كان أحمد في طليعة الطلاب المتفوقين دراسياً، في علم النفس، ونال درجة البكالوريوس وعاد إلى وطنه، وهو يحمل أحلام المستقبل الزاهر، و ما أن هبط في المطار وفي قاعة الانتظار، امتدت إليه أكف والديه تستقبله بالأحضان، والتفّ حوله الأهل والأصدقاء بالأفراح والتهنئة على النجاح، وبات في منزله ليلته، وكله أحاسيس بغد مشرق في الأعمال، لكن لم يكن ما حدث في الحسبان، فقد خابت كل الآمال، حتى الأعمال البسيطة التي يشغلها العمال لم يكن له فيها إلا الحرمان، واستمر الحال سنتين، دون أن يحالفه الحظ في أي عمل من الأعمال فأصابه الإحباط، وتمكن منه اليأس، وابتعد عنه الأخوان، وهجر الأصدقاء، ولم يساير الشبان، وارتمى على سريره ليل نهار، و كم عاتبه والده وسحب وسادته من تحت رأسه لكنه يتوسد اليدين وينام، وجاءت أمه وأقسمت عليه، أن يصول ويجول في أرض الله الواسعة ولو كان الرزق في أعالي الجبال، أو في أسفل الأرض من تحت الصخور والكثبان و لا يفسد ذهنه بالقنوط والعصيان وهو في أوج شبابه وقواه.
تنبه أحمد المهموم، وساح في الأرض كأنه الطير المسموم، وهو يرتكز بأقوال الشاعر فيقول:
و من الحظ لو غسلت ثيابي
في حزيران كان يوماً مطيرا
لكنه صادف في طريقه عمالاً، ينظفون المجاري في مياه راكدة تنبعث منها روائح نتنة واقترب إليهم وسمع أحدهم يقول، و قد أنهكه التعب، وتصبب منه العرق (حمل الزبالة على الرأس ولا الحاجة إلى الناس)، تعجب أحمد من هذا القول البليغ، وكأنه يحثه على العمل بعزم وإصرار شديد، وسمع آخر يقول (ومن لا يحب صعود الجبال... يعش أبد الدهر بين الحفر) ثم عقب العامل على قوله بقول آخر (لم أجتهد فأخفقت في الامتحان فموقعي في الحفر تحت هذه المجاري)، وسمع شاباً يعمل في المجاري يرد على زميله في العمل فيقول: (أنا نجحت في الامتحان وهاأنذا في الحفر فما ذنبي ؟) ثم أنشد قائلاً:
يرفع الله حظوظاً
بعد أن كانت زبالا
من له في الكون حظٌّ
لا يمت حتى يناله
ففهم أحمد أن هذا العامل هو حاضر يعمل في الزبالة وقد كان ناجحاً في الدراسة لكنه متفائل بأن الحظ سيحالفه عاجلاً أم آجلاً في حياته.
قال أحمد وقد أخذه الاستغراب أن هؤلاء العمال هم أسوأ حالاً مني، لكنهم لم يصبهم الإحباط ولا اليأس وصبروا، و قال يخاطب نفسه (أما أنا فخريج علم النفس أريد أن أعالج الناس نفسياً وأنا المريض، و كان الأولى أن أعالج نفسي، لأن الإحباط واليأس مرض نفسي، وهو متأصل في نفسي، فكيف الوصول إلى النجاح وأنا المريض فيصدق قول الشاعر: (عندي دوى الناس ما عندي دوى روحي).
أخذ أحمد يسير على حافة نهر المجاري فوجد العجب العجيب، كاد عقله ولبّه يزول فأحد العمال في المجاري يحوم ويضرب برجليه على الزبالة فترتفع في وجوه العمال الآخرين وتوسخ ثيابهم بالنجاسة لكنهم لا يعترضون عليه ثم بعد ذلك يحني ظهره إلى الأرض فينبش التراب المخلوط بالزبالة وهو يرتجز ويقول: من يداويني، ويشفي علتي؟
قال أحمد يا إلهي ما هذا الذي أسمعه وأراه و هذا العامل يصور فاجعة، حلت به وهو يضرب برجليه الزبالة وينبش بيديه التراب، ما مشكلته، لماذا لم يعمل لماذا وجد في هذا المكان، لماذا لا يعترض عليه العمال، وقد غطى وجوههم بالأقذار وتوسخت ثيابهم بما فعل، قرب إلى خندق المجاري فناداه (يا حاج ماذا حلّ بك، ما هي مشكلتك، أجبني وأنا أساعدك) لكنه لا يجيب، سأل العمال الذين كانوا معه ماذا حدث لهذا الرجل ولماذا يضرب برجليه الزبالة وينبش الأرض بيديه؟ لكنهم لم يجيبوا وكل عامل طأطأ رأسه إلى الأرض فقلت في نفسي: الدنيا عجائب وغرائب وكل الناس مبتلون في هذه الحياة، هل هو مجنون، هل إنه لا يسمع أو حل به مكروه؟ لكنهم لا يجيبون، فقال لهم مخادعاً: أنا مرسل من الوزارة لأحقق في أمر هذا الرجل فتنبه الجميع وأصدقوه وقالوا: هذا الرجل مصاب بحالة نفسية قبل ثلاثة أيام بسبب أنه استلم راتبه على العمل وسقطت منه محفظة نقوده في المجاري وهو لا يملك شيئاً ولم نبلغ عنه خوفاً من فصله فهو يضرب برجليه يعتقد أن المحفظة في كل بقعة وصلت إليه حتى يلتقطها وينبش التراب على أمل أن يحصل على نقوده لكن دون جدوى، فهم الغاية وكتب عنه بحثاً تناول فيه أسباب المرض وكيفية العلاج وقدمه إلى مستشفى الطب النفسي فجاء وفد على الطبيعة وعاين الحال وكتب توصية بإحالته إلى مستشفى الطب النفسي لعلاجه ثم سألوه عن عمله؟ قال لهم: (عاطل لا أعمل وأنا متخصص في علم النفس)، فأوصوا بتوظيفه فاستبشر بخير، وزال اليأس منه، وعن الرجل المريض فقد نشرت الصحف الخبر، ودعت إلى مساعدته لمداواته وشفاء علته.
مرة أخرى تطالعنا الصحف بخبر إرسال وفد بحريني لاستقدام معلمين من مصر والأردن... (فليرقص الشعب البحريني) فهم آتون لا محالة واستقدامهم لا يحتاج سوى لدراسة تدعي النقص والحاجة إلى مدرسين ومدرسات من الخارج، وكأننا بلد يعاني من قلة الخريجين أو خريجين بلا كفاءة أو أن جميع الخريجين تخرجوا من تخصص واحد لنعاني من النقص... يا للسخرية!
الواقع يعطي صورة أوضح وهم لايزالون ينكرون ويتذرعون بالنقص، أي نقص هذا والبحرين تضج بهتافات المتظاهرين بشهاداتهم الجامعية؟ أي نقص تتحلقون حوله وهناك الكثير الكثير من الخريجين والخريجات ومن تلك التخصصات المذكورة ينتظرون الوظيفة منذ سنوات، ناهيكم عن الامتحانات الوزارية التي يقدمونها في كل مرة أملاً وتحدياً لمن يظنهم أغبياء لا يفقهون ما يجري من خلف الستار.
في كل عام وزارة التربية والتعليم تستقدم الكثير من المدرسين من الخارج بحجة النقص، وليس هناك من نقص يستدعي استقدام هذه الأعداد الكبيرة من المدرسين، ذلك ليس نقصاً يا سادة بل هو استنقاص، نعم إنه استنقاص من شأن الخريج البحريني وقدراته وهضم لحقوق جميع الخريجين المنتظرين الجدد منهم ومن مرت عليهم سنوات الترقب.
السؤال هنا: ترى كم عدد الخريجين البحرينيين في كل عام؟
بالطبع عددهم كبير وطموحهم أكبر وطاقاتهم رهيبة، وقدراتهم بحد ذاتها شهادة إبداع، والأهم من ذلك أنهم مواطنون وهم الأحق بالوظيفة.
قبل أسابيع تم اعتماد ومعادلة شهادات الكثير من الخريجين وأعلن ذلك على الملأ فقط لتحويل أنظار العالم نحونا...
ولكنَّ سؤالاً يطرح نفسه هنا: ترى إلى أين تتوجه هذه الأعداد الهائلة من الخريجين وحملة الشهادات الجامعية؟ هل يتوجهون إلى مراكز التسجيل ضد التعطل؟ مئات الخريجين نحتفل بهم سنوياً مقابل مئات المدرسين المستقدمين من الخارج لشغل الوظائف بكل بساطة، تلك معادلة ناقصة ولن تتوازن أبداً إن لم ترجح كفة المواطن، ولكنها تحية إجلال لكل من نادى على هذه الأرض باسم (الإنسان أولاً) ليكون الأول في نهاية الطابور ونقطة النهاية في كل خطاب.
نوال الحوطة
جزيرة أو بالأحرى بقعة من اليابسة ولجها الله في لجة البحر يحيط بها الماء من جميع الجهات، كانت ثمة أنواع كثيرة من الدوحات والنخيل الباسقات كالغمام تغطي عيون الشمس، كما توجد هنالك أنواع وألوان متعددة من مختلف الأشجار الصغيرة التي تحمل الكثير من الفواكه اللذيذة كالموز والعنب والكرز واللوز والرمان والمانجو والبطيخ، ومن ناحية أخرى، تجد الخضراوات بجميع أنواعها وأشكالها، ولا يقتصر ذلك على أهل هذه الجزيرة فحسب، بل يُصدر إلى بلدان الجوار بعد الاكتفاء الذاتي لأهل هذه الجزيرة الخضراء بفضل الماء الزلال العذب الذي يتدفق من العيون والينابيع الطبيعية التي انتشرت في جميع مناطق هذه الجزيرة الخالدة.
هذا من ناحية رفد البر وما أثراه وأنتجه إلينا، وأما من ناحية البحر فيعجز اللسان عن تعدد وإحصاء عطاياه وخيراته علينا، كان هنالك اللؤلؤ الثمين الزاهي بألوانه البهية والذي جذب سنا برقه الأخاذ تجار اللؤلؤ من مختلف العالم يقصدون هذه الجزيرة الصغيرة ليزينوا أجياد ومعاصم فتياتهم بهذا الحلي الزاهي الراقي والذي كان يُضرب به المثل الأعلى لجودته وحسن بهائه.
نِعَم الأسماك وجودتها وما يختزنه بحر هذه الجزيرة من ألذ وأشهى الأسماك في بحر الخليج، والذي يطمع ويطمح الصيادون من دول الجوار دخول أقاليم المياه البحرية للجزيرة خلسة لاصطياده والانتفاع به طمعاً فيه وفي جودته بيعاً وأكلاً.
جزيرة متكاملة المنافع والعطايا في البر والبحر، وضعها وصانها وأحكم صنعتها وأثرى عليها خيرها ومرعاها بارئها الكريم.
لكن تكالبت وتضافرت عليها أهلها وسكانها وما رعوا نِعَمها ومرعاها وتم تدمير بحرها وبرها، وحتى الوحوش تسلقت نخيلها وأشجارها وعاثت في أرض النخيل خرابها وثبورها، وتم اجتثاث أدواحها وأعراقها وبنت عليها بيوتها وملاذها وسكنت فيها القطعان من الحيوانات وتم نتف حشيشها وبرسيمها.
وبدأ التصحر في البحر أولا بعد الردم والدفن، وجرت عليها قططها وكلابها لما وجدت ضالتها وملفاها، هل تدري هذه الحيوانات على أي أرض تطأ قدماها؟ على العراقة ونبع الأصالة، على اليامال والهولو على مكامن السمك ومصائده، على الفشوت المدمرة وخزائنها، على نبع العطايا وفوائده، وتم بناء حظائر للحيوان لمراعاتها ومداراتها، على أنقاض تدمير البيئة البحرية ومملكتها.
درة الخليج أو عروسه والبلد الذي لا تطلع عليه الشمس كما أطلق عليها في القرون السالفة لكثرة النخيل فيها وما تكنه وتحويه من دوحات كثيرة وأشجار وخضرة وفواكه تُغطي وتحجب نور الشمس، أصبحت هذه الجزيرة مجردة من هذه النِعَم المذكورة التي أسبغها ونعّمنا بها بارئنا العلي القدير فجحدها الإنسان وقضى عليها ولا رعاها حق رعايتها، حتى صارت مرتعاً للحيوانات الضالة تعيث فيها الفساد والخراب.
مصطفى الخوخي
لن تحتاج الأمة الإسلامية كثيراً من الوقت حتى تدرك أن الرجل الذي خسرته قبل أيام هو رجل كبير، ورمز عظيم، وشخصية فذة، من الصعب أن تتكرر، أو يجود الزمان بمثلها.
ولن تحتاج ساحات العلم والفقه كثيراً من الوقت حتى تدرك أن الفقيه الذي خسرته قبل ساعات هو فقيه ألمعي، ومستنبط مجدد، قفز ببحوثه الفقيه والعلمية إلى مساحات محظورة، قلّ من تجرأ على دخولها أو التعرُّض لها.
ولن تحتاج ميادين الثقافة والمعرفة إلى مزيد من الوقت حتى تتأكد أن من خسرته كان مثقفاً بارعاً، ومنظراً عملاقاً في شتى ميادين المعرفة.
ولن تحتاج التجمعات الساسة ورجالها ودوائرها إلى مزيد من الوقت حتى ترى أن من فقد كان سياسياً خطيراً، ومؤثراً في مجرياتها لبنانياً، وعربياً، وإسلامياً، ودولياً، قادراً على الوصول إلى عمق الفهم السياسي، والخروج منه بأطروحات متجددة استطاع أن يحرك بها العديد من الأوضاع الراكدة.
حياة حافلة بالعطاء والثراء في شتى الميادين قضاها الفقيد الغالي على قلوب محبيه ومريديه، لم يمثل هذا الثراء في مكتبة زاخرة متنوعة، ستكون معيناً ثرياً تنهل منه الأجيال تلو الأجيال، بل امتد إلى كل حركة وسكنة قام بها، سجّل بها درساً هنا، وقدم بها عبرة هناك.
لقد سبق هذا الرجل العظيم عصره، ومن السهل أن نقول إنه رجل المستقبل الذي ولد قبل أوانه، فتفتق ذهنه الوقاد عن أطروحات رائدة، وأبدعت حركته عملاً خلاقاً على كل الصعد، وفي كل الأنحاء والجهات.
ليس من السهل أن يولد رجل بمثل هذه الإمكانيات والقدرات، ليس من السهل أن ينجب الزمان شخصية بمثل هذا القلب، والعقل، وهذه الحركة سماحته لم يكن سهلاً أو بسيطاً كما قد يتوهّم القشريون، الذين تناولوا السيد وعرفوه في بعض مسائله الفقهية التي تميز بها، أو بعض نظرياته التي تفرد بها.
من أراد إتباع خط هذا السيد الجليل، فعليه أن يوطن نفسه على درب صعب مستصعب، وأن يتقصى كل ما تحت عباءته الجليلة، فهو الخاشع في محرابه وصلاته الذي لم يكن يغفل في أي وقت عن دوره في ترسيخ الحالة الروحية في أتباعه ومحبيه، فكان له مصنفات الشروح بعض الأدعية المسنونة، وهو ذاته اللاحق بكل مستجدات الفكر والثقافة، المطلع على آخر ما توصلت له كل نظريات العلوم الإنسانية، وما توصلت له نظريات اللغة والأدب، وفي الوقت ذاته الهاضم والناقد لها، وهو ذاته السيد ذو الروح الشفافة والأصالة التي عبرت عنها أبياته الشعرية العذبة والتي نقلت بشعريته قضايا الأمة، وعكست وجدانياته شعوره الرهيف، الفقيد ذاته هو الذي كان في قلب الحدث السياسي محلياً ودولياً، والمتفاعل معه بكل الوسائل، إعلاماً، وخطاباً، وتوجيهاً، وتحليلاً، وتوضيحاً، كل ذلك كان ودرسه الفقهي المتجدد، وتفسيره للقرآن الكريم، وإقامته لشعيرة الجمعة لم ينقطع أبداً، كل ذلك كان وهو لايزال يلقي ندوته الأسبوعية في رحاب عقيلة الطالبيين السيدة زينب بنت علي (ع)، كل ذلك كان وهو لايزال يقوم بدوره في الإجابة عن كل الاستفسارات العقائدية، والتربوية، والأخلاقية، والفكرية، والفقهية بشكل متواصل لا يعرف الكلل أو الملل، فضلاً عن مقابلاته التلفزيونية، والصحفية، ومقالاته التي كانت توزع في شتى الصحف والمجلات، وأخيراً وليس آخراً إشرافه على إدارة عدد من المؤسسات التربوية والفقهية والخيرية التي عرفت سمعتها في العديد من الأقطار.
كل ذلك كان من رجل واحد هو سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله (قدس سره)، بمعية من عضده وسانده وأعانه من وكلاء وموظفين ومتطوعين.
فمن يمكنه أن يكون مثل هذا السيد الجليل؟
ومن يمكن أن يستسهل هذه الشخصية؟
بحق إنه من الصعب أن يتبعك حتى محبّوك، فمن يمكنه أن يكون الحاضر الشاهد المتفاعل مع كل هذه الجوانب.
لقد ظلمت سيدنا الجليل عندما اختصرت شخصيتك في عدد من المسائل أو المواقف! إذ لم يدرك العديد منا أن وراء هذا الاختزال شخصية تتجاوز حدود الصورة المرئية، ولم يدرك أكثرنا أن وراء مسائلك المتميزة مشروع إسلامي بل إنساني ناهض، لا يمكن أن تختصره سطور معدودة، أو يختزل في جمل قصيرة.
هذا المشروع هو الذي يجب أن يحتذى في معظم جوانبه، ويجب أن يحاط باهتمامنا نحن المحبين له، وينبغي أن يتمثل في محاوره، وعناصره، ومبادئه، وقواعده، وخططه، وتكتيكاته إلى آخر ذلك من جوانب المشروع. إذا أدركنا هذا الأمر سنعرف أن سماحة السيد كان أصعب مما نظن، وأعمق مما فهمنا، أعظم مما اعتقدنا، وأشمخ مما حسبنا.
إذا أدركنا ذلك، سنعرف أن جامعة سماحة السيد فضل الله (قد سره) لا يمكن أن تغلق أبوابها، ومدرسته لا يمكن أن تقوض، وخطه لا يمكن أن يتراجع، فهو يعيش معنا في كل مفصل من مفاصل الحياة، أليس هو من أتحفنا بـ (فقه الحياة)، فأينما نولي ثمة أثر تركه لنا هذا العظيم، في محراب الصلاة سنقرأ تفسيره (من وحي القرآن)، وفي السياسة سنستند على (الحركة الإسلامية هموم وقضايا)، وسندير علاقاتنا بمبدأ (الحوار في القرآن)، و(أن الحقيقة بنت الحوار)، وفي أوقات الخلوات سنقرأ (شروح دعاء كميل، والافتتاح)، وفي كل وقت سنتصفح (الندوة)، و(خطوات على طريق الإسلام).
وبعد كل ذلك ورغم كل ذلك سنبقى نردد ما أصعبك يا فضل الله، وما أعسر أن يكون أحدنا مثلك.
عقيل يوسف رضي
ما يدعو للوقوف على شخصية السيد محمد حسين فضل الله، شموخه، وصبره أمام العواصف، وتحمل الألم في سبيل الدفاع عن وحدة الأمة حتى آخر لحظة من حياته، وهو في حالة من الأمل في إصلاحها، ويدخل على قلبك الاعتزاز لما يحمله من فكر نيّر، وسعة أفق أمام الصراع الفكري المتجذر في صفوف المجتمعات الإسلامية، حيث إنه لم يبقَ أسيراً لقراءات وأفكار السابقين، بل كان متجدداً، فقد قرأ حياة المعصومين قراءة أصيلة بعيدة عن التركيز على الحالة الإعجازية، بل نابعة من عن عقلانيته المتفتحة ونظرته المستقبلية للأمة.
ولاشك في أن وحدة الأمة مطلب مُلِح في حياة أي مصلح إسلامي؛ لأن الوحدة الإسلامية واضحة وجلية أمامه، خصوصاً وأن أي مصلح يتطلع ويقرأ التاريخ بتمعن.
وفي تاريخ المصلحين هناك المعترضين لهم، لعدم وضوح الصورة التي تحكي مفهوم الوحدة في أذهانهم فتصدر منهم بعض التصرفات تجاه المصلحين، وخصوصاً من المتقدسين الذين يَعدّون أنفسهم حرّاس العقيدة، فتطلق عليهم التُهم، وتصدر البيانات التي توصم المصلح بأنه يقدم التنازل عن العقيدة والمذهب، وكأن الوحدة إلغاء لخصوصيات طرف لطرف آخر.
فالوحدة في نظر سماحة السيد فضل الله إنما هي نابعة من سعة إطلاعه، حيث يرى بأن الوحدة احترام متبادل بين الأطراف المختلفة، وأن الاختلاف سنة كونية لا يمكن التنكر لها، كما أنه يرى بأن وحدة الأمة نابعة من القوة التي تمتلكها، خلاف ذلك بأن عدم الاحترام المتبادل بينهم يضعف قوتهم أمام العدو الحقيقي وهو الكيان الصهيوني.
السيد فضل الله تحمّل ما تحمّل في سبيل إظهار فكر أهل البيت الحقيقي، فقد أصدرت فيه الفتاوى، وشوّهت شخصيته من قبل المعترضين عليه، لكنه تحمل ذلك. فهناك مدرسة نذرت نفسها لتسقيط المصلحين من العهود السالفة إلى عهدنا هذا، فالرسول (ص) اُتهم بأنه ساحر ومجنون، والإمام علي اُتهم من قبل بني أمية بأنه لا يصلي، وقسْ على ذلك في جميع عصور المصلحين من أهل البيت (عليهم السلام)، ثم من بعد ذلك المراجع، والمصلحين من العلماء الذين حملوا على عاتقهم هم الإصلاح والتجديد في حياة الأمة. في المقابل عادة المصلحين لا يتوقفون عن المناهج التي رسموها للعمل الإصلاحي رغم المناوئين لهم. فرحم الله السيد فضل الله وجزاه الله خير الجزاء على ما تحمّل في سبيل إنهاض الأمة وإصلاحها.
عيسى محمد العيد
إن أكثر المصائب التي يتعرض لها البشر بشيوخه وشبابه ناتجة عن الانغماس في الذنوب، ولو ألقينا نظرة عابرة على تاريخ الأمم والشعوب السالفة التي لم يبقَ منها سوى الاسم لاتضح لنا أن الأسباب لتحللها وانهيارها هي الفساد والانغماس في معصية الخالق، فالمريض إذا تمرد على تعليمات طبيبه يطول مرضه ولا يبقى ثمة أمل بشفائه وكذا المجتمع اذا تمرد على أوامر الخالق وأحكامه يسير يوماً بعد آخر نحو الانحطاط والتحلل، أما من يطمح للمعالي ويتوق للفضائل فلا بد له من اجتناب الرذائل والمعاصي، والحر هو من يعف نفسه عن الأهواء ولا تنطوي سريرته على اقتراف الذنوب، لأن نية الذنب وحدها وإن لم يرافقها عمل تؤدي إلى تعكير صفو القلب، إذاً فالإنسان إذا أراد السير على نهج الحياة الإنسانية ينبغي له اتباع سلسلة من الأصول المعينة ومن الطبيعي أن اتباعها يكبح بذلك جماح أهوائه ونزواته في المواقف التي تفرض عليه الانفلات من تلك الحدود .
إن المذنبين الذين أفلحوا في التوبة إلى الله توبة حقيقية وطهروا أنفسهم بفضل الله وفي ظل رحمته من السيئات والمعاصي يستشعرون الراحة والطمأنينة في أنفسهم بعيداً عن هواجس الذلة وكأنهم لم يقترفوا ذنباً .وكما قال النبي محمد (ص) :التائب من الذنب كمن لا ذنب له.
فالتوبة تشبه خلع الثياب القذرة وارتداء ثياب نظيفة وطاهرة بدلا منها، أو هي كالاغتسال وتطهير البدن، وصفوة القول إن الإنسان القادر على صيانة ذاته من أنواع الذنوب والمعاصي والمحافظة على نقاء فطرته وصفائها يدخل في عداد الناجين والسعداء يوم الحساب الذي لا مفر منه .
وقد أجاد الشاعر في قوله :
اشرب فؤادك بغضة اللذات
واذكر حلول منازل الأموات
لا تلهينك عن معادك لذة
تفنى وتورث دائم الحسرات
إن السعيد غدا زهيداً قانعاً
عبد الإله بأحسن الأخبات
دعا النبي نوح (على نبينا وآله وعليه السلام )على الكفار من قومه وأخذهم الطوفان، ظهر له ملك - وكان النبي نوح يعمل في صناعة الجرار، فكان يصنع الجرة من الطين وبعد أن تجف يبيعها - فكان الملك يشتري منه الجرار واحدة واحدة ويكسرها أمامه، فغضب نوح وسأله عن سبب فعله هذا . فقال له :الأمر لا يعنيك، فأنا قد اشتريتها وأمرها إليّ.
فقال له نوح عليه السلام :صحيح ولكن أنا الذي صنعتها، وهي من صنعي .قال له الملك :أنت صنعتها ولم تخلقها ومع هذا فقد غضبت على كسرها، فكيف دعوت على كل عباد الله فهلكوا مع أن الله خلقهم ويحبهم فبقي من بعد هذه القضية يبكي وينوح حتى سمي نوحاً لكثرة نياحه، والغرض من هذه القصة هو الإشارة إلى شفقة الخالق، فهو تعالى يحب مخلوقه.ومن هنا يعاتب نبيه :لم دعوت على كل هؤلاء الناس فهلكوا. ويستفاد من هذا أن الله تعالى يحب عبده، وهو في القرآن يحذر عباده من الشيطان ويوصيهم بعدم الاغترار بالدنيا لأنها دار خداع الشيطان .
يستفاد من هذه الروايات أن من يقترف الذنوب والمعاصي ثم يندم على عمله ويعود إلى ربه تائباً، يفرح الله بتوبته لأنه يحب عباده ولا يريد لهم العذاب بالنار.
كما تتساقط أوراق الشجر عند هبوب ريح الخريف، منتشرة على قارعة الطريق ملونة أرصفة الشوارع باللون الأصفر الباهت، تساقطت أيام عمرها على قارعة الزمن، وعبثاً حاولت جمعها عندما هبت عليها ريح الخريف، زاغت عيناها للوهلة الأولى، ثم شحب وجهها، وسرعان ما تماوج الغضب في قلبها فتفجر بركان دم من مقلتيها، وإعصار من الكلم الشامت اللاعن للقدر والزمن والحظ وزوجها . كم كانت غبية وحمقاء، نثرت عمرها ورداً ورياحين لتصنع له العمر بستان حب وأمل، عاشت معه شظف العيش يوم كان لا يملك قوت يومه، صبرت، ومنحته صبرها وجلدها، حسده الناس عليها لأنها وقفت إلى جانبه، وكدحت معه حتى استطاع أن يقف على قدميه ويشق دربه ليصبح شيئاً فشيئاً ذا شأن في هذا العالم، ولكنه نسى أو تناسى.
تناهى إلى سمعها أنه عازم على الزواج من أخرى، وسرعان ما تهاوت واشتد نزف جرحها، ولأن نزيف الجرح قد غطى على كل شيء فلم تعد قادرة على الرؤية بوضوح... وكربان غرقت سفينته ومات بحارها بعد أن أخذ البحر منه كل أمانيه، غادرت ماضيها، صارخة: لماذا؟ هل هذا جزاء الإخلاص لك؟ هل هذا جزاء الحب والكدح؟ لماذا؟ نعم، لماذا الزواج من أخرى وقد هيأت لك كل شيء وصبرت وكدحت من أجلك؟ نعم لماذا؟
هو أكبرهم، توفي عائل العائلة، ولذا ترك دراسته وقطع على نفسه عهداً ألا يتزوج حتى يكمل أخوته دراستهم ويصبح كل واحد منهم قادراً على إدارة شئون حياته وترسو سفنهم على بر الأمان، ومرت السنين، وكبر الصغير، وشاخ الكبير.
بعد هذا الكدح والنضال طوال سنين عمره، ها هو وحيد، مريض، يقضي بقية عمره في الظلام، بعد أن تنكر له أخوته بعد أن تفتحت لهم الدنيا بكنوزها ليعيشوا براحة. اعتاد قضاء حوائجه بمفرده، لقد اشترى حاجته وقفل راجعاً، يبدو أنه بحث عمن يمسك بيده ليعبر الشارع فلم يجد أحداً، لم يجد أحداً يمسك بيده ليعبر إلى الرصيف، لا أحد، لا أحد... عبر بمفرده... وانتهى صاحب القلب الكبير على قارعة الطريق.
كيف يمكن لهذا القلب المضحي أن يموت وحيداً وبصمت وهدوء، أين هي القلوب التي ضحى لأجلها؟ كيف يمكن للإنسان أن ينسى بسهولة، أن يتنكر للمعروف بسهولة، وألا يكون وفياً بسهولة؟
يا ترى بماذا كان يفكر وهو يعبر الشارع وحيداً؟ يا ترى كيف توقف وجيب هذا القلب الكبير؟
منى الحايكي
العدد 2863 - الخميس 08 يوليو 2010م الموافق 25 رجب 1431هـ
تعليق على مقال الاخ الكاتب عيسى محمد العيد
نشكر الاخ العزيز عيسى العيد الذي دائما يتحفنا بمقالاته الرائعة.
احب اضيف على مقالك اخي العزيز الى ان مدارس التسقيط الذي اسميتهم لا يقتصر امرهم على علماء الدين انما على السياسين والاجتماعيين وغيرهم.
لكن امام المسقطين هناك المصلحين لا يتأثرون من ذلك وعلى رأسهم السيد فضل الله رضوان الله عليه.
اجدد شكر وتقديري لك والى صيحفة الوسط التي دائما تعودنا بسعة الصدر في تقبل اراء الاخريين
شكرا للأخت نوال الحوطة
حرااااااااام الي قاعد يصير اني عاطله و من حقي اشتغل يقولون الينا نجحنا في الامتحان و في المقابلة كل سنة و بنحطكم على قائمة الانتظار و ننطر إلى السنة الي بعدها و على طول يجيبون ناس من برى
لكن الله كريم يمهل ولا يهمل
الدفان قضى على جزيرة البحرين
حتى صارت مرتعاً للحيوانات الضالة تعيث فيها الفساد والخراب.
مقال جميل أعجبني جدًا ، حيث يعبر عن التغيرات التي جرت على البحرين
رد .. لماذا الزواج؟؟
كثير من البحرينيات عشن الحالة و الوضع هذا و ما زلنّ.. تعملن إلى جانب أزواجهن و تنفقن رواتبهن لأجل أن يعيش الزوج مرتاح البال إن كان عاطلاً أو راتبه لا يساعده على المضي مع أسرته في هذه الحياة.. و تصبر عليه و على فقره المادي و العاطفي و فقره في الأسلوب و الشكل.. و يجازيها بمجرد قدرته على الوقوف وحده دون دعم مادي بزواج ثانٍ أو متعه.. أو معامله سيئة.. و يتناسى كل جهود الزوجة و فقره العاطفي الذي يسكبه في بيته ليحوله جحيماً و معاناة..
من يداويني ويشفي علتي؟
كأن القصة من نسج الخيال بل أجزم
لو قدم أحمد التقرير النفسي لأحالوه هو والعامل إلى الطب النفسي