اليوم تكون قد مرت أربع سنوات على بدء العدوان الإسرائيلي على لبنان في صيف 2006. وقبل أن تقترب الذكرى بدأت حكومة تل أبيب بترويج مخاطر أمنية عليها من الجانب اللبناني انطلاقاً من تضخيم حجم الترسانة الصاروخية التي يمتلكها حزب الله. وزير الدفاع إيهود باراك قال إن المستودعات تضم أكثر من 50 ألفاً. رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو رفع الرقم إلى 70 ألفاً. رئيس الدولة المحنك شيمون بيريز بالغ في التضخيم وسجل رقماً قياسياً في حفلة المزايدات إذ أوصل رقم الصواريخ إلى 90 ألفاً.
لم تتوقف حملة ترويج المبالغة والمزايدة على الأرقام (50 و70 و90) وإنما اتجهت إلى تخطي العدد بإكثار الكلام عن النوعية وتكرار التحدث عن إدخال منظومات جديدة تهدد العمق الإسرائيلي وكل المدن والمطارات والموانئ والمواقع الأمنية والمؤسسات الاقتصادية وغيرها من فروع إنتاجية. قبل شهر مثلاً قرعت تل أبيب طبول الحرب وأثارت عاصفة من الكلام الصحافي بشأن تزويد سورية حزب الله بمنظومة صواريخ «سكاد» الضخمة التي تحمل رؤوساً قادرة على الدمار الشامل. بعد ذلك أغرقت عواصم الغرب بمعلومات عن كميات صاروخية تنقلها شاحنات تعبر سراً الحدود اللبنانية من الجانب السوري. بعدها أخذت تروج الدعاية الإسرائيلية عن وجود مصنع إيراني - سوري في مكان ما ينتج صواريخ مخصصة للتصدير إلى حزب الله. وأخيرا وصلت الدعاية إلى حد أقصى حين قال بيريز في مقابلة تلفزيونية إن كوريا الشمالية تصنع صواريخ ترسل إلى إيران ثم تنقل إلى سورية ومنها إلى حزب الله ما يشكل تهديداً على أمن «إسرائيل» وعمقها السكاني.
هذه الموجات المتتالية من المبالغات تطرح أسئلة بشأن القصد من وراء إثارة هذه الزوابع الإعلامية وإظهار قوة حزب الله مضخمة بهذا الحجم الخرافي من ناحية كمية الصواريخ أو ناحية نوعيتها وقدرتها التدميرية. فالكلام لا يطلق هكذا من دون غاية تستهدفها تل أبيب من خلال استخدام وسائل الإعلام الدولية وتزويدها بمعلومات وخرائط وصوراً جوية التقطتها الطائرات تؤشر إلى مستودعات هائلة منتشرة في مئة قرية لبنانية في الجنوب.
هناك وظيفة لهذا النوع من الكلام الذي يروج معلومات غير مؤكدة عن معابر وطرقات ومستودعات وشبكة مواصلات ممتدة من كوريا الشمالية إلى إيران ومنها إلى سورية وأخيراً لبنان. فما القصد من هذا التضخيم والمزايدة في أعداد الصواريخ وأنواعها ومصادرها وخطوط إمداداتها؟
الكلام عادة لا يقال للاستهلاك وتقطيع الوقت إلا إذا كان هدفه تخويف الداخل الإسرائيلي وتحريضه على التماسك في وجه عدو خارجي يستعد لتوجيه ضربة قاضية لا تقتصر على القشرة (الحدود) وإنما ستطاول العمق البشري وكل المدن والمراكز والمواقع.
جانب التخويف الداخلي للحشد والاستعداد للمواجهة غير مستبعد ولكنه ليس كافياً لتبرير هذه الحملة الإعلامية ضد لبنان (دولة ومقاومة) وسورية (المعبر) وإيران (المصنع). فالكلام لابد أن يكون له جوانب أخرى تلبي وظيفة محددة ترد على حاجة إسرائيلية ومتطلبات تتجاوز حدود الخوف من حرب مقبلة.
ما هو القصد من المبالغة وتضخيم قدرات حزب الله الصاروخية العددية والنوعية مع الإشارة إلى تحديد مصادر السلاح وتسمية سورية وإيران وأخيراً كوريا الشمالية كعناوين للجهات المسئولة عن مراكمة هذه الترسانة الهائلة في مستودعات منتشرة بين بيوت الأهالي والمدارس والمستشفيات والمساجد في الجنوب؟
احتمالات كثيرة يمكن رصدها لقراءة أبعاد تلك الحملات الإعلامية منها أن «إسرائيل» ليست خائفة من تلك الصواريخ وهي مستعدة للرد أو المواجهة على الجبهتين القريبة (لبنان وسورية) والبعيدة (إيران). ومنها أن «إسرائيل» تطلب الحماية أو المساعدة المالية لتطوير مظلتها العسكرية للوقاية من تلك الصواريخ المتهاطلة عليها من الشمال. ومنها أن حكومة تل أبيب تحذر سلفاً من الخطأ في الحسابات وهي لن تتردد في ضرب كل المواقع المضادة سواء كانت مدنية أو عسكرية لأنه برأيها كل الأماكن معادية وتضم المستودعات المتخمة بالصواريخ. ومنها أن حكومة نتنياهو تريد توجيه رسالة تبلغ اكتمال استعدادها لاستئناف حرب 2006 بعد أن راجعت الثغرات وحددت نقاط الضعف وقامت بتجربة قوتها واختبارها في العدوان على غزة في نهاية 2008 ومطلع 2009. ومنها أيضاً أن تل أبيب تريد توجيه رسالة تنبيه تحذر من اتخاذ خطوة ميدانية سيكون الرد عليها قوياً ويتجاوز حدود لبنان وصولاً إلى المعابر والطرقات والمصادر والمصانع.
كل هذه الاحتمالات واردة. ولكن غير المفهوم لماذا المبالغة في الأرقام وتضخيمها من 50 إلى 70 إلى 90 ألفاً مرفقة بمعلومات عن تطور نوعي في حجم الصواريخ ومسافاتها وقدراتها التدميرية. فهذا الكلام مفهوم إذا صدر من جانب الخصم لأن القصد منه التنبيه والتخويف والتحذير من مخاطر التطاول على لبنان أما أن يصدر عن الجانب المضاد والمعني به مباشرة فهو فعلاً يحتاج إلى قراءة مختلفة.
القراءة المغايرة تبدأ من تحديد «إسرائيل» لمصادر الصواريخ. في السابق كانت تكتفي بالإشارة من دون تسمية المنتج وتلك المعابر والمداخل، ولكنها الآن أخذت تردف اسم سورية وإيران إلى جانب لبنان ما يعني أن هناك تعديلات في اللعبة الإقليمية ومسارات قواعد الاشتباك.
توسيع نطاق الدائرة مسألة جغرافية ولكنها أيضاً عسكرية وهي تعني الكثير من الإشارات. من جانب تريد أن تحذر الأطراف من أن قواعد اللعبة أخذت بتجاوز الساحة اللبنانية ومن جانب تريد أن تؤشر إلى قدرة «إسرائيل» على توسيع دائرة الاشتباك وهي باتت مستعدة لهذا الاحتمال.
الكلام عن 50 و70 و90 ألفاً لا يقصد منه ترسانة حزب الله ومستودعاته الصاروخية فقط، وإنما يشمل الرقم القيمة المضافة من حجم القوة الصاروخية ونوعيتها الموجودة أصلاً في سورية أو تلك التي تمتلكها إيران. فالتضخيم مقصود به أكثر من طرف وهو يوجه رسالة تقول إن «إسرائيل» أضافت الصواريخ السورية والإيرانية في مجمل حساباتها العامة إلى المستودعات اللبنانية ما رفع عددها الإجمالي إلى هذا التقدير العالي من الأرقام.
المبالغة والتضخيم والاتهامات المباشرة إلى سورية وإيران وتوزيع صور عن مستودعات في قرى الجنوب ونشر خرائط عن المعابر والمرافق وخطوط الإمداد وتكرار الكلام عن مصنع مخصص لتزويد حزب الله بالصواريخ كلها إشارات لا تعني أن الحرب قائمة غداً أو في القريب العاجل. فهذا النوع من الأحاديث الصحافية التي تروج لأكاذيب لا يعني بالضرورة أن المنطقة (لبنان تحديداً) مقبلة على مواجهة عسكرية مفتوحة على جبهات قريبة وبعيدة وإنما يعني على العكس من ذلك. فالمبالغة المعطوفة على الإشارة إلى أسماء المصادر والمعابر تؤكد أن قواعد اللعبة اختلفت نسبياً وبالتالي فإن الأطراف المعنية عليها مراجعة حساباتها حين يبدأ الاشتباك. توسيع الدائرة يفترض ضمناً تأجيل الحرب لأن كلفتها العامة لن تقتصر كالعادة على الساحة اللبنانية وإنما ستشمل ساحات غير مستعدة أو هي على الأقل بحاجة إلى تأهيل لتحمل تداعيات اختلاف قواعد الاشتباك. وهذا يفترض أن الحرب مؤجلة إلى توقيت آخر.
الحرب المدمرة التي قادتها «إسرائيل» في العام 2006 كانت مكلفة للبنان ولكن حكومة إيهود أولمرت تلقت بموجبها صفعة قوية حين أخفقت في تحقيق أهدافها ما أدى إلى إصدار القرار 1701 الذي أنتج معادلة التوازن السلبي في القوة فتجمد العدوان من دون أن يعلن رسمياً عن وقف إطلاق النار. وهذه السلبية ترسل إشارات غامضة فهي من جهة تعني أن الحرب لن تتكرر وإذا تكررت ستكون وفق قواعد جديدة وهي تعني من جهة أخرى أن احتمال استئناف العدوان مسألة وقت ومرهونة بمجموعة عوامل إقليمية تتجاوز حدود لبنان وقدراته الصاروخية.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2866 - الأحد 11 يوليو 2010م الموافق 28 رجب 1431هـ
مقال وتحليل محترم..
أشكر الكاتب على المقال المحترم، وبودي لو أقرأ مثل هذه التحليلات بشكل معمق أكثر لفهم طبيعة ما يجري حولنا، وشكراً جزيلاً..