يتأثّر الإنسان بمحيطه حتماً. فالجغرافيا تُشكّل جزءًا من سماته. فإن ابتلعته الصحراء ووشمته بوهجها أصبح حادّ الطباع. وإن لفحته زخّات المطر ورذاذ الموج العاتي بات ليِّنَ السلوك قابلاً بالتغيير والمتغيّر. ثم إن تدافع الأفكار (وهي الأهم)، وتحوّلها من خامّة إلى مُغَرْبَلَة ومُشَذَّبَة تمنح الفرد مساحةً لكي يتقافز مرة بالقبول ومرة بالرفض وثالثة بين أمرَيْن.
هذا بالضبط ما كان يجري (وسيجري) للأجيال. في مراحل الشباب تأخذك الرّهبة من السّكون، فتلجأ إلى الحركة صوب أيِّ اتجاه كانت لمغايرة واقع مرفوض. أحياناً يحصل ذلك بدون وعي كافٍ بالأمور، غاية الأمر ومنتهاه هو أن تُثبت أنك ليس واحداً زائداً على الوزن. لكن الخاتمة عادة ما تكون مختلفة عن الطور الأول واللاحق للتفكير، وهي طبيعة البشر.
عندما كان الجيل «المُتديّن» في البحرين يُدرك الأشياء بنحو من الاندفاعة الشّبابية كانت الساحة الفكرية ذات لون واحد. رائحتها وطعمها واحد أيضاً. وكانت المفاضلة تجري بين مُكوّنات ذلك الـ «واحد». بالضبط كأشعَرِيٍّ يصول في حرّية ضمن قالب مُجبَر. كانت هذه المساحة مقبولة لدى الجميع لكنها أيضاً كانت قابلة لأن تتبدّل ولو بمقدار إلى اليمين أو الشمال.
لا أدري بالتحديد هل كانت الأمور تسير بدراميّة ساخرة أم هادِفة، لكن ما أتذكره هو أنها كانت تكتنف حِراكاً جيداً مع الذات، في ظلّ أحداث كبيرة بدأت مع انتصار الثورة الإسلامية في إيران وقوّة المدّ الثوري في المنطقة، ومروراً بأوضاع الحرب الأهلية في لبنان، ثم حرب تحرير الكويت ومؤتمر السلام في مدريد، وانتخابات الجزائر التي فاز فيها الإسلاميون بشكل كاسح.
كان المرجع الديني الراحل آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله (قد) قد رَمَى بأفكاره حينها حِذَاء ذلك القالب (الحر/ المُجبَر). كان حديثه مُختلفاً، جريئاً، ذا خيال مُتجاسر على المألوف. وباتت الأفكار السائدة (الفقهية/ التاريخية/ السياسية والفكرية) تواجه تحدياً حقيقياً قَطَعَ عليها صفاءً ذهنياً جعلها مُتسيّدة على الساحة طيلة عقود خَلَت.
فيما خصّ الفقه وشئون الدين فقد اتّبع فضل الله منهجاً ينضح بالجِدَّة. وكانت الإجابات الفقهية وغير الفقهية التي يتلقّاها السائلون من لدن سماحته مختلفة. كانت إجاباته تكتنف على جانب كبير من الاسترسال اللازم والضروري الذي يُبعدها عن الفتوى المسكوكة التي عادة ما يُقلّبها الواحد منا فيُدرك بالكاد مضمونها ومداها. وربما تأويلها باجتهاد شخصي يُراكم تعقيد الاجتهاد الأول.
كانت استفتاءات المرجع الراحل تمتاز بتضمنها الحكم الشرعي مع قراءة ماورائية له. وكانت تلك التوضيحات تَهَب السائل مزيداً من الاقتناع بالحُكم، بدل التلقّي الجامد له، والذي يُمنَح كصكّ لا يُفَك. بل إن الأسئلة التي عادة ما يردّها بعض المراجع (على اعتبار أن الموقع مُخصّص للأحكام الفقهية) كان السيد فضل الله يُجيب عليها وبكل جرأة وتفصيل. لذا فقد كان منهجه مختلفاً بحق.
وكما تجني شركات الملابس العالمية أرباحاً خيالية لاستهدافها فئة الشباب الطامحين في التغيير المُستمر، ومواكبتها لتطلعاتهم، فقد كَسَب السيد فضل الله هذه الشريحة (الفَتِيَّة) بامتياز سواء في أوساط المتدينين أو غير المتدينين، رغم حرب الإلغاء القاسية الذي واجهها من البعض. بل أصبحت الجماهير المتدينة والمُسلِّمة للمرجعيات الدينية ضمن مفردة العِداء للرجل مُتمرّدة على الآراء المناهضة لفضل الله حتى مع صدورها من أرباب الفهم الديني.
كان ذلك القطع فريداً من نوعه. فبلد مثل البحرين الذي هو مهووس بالعنوان المرجعي وبقوّة نفوذ الحالة العُلمائية فيه لم يعُد قادراً على استيعاب معنى هذه الحرب المُشَنَّة على فضل الله ولا التسليم بأهدافها أو حتى إعطائها الشرعية الجماهيرية/ الفردية اللازمة. لذا فليس غريباً أن أكثر الاستفتاءات التي كان يتلقاها مكتب السيد الراحل (مقارنة بعدد السّكان) هي من بلَدَيْن اثنين، أحدهما هو البحرين.
هذا فيما خصّ الفقه. أما فيما يخصّ السياسة والفكر، فقد كان المرجع الراحل واقعياً بامتياز. فموقفه واضح ونهائي فيما يتعلّق بالقضية الفلسطينية ومن عملية السلام والموقف من الإدارة الأميركية وسياساتها في المنطقة والعالَم. ورغم انفتاحه الفكري الشديد إلاّ أنه كان راديكالياً في قضايا المقاومة التي كان يعتبرها حقاً وواجباً. وخلال حرب تمّوز لَم يبرح مكانه في الضاحية الجنوبية، واكتفى باللجوء إلى الأماكن السّريّة التي وفّرتها المقاومة حينها.
لكنه ورغم كلّ ذلك كان حريصاً على استقرار الأنظمة السياسية العربية. وكانت سُقُوفُ أحاديثه ونصائحه وفتاواه للمعارضات السياسية لا تزيد عن «التحرّك السّلمي» والحفاظ على أمن الناس وراحتهم. وهو كان يقول بذلك ليس تزلّفاً أو محاباة، لأنه وباختصار لم يكن مُحتاجاً لأحد بل العكس. فقد كانت مرجعيته ونفوذه يعكسان حجماً امبراطورياً بدأ في لبنان ولم ينتهِ إلاّ في البيرو وتشيلي في أقصى الجنوب الغربي من العالَم.
حتى في وضعه الداخلي في لبنان، كان استثنائياً. فرغم أنه كان الأقرب إلى المقاومة ولخياراتها، إلاّ أن الفرقاء اللبنانيين الآخرين من تيار المستقبل واللقاء الديمقراطي وغيرهم كانوا يقصدونه في أتون الخلاف الذي أعقب اغتيال رفيق الحريري، باعتباره شخصاً وازناً. وكان المسيحيون اللبنانيون ينظرون إليه كـ «بطركيّة» لهم لكنها إسلامية يلجأون إليه في الأزمات الكبرى.
وكان السُّنّة في لبنان وفي غيرها من البلدان (سأتحدث عن ذلك في مقال منفرد) يعتبرونه مرجعيةً تُستَفتَى بغير حاجب مذهبي. بل إن أموال مرجعيته ونشاطاته الخدمية والمدنية لم تكن «تُمَذهِبُ» أحداً في عطائها وبذلها. فالرجل كان أبعد ما يكون على التصنيف والفصل والتمييز بين الناس. في المُحصلة فإن ما قِيْل يبقى الهامش الذي يُمكن أن يُتَحَدّث عنه في هذه الشخصية، وإلاّ فإن الأمور أكبر وأكثر بالتأكيد.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 2864 - الجمعة 09 يوليو 2010م الموافق 26 رجب 1431هـ
هل استفدنا ؟!
أرجوا أننا قد استفدنا من مدى الإنفتاح في أفكار السيد ( قد ) ، فلا يجب أن نعود الى الوراء بعد موته.
تفوح رائحة العطر اذا كسرت
هكذا انت يا سيدي
فتاوى فضل الله
كانت الإجابات الفقهية وغير الفقهية التي يتلقّاها السائلون من لدن سماحته مختلفة. كانت إجاباته تكتنف على جانب كبير من الاسترسال اللازم والضروري الذي يُبعدها عن الفتوى المسكوكة التي عادة ما يُقلّبها الواحد منا فيُدرك بالكاد مضمونها ومداها. وربما تأويلها باجتهاد شخصي يُراكم تعقيد الاجتهاد الأول.
نعم لدي تجربة شخصية مع المرجع الراحل وهو فعلا كذلك
عنوان المقال
عنوان المقال ممتاز وبه دلالة بلاغية ففضل الله لا يعترف بالموت فانيا له وانما مجرد محطة من محطات الخلود فيبقي يتحدث حتى في مماته
شكرا للكاتب جبره مصابنا بالراحل