حفلت صحافة الأسبوعين الماضيين بالأحاديث والتحليلات حول قمة الثمانية الكبار وقمة العشرين التي تلتها مباشرة. وبدا أنه حتى بعد أن فرط زمام المبادرة في قضايا الاقتصاد العالمي من يد مجموعة الثماني فأولت الأمر لمجموعة العشرين الأوسع، إلا أن «الثمانية» حرصت أن تعقد قمتها قبيل «العشرين» وتصدر مواقفها ليس حول الاقتصاد العالمي فقط، بل وأهم قضايا الوضع الدولي. وإذا كانت «الثمانية» تريد أن توحي للعالم بأنها هي التي لاتزال تهندس أحداثه، فإن كثيرين لا يعرفون بعد أن هناك قوة أخرى تعقد لقاءاتها في الخفاء وتحيط قراراتها بالكتمان هي التي ترى نفسها «نخبة النخبة العالمية».
الحديث يجري عن نادي بلدربيرغ الذي سبق وكتبتُ عنه قبل أكثر من عام. ففي يونيو/ حزيران الماضي عقد نادي بلدربيرغ لقاءه التشاوري الدوري للعام 2010 في منتجع سيتجيز الكاتالوني في إسبانيا. وهذا اللقاء يمكن أن يغدو «حبة خال» سوداء بالنسبة للاقتصاد العالمي وما سيرافقه من متغيرات في الأحداث والعلاقات الدولية. وقد أشارت إلى ذلك مذكرة تحليلية وردت إلى «زافترا» الروسية من لندن.
كالمعتاد لم تتسرب هذه المرة أيضاً معلومات وافية عن نتائج هذا اللقاء. يعرف العالم فقط ما سربه من معلومات أولية رائد متعقبي أخبار هذه المنظمة جيم تاكر، الصحافي الشهير من وكالة American Free Press الإخبارية، ونشرته خدمة الاتحاد الاجتماعي المناهضة للعولمة «أنتي غلوباليست». ومع ذلك فإن أعضاء بلدربيرغ أفصحوا هذا العام عن قلقهم الشديد من افتضاح أمورهم أمام الرأي العام العالمي، بحيث أصبح كل منهم في بلده يتلقى سيلاً من الاحتجاجات الغاضبة. أما هذه المرة فقد سمع شارل سكيلتون، صحافي «الغارديان» كيف كان أعضاء النادي قبيل اللقاء في فندق Dolce في سيتجيز يشتكون من تزايد أعداد المتظاهرين المحتجين بالقرب من أماكن لقاءاتهم السرية، بحيث باتوا يهددون تمرير خطط نادي بلدربيرغ السرية. هذا ما دفع بزبيغنيف برجينسكي، أحد أعمدة بلدربيرغ، لأن يصرح قبل اللقاء بأن يقظة الأمم السياسية حول العالم تنذر بالحيلولة دون التقدم على طريق بناء حكومة عالمية خلف الكواليس.
معروف عن تاكر دقة الأخبار التي يستقيها من مصادر داخل مجموعة بلدربيرغ، ما يجعل تسريبات هذا العام أكثر إثارة للجدل. من هذه التسريبات حفز توتر حاد في النزاع الأرمني الأذربيجاني حول ناغورني كاراباخ تتورط فيه كل من إيران وتركيا وروسيا. وجرت الإشارة بشكل خاص إلى أن زيارة وزير الدفاع الأميركي روبرت غيتس إلى باكو تشي بأن انتقال المواجهة إلى المرحلة المفتوحة يمكن أن يحدث في بداية الخريف المقبل. وأكثر ما يبعث على القلق هو أن غالبية البلدربيرغيين، بمن فيهم برجينسكي، يؤيدون الآن فكرة توجيه ضربات عسكرية جوية إلى إيران. ورغم أن بعض الأوروبيين يدعون إلى التريث، إلا «أن الميزان يميل لكفة مباركة هجوم أميركي على إيران» حسب تاكر. أما لماذا توتير الأوضاع في القوقاز وحول إيران؟ فالسبب، حسب تاكر أيضاً، يكمن في أن ذلك سيؤمن لرواد العولمة ما يطمحون إليه من صرف انتباه الرأي العام العالمي عن الإخفاقات في كثير من المجالات الأخرى، كما سيسمح لهم بالعيش على حساب الحروب ذاتها.
الأمر الآخر الذي شغل بال شخصيات بلدربيرغ هو استمرار هبوط اليورو الذي وصل مساء 4 يونيو/ حزيران إلى أدنى مستوى قياسي خلال الأربع سنوات الماضية فبلغ 1.19 دولار. باعث القلق هو من زاوية أنه إذا أنهى اليورو وجوده فإن ذلك سيضع حداً لكل آمال إنشاء عملة عالمية موحدة في المستقبل، حيث إن فكرة العملة الموحدة ستفقد جاذبيتها لدى غالبية بلدان العالم. فبحسب العولميين، اليورو ضروري لأنه يشكل جزءاً من برنامج بناء الحكومة العالمية. المذكرة التحليلية التي أشرنا إليها أعلاه تفيد بأن أعضاء بلدربيرغ يأملون أن يعاود اليورو، رغم الهبوط، ارتفاعه إلى 1.9 – 2 دولار لاحقاً.
وعلى الرغم من أن أعضاء بلدربيرغ شغلوا أنفسهم بمسألة مكافحة التغيير المناخي من باب فرض مزيد من الضرائب، حسب مقترح رئيس ميكروسوفت بيل غيتس، إلا أنه فيما يتعلق بتسرب النفط الذي تسببت به شركة أعطى البلدربيرغيين ما يفيد بأن «حدة» الرئيس أوباما تجاه هذه الشركة وتهديده بملاحقتها جنائياً ليس سوى استعراض فاض، وأن التي كانت ممثلة في اجتماعات بلدربيرغ السابقة بأناس من شاكلة بيتر سازرلاند، الرئيس غير التنفيذي السابق للشركة هو «واحد من أهم أخوتنا» كما يقول رفاقه، وبالتالي فإن الشركة في مأمن.
ظل مستقبل أسعار النفط أحد الموضوعات المهمة التي تشغل بال لقاءات نادي بلدربيرغ. فعندما ارتفعت أسعار النفط إلى 150 د/ب العام 2008 كان ذلك هو المستوى الذي طمح إليه بلدربيرغ في ذلك الوقت. أما الآن فهم يخططون إلى أن «أسعار البنزين ستكون جيدة ورخيصة هذا الصيف»، على أن تعاود الارتفاع حتى مستوى 4 دولارات للغالون عند حوالي نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، حيث سيحدث نقص مصطنع في عرض البنزين.
ناقش البلدربيرغيون فكرة الضريبة المصرفية التي يجب أن تدفع، برأيهم، مباشرة إلى صندوق النقد الدولي لأهداف تمويل الإدارة العالمية والمالية العالمية بقيادة الصندوق، وأنه سيتم، ببساطة، تحميل المستهلك هذه الضريبة.
لقاء نادي بلدربيرغ لهذا العام كان الأكثر تشاؤماً وسوداويةً لأنهم أصبحوا يشعرون بأن هدفهم النهائي بإقامة حكومة أوتوقراطية عالمية معادية للديمقراطية بقيادة «نخبة النخبة» أصبح تحت التهديد بسبب الاحتجاج الجماهيري العالمي المتزايد.
إقرأ أيضا لـ "عبدالجليل النعيمي"العدد 2866 - الأحد 11 يوليو 2010م الموافق 28 رجب 1431هـ