوطنة سابقا. بعد لارسن كانت هناك دراسات تضيف معلومات تاريخية ومكتشفات لمقابر ومحثات جديدة. وعلى هذا الأساس يمكننا تحوير بعض المعلومات التي أوردها لارسن ولكن دون المساس بالنموذج نفسه. وحتى بعد تعديل بعض المعلومات يبقى نموذج لارسن عاجزا عن الإثبات بصورة قطعية أن هناك وجود تتابع مستمر لسكان بصورة مستمرة. النموذج يوضح وجود استيطان مستمر دون انقطاع ولكن ماذا عن السكان أنفسهم ومدى اندماج الكتل السكانية المختلفة التي تعايشت جنبا لجنب في فترات مختلفة من التاريخ.


نموذج علم وراثة الشعوب

علم وراثة الشعوب يركز على دراسة علامات خاصة تميز كل مجموعة من الشعوب بعلامات جينية خاصة، وأن دراسة تاريخ هذه العلامات الجينية يوضح لنا مدى قدم هذه الشعوب ودرجة اندماجها بشعوب أخرى وخاصة إن توافرت معلومات تاريخية تبين نمط الهجرة لهذه المناطق أو منها.

من خلال بعض القوانين والنماذج التي تستخدم في علم دراسة الوراثة البشرية يمكننا استخدام بعض الأمراض الوراثية كعلامات جينية مميزة، ومن خلال دراسة تاريخ هذه الأمراض ونشأتها يمكننا أن نبني نموذجا لطريقة تكون هذه الشعوب. كل ما علينا بعد ذلك مقارنة هذا النموذج المستخلص من دراسة الجينات بنموذج تكون المجتمعات في البحرين قديما وشرح النموذجين جنبا لجنب. وفي حال وجود تطابق لهذه النماذج بحيث يفسر أحدهم الآخر نكون قد توصلنا لنموذج يفسر لنا مدى تتابع السكان وارتباطهم ببعض ودرجة اندماج الكتل السكانية قديما.


اللغة واللهجة

تعتبر اللغة من المؤشرات المهمة في دراسة الهوية الإثنية للشعوب، ويعتر كتاب كفالي سفورزا و آخرون عن تاريخ وجغرافيا تاريخ الجينات البشرية أهم مرجع لدراسات المجمعات الإثنية البشرية في العالم باستخدام التاريخ وعلم الجينات واللغة. وبنفس الطريقة يمكننا دراسة اللهجات والتي تعتبر فرع من لغة وذلك بمعاملة اللهجة كلغة وتطبيق حزمة قوانين من خلالها يمكننا تتبع ظهور وتطور اللهجة.

فاللهجة العامية لجماعة ما تعتبر الحدود الداخلية لهذه المجموعة فهي كالعلامة الإثنية المميزة لهم. يقول الأديب الإيطالي دانتي (1265م - 1321م) اللغة العامية «إننا ندعو الكلام العامي ذاك الذي يتعلمه الأطفال ممن حولهم عندما يبدأون لأول مرة في التمميز بين الكلمات، أو بختصار شديد، نقول إن الكلام العامي ذاك الذي نكتسبه من دون أية قاعدة، من خلال تقليدنا لمربيتنا».

ولأن دانتي عاش في فترة لا تعتبر لغته العامية هي اللغة الرسمية فيقارن لغته العامية بالأخرى ومن خلال ذلك يصف كل لغة عامية عند أي شعب أنها اللغة الأصل وأن أي لغة تستخدم بدل منها فهي مصطنعة فيقول «وتعتبر اللغة العامية هي الأنبل، لأنها اللغة الأولى التي استخدمت من قبل الجنس البشري، ولأن العالم كله يستخدمها حتى ولو كانت مقسمة إلى كلمات وتعابير مختلفة، ولأنها أيضا طبيعية بالنسبة إلينا، في حين تعد الأخرى مصطنعة ومتكلفة».

لست هنا في صدد تجديد وترويج «الدعوة للعامية» ولكن فقط لتوضيح أن هناك و منذ القدم تيار حافظ على اللهجة العامية، وحتى في تاريخ العرب نلاحظ أن لكل قبيلة لهجة تداولها فيما بينها ولغة عربية فصحى تكون مشتركة بين القبائل وهي لغة الشعر واللغة التي نزل بها القرآن فعززها. ولكن مع ذلك بقيت لكل قبيلة ميزة لهجوية تميزها، ونقرأ في كتب فقه اللغة لغة تميم وغيرها من القبائل.

نخلص من كل ذلك أن لكل جماعة لغة عامية تكونها عبر فترة معينة من الزمن وتتطور معهم ضمن قوانين محددة لتطور اللغة وبعد فترة من الزمن تكون هذه اللهجة كعلامة إثنية تميزها ونلاحظ بوضوح عند الانتقال من منطقة عربية لأخرى كيف تتغير اللهجة وكيف يمكننا تميز كل شخص والبلد الذي ينتمي له. فاللهجة إذا تمثل الحدود الداخلية للجماعة وربما لعبت دورا كبيرا في تحديد الحدود السياسية للدول كما يوضح لنا ذلك الفيلسوف الألماني فيخته العام 1806م حيث يقول:

«إن الحدود الطبيعية الأولى والأصلية للدول بشكل دقيق هي - من دون شك - حدودها الداخلية. وجمع أولئك الذين يتكلمون اللغة نفسها عددا كبيرا من الروابط الخفية نسجتها الطبيعة نفسها منذ عهد بعيد، قبل أن يبدأ أي فن إنساني. ويفهم هؤلاء بعضهم ولديهم قوة الاستمرار في تمكين الناس من فهمهم بشكل أكثر وضوحا. وينتمون إلى جسد واحد وهم كل طبيعي متلازم لا يمكن فصله».

إلا أن هناك حالات تكون فيها حدود الجماعة أكبر من الحدود السياسية للدولة، وهذا يعني أن هذه الجماعة كانت منذ عهود طويلة جسد واحد فصلت بسبب ترسيم الحدود السياسية. طبعا في هذه الحالة لا يمكننا الاعتماد فقط على اللهجة لإثبات ذلك ولكن يجب أن تكون هناك علاقات أخرى نسجت على مدى عهود طويلة من الزمن كالتاريخ المشترك والعلامات الجينية المشتركة وكذلك العلامات الثقافية والفكرية المشتركة.


نماذج النقل الثقافي

بدأت فكرة النقل الثقافي منذ القرن التاسع عشر، وكان رواد هذه النظرية سواء علماء الآثار أو الأنثروبلوجيا من مثل بوس وهولمز وبيتري متأثرين بأفكار داروين في نظرية التطور. وكانت نظرية النقل الثقافي في تلك الفترة بسيطة فكانت تعتمد على نموذج التوغل الثقافي أو الانتشار والذي ينص على أن الجماعات المتقاربة ستكون لها نفس العوامل الثقافية أو نفس اللقى الأثرية باعتبار أن الأفكار انتقلت من مجموعة لأخرى.

إلا أن نظرية النقل الثقافي تطورت بصورة كبيرة وأدخلت بها عوامل أخرى غير العامل الثقافي أو اللقى الأثرية أو البعد الزمني والجغرافي بل دخل العامل الجيني والنفسي. واعتبرت الثقافة ضمن نظرية النقل الثقافي أنها تتكون من وحدات أو معلومات هذه الوحدات يمكن لها أن تنتقل عبر آليات معينة بين الأفراد في الجيل الواحد أو بين الجماعات أو بين الأجيال. وبهذه الصورة تأتي الثقافة في المرتبة الثانية بعد الجينات يمكن توارثها عبر آليات معينة.

هذه الوحدة الثقافية أو المعلومة أطلق عليها دوكنز العام 1976م مسمى «ميم» meme وهي مشتقة من mimeme اللاتينية بمعنى «محاكاة». وقد أسماها دوكنز ميم لتكون على وزن جين واشتقها من المحاكاة لأنه يزعم أن الثقافة تنتقل عن طريق المحاكاة. وأن الميم مثل الجين قادرة على التناسخ والانتقال من فرد لآخر وأنها تتعرض للتغيرات. وهي أيضا كالجينات فالميمات التي تبقى على مدى أجيال طويلة لابد وأن تكون لها ميزة انتقائية.

وهناك دراسات تركز على ميمة واحدة فقط وكيف بقت وكيف انتقلت بين الأجيال وكيف تطورت و الآليات التي عملت على بقائها وانتقائها. وعلى سبيل المثال فالموروثات الشعبية تعتبر ميمات وقد ركزت بعض الدراسات على الاساطير والخرافات كونها ميمات لها ميزة انتقائية كالانتقائية العاطفية و الانتقائية المعلوماتية. وقد أدى التركيز على دراسة الميمات منفصلة لظهور علم الميمات. وقد ظهرت نظريات أو فروع من علوم مختلفة مشتقة من نفس مفهوم انتقال الثقافة من مثل «علم البيئة السلوكي للإنسان» و»علم النفس التطوري» و»التطور الثقافي». وقد وجه النقد لأي نظرية منها تتناول سلوك الإنسان مع البيئة وتهمل الجينات، أما النظرية التي نادرا ما تعرضت لنقد فهي نظرية «الوراثة المزدوجة» أو تسمى أيضا «التطور لجيني الحضاري المتزامن» وهي نظرية طورت من قبل فريق كفالي سفورزا وفيلدمان العام 1981م وتنص على أن التغير الجيني يؤثر على السلوك الإنساني تجاه البيئة وكذلك البيئة أو الحضارة تؤثر على الجينات، فمثلا السلوك الزراعي للإنسان الذي يؤدي إلى وجود كميات كبيرة من المياه الراكدة تؤدي لازدياد أعداد البعوض الذي ينقل عددا من الأمراض من تلك الأمراض الملاريا، وقد أدى ارتفاع نسبة الملاريا لحدوث تغير جيني تكيفي في الإنسان الذي أدى لظهور مرض فقر الدم المنجلي، فالشخص الحامل لهذا المرض (ورث جين واحد فقط للمرض من الأب أو الأم) لا يموت من الملاريا ولكن الشخص المصاب بمرض فقر الدم المنجلي (ورث الجينين المصابين من الأب والأم) يموت من شدة المرض. وبهذه الصورة فأعداد كبيرة من الناس أما ستموت من الملاريا أو مرض فقر الدم المنجلي وتبقى المجموعة التي تحمل مرض فقر الدم المنجلي لكنها غير مصابة به هي الأكثر تكيفا مع البيئة و الأوفر حضا للنجاة. وكلما زادت المياه الراكدة ارتفعت نسبة مرض الملاريا وزادت نسبة الحاملين لمرض فقر الدم المنجلي.

تفسر أيضا نظرية كفالي سفورزا وفيلدمان طرق انتقال الثقافة وهي تعتمد على نماذج وآليات تحكم الانتقال الثقافي مضافا لها عامل الجينات والتاريخ والبعد الجغرافي ومدى التغير البيئي أو ثباته. وقد أضيف لهذه النماذج نماذج أخرى من قبل فريق آخر هو فريق بويد وريتشاردسون العام 1985م .

باستخدام هذه النماذج يمكننا تعليل لماذا تكون جماعتين متشابهتين في بعض أجزاء الثقافة أي بعض الميمات لكنها تختلف في اللهجة ولا تشترك في علامات جينية أو أن تكون جماعتين متباعدتين لكنهما متشابهتين في اللهجة والثقافة ووجود علامات جينية مشتركة. ويمكننا أن نحدد ميمات خاصة بالهوية الإثنية وذلك عندما تكون هذه الميمة مشتركة بين جماعات تتشارك اللهجة وعلامات جينية خاصة مميزة وفي حيز جغرافي متقارب فإن هذه الميمات هي جزء من هوية هذه الجماعات حيث توارثتها عبر الأجيال. وسوف نتناول تلك النماذج والآليات مفصلة مع تطبيق بعض النماذج التي تتوافق مع انتقال الثقافة وتطورها في المجتمع البحريني.

العدد 2393 - الأربعاء 25 مارس 2009م الموافق 28 ربيع الاول 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً