في نهاية الأسبوع الأول من شهر أبريل/ نيسان المقبل تقفل أبواب الترشيحات على مقاعد مجلس النواب اللبناني. ويرجح أن تشهد الفترة المتبقية حركة ترشيحات في مختلف المناطق (الدوائر) بسبب وجود تنافسات محلية تقودها العائلات التي تتمتع عادة بموقع خاص في تعديل التوازنات.
عودة العائلات (العشائر) إلى الواجهة السياسية المحلية تعتبر أهم نقطة طارئة على المشهد الانتخابي النيابي الذي سيسدل الستار على نتائجه في صباح 8 يونيو/ حزيران المقبل. فالعودة مقرونة أساسا باستعادة قانون انتخابات 1960 الذي اعتمد آنذاك دائرة القضاء بوصفها تشكل قاعدة إدارية صغرى تسمح للناخب باختيار مترشح من المنطقة وتفضيله على آخر من خارجها.
العودة إلى قانون 1960 أثار عواصف نقدية حين تم التوافق على القرار في اجتماع الدوحة الذي أعقب هجمات 7 مايو/ أيار على بيروت وبعض مناطق الجبل. إلا أن الأطراف المعنية بالأزمة المتدحرجة وافقت على الخطوة حتى لا ينهار «اتفاق الدوحة» وتعود لغة السلاح لتتحكم بتوازنات الشارع.
هناك الكثير من الملاحظات أدرجت في سياق نقد قانون 1960 منها أن فكرة العودة إلى الدائرة الصغيرة سترفع من نسبة التشنجات الطائفية والمذهبية والمناطقية وسيؤدي إلى تنافسات محلية تقلص من درجة الاهتمام بالقضايا الكبرى أو المشتركة. كذلك فإن قانون 1960 يضعف نسبيا دور الأحزاب الحديثة التي تتحرك على مساحة الوطن ويقوي بالمقابل دور العائلات التقليدية الكبيرة التي تستطيع تغيير التوازنات وبالتالي ستنجح في فرض حضورها وربما شروطها المحلية على اختيار المترشح عن هذا المقعد أو ذاك.
مقابل الملاحظات هناك من انبرى للدفاع عن عدالة قانون 1960 وصحته باعتباره يعطي فرصة للقوى المحلية بأن تلعب دورها الخاص وتمنع القوى الحزبية الكبيرة من التدخل وفرض شروطها وتحديد هوية المترشح عن الدائرة الانتخابية.
الاختلاف في تقدير إيجابيات وسلبيات قانون 1960 لايزال مدار بحث اجتهادي في الاشتراع ولكن الآن بات على القوى والتكتلات الكبرى أن تراجع حساباتها الانتخابية في ضوء قانون تم صوغه قبل 49 سنة ولم يكن بالإمكان مراجعته أو تعديله بسبب الضغوط السياسية الساخنة التي أحاطت بأحزاب وتيارات «8 آذار» و«14 آذار» المجتمعة آنذاك في الدوحة.
دخول العائلات على خط اختيار المترشح سيكون له تأثيره الموضعي في تحديد شروط التنافس المحلي وترجح كفة جهة على أخرى. فالعائلات يتراجع دورها وثقلها الانتخابي في الدائرة المتوسطة أو الكبيرة (المحافظة مثلا) لأنها تتعرض لمنافسات من الأحزاب الحديثة والمعاصرة التي تمتلك آلية (ماكينات منظمة) في حشد الأنصار ما يعوض ضعفها في المناطق التقليدية أو المنعزلة. والعائلات يتحسن موقعها الانتخابي في الدائرة الصغيرة (القضاء كما هو حال قانون 1960) وأحيانا تستطيع أن تفرض على الحزب الحديث أو التنظيم المعاصر أخذ مرشحها في قائمة الاختيار.
هذا الجديد في معركة «يونيو» المقبلة يعتبر أهم عامل إضافي في المواجهة الديمقراطية الكبرى بين «8 و14 آذار». فالكتل التي اعتمدت على الأحزاب في انتخابات دورة 2005 أصبحت الآن مضطرة لتعديل وجهة الاختيارات حتى تضمن فوز قوائمها في المجموع العام. مثلا في الدورة السابقة خاضت منطقة الشمال المعركة الانتخابية في نطاق كتلة واحدة إذ شملت المحافظة أقضية عكار والضنية وطرابلس وزغرتا وبشري والكورة والبترون في دائرة واحدة. وأدى هذا الجمع للأقضية إلى فوز كاسح لفريق «14 آذار» ما أدى إلى ترجيح كفته النيابية على فريق «8 آذار» في التوازن البرلماني.
هذه المرة اختلفت المعادلة وتغيرت الخريطة إذ إن كل قضاء سيخوض معركته المستقلة عن الآخر. وأدى هذا التقسيم في الدوائر إلى إطلاق شرارة تنافس بين العائلات إلى جانب الدور الذي تلعبه الأحزاب الحديثة والمعاصرة. وما يزيد المسألة صعوبة أن الأطر الحزبية في لبنان محكومة تقليديا بالمنطقة والطائفة والمذهب باعتبار أن المنظمة مهما رفعت من شعارات وأفكار وإيديولوجيات تبقى مرهونة في توجهاتها الميدانية للطوائف والمذاهب.
هناك إذا تحديات واقعية ومعضلات مضافة سترفع من نسبة «تفكيك» الوحدات الحزبية التي تتحرك على مساحة الوطن. الكتائب منظمة حديثة في آلياتها التنظيمية وهي منتشرة في كل المناطق المسيحية (المارونية تحديدا). كذلك القوات اللبنانية (المسيحية المارونية) والتقدمي الاشتراكي (درزي) وأمل وحزب الله (الشيعة) والمستقبل (السنة) وتيار ميشال عون المسيحي عموما. فهذه الأحزاب تعمل منفردة على مستوى الوطن ولكن ساعدها التنظيمي والاقتراعي يشتد في مناطق طائفتها التي تتحرك بحرية في دائرتها. فالكتائب قوي في مناطق الموارنة وضعيف في مناطق المسلمين. وحزب الله قوي في مناطق الشيعة وضعيف في مناطق المسيحيين والسنة. وتيار المستقبل قوي في مناطق السنة وضعيف في مناطق المسيحيين والشيعة. والتقدمي الاشتراكي قوي في مناطق الدروز وضعيف في مختلف الدوائر الأخرى. والأمر نفسه يمكن سحبه على تيار الجنرال أو الجماعة الإسلامية أو حزب الطاشناق الأرمني. الكل قوي عند جماعته وتتلاشى شعبيته حين يتخطى دائرة انتشار الطائفة والمذهب.
بسبب هذا الانقسام الطائفي - المذهبي - المناطقي لجأت الأحزاب الحديثة والمعاصرة إلى سياسة التحالفات وصيغة الائتلاف مع قوى في المعسكر الآخر لتبادل الأصوات والمقاعد والترشيحات لتعويض الضعف في هذه الدائرة وتقوية الحليف في الدائرة المقابلة. وعلى أساس هذه الخريطة الديموغرافية يمكن فهم طبيعة التضاريس السكانية وتوزعها الجغرافي في المناطق التي جرت على أساسها معركة 2005.
الآن اختلفت المواجهة الديمقراطية الكبرى في التفصيلات وهي تفصيلات مهمة ولها تأثيراتها المحلية في ترجيح كفة على أخرى. فالقانون الذي ستجري على أساسه معركة 2009 اعتمد منهج تشطير المحافظات إلى أقضية فأصبح الشمال مثلا مجموعة قوائم منعزلة في دوائر مستقلة لا تكترث لطبيعة التحالفات الموسعة. وبهذا المعنى «التفكيكي» للعمران البشري بدأ سليمان فرنجية (تنظيم المردة المحلي) يخوض معركته معتمدا على قوة عائلته وتحالفاتها التقليدية مع عائلات زغرتاوية أخرى. كذلك القوات اللبنانية أصبحت مضطرة للتعامل مع الحسابات المحلية وتوازن العائلات في بشري باعتبار أن التصويت لن يخرج عن دائرة القضاء. والأمر نفسه بالنسبة لتيار المستقبل في دائرة عكار أو قضاء الضنية أو مدينة طرابلس. وكل هذه التقسيمات الصغيرة تلعب فيها العائلات دور القوة الترجيحية لفوز هذا المترشح ضد ذاك.
العائلات (العشائر) في «لبنان الديمقراطي» لاتزال قادرة على لعب دور سياسي خاص بها في مناطقها التقليدية ودوائرها الانتخابية. وهذه العائلات السياسية التي ساهمت في تشكيل تاريخ لبنان الحديث منذ تأسيس دولته في العام 1920 تضررت كثيرا حين تم توسيع الدوائر الانتخابية ما أعطى فرصة للأحزاب وتحالفاتها الجانبية مع أحزاب أخرى في كسر شوكتها حين يأتي موعد الاقتراع.
في الدوائر الصغرى يضعف دور الحزب الكبير ويرتفع الموقع المعنوي للعائلة الكبيرة لأنها قادرة على ترجيح موازين القوى لمصلحة الطرف الأذكى والأكفأ في اختيار مترشحيه. وبما أن العائلات التقليدية السياسية في لبنان ليست قليلة وهي منتشرة على المناطق وموزعة أيضا طائفيا ومذهبيا في كل الدوائر تصبح هناك مهمات إضافية على قوى «8 و14 آذار» في غربلة الأسماء وتصفيتها اقتراعيا قبل اختيار مرشحها إلى مجلس النواب.
هناك أكثر من مئة عائلة سياسية في لبنان متموضعة في الجنوب والبقاع وزحلة والهرمل وعكار وبشري وزغرتا وطرابلس وكسروان والمتن وبيروت وصيدا والشوف والبترون وغيرها من المناطق. وهذه العائلات شكلت قاعدة هرم الدولة اللبنانية وتكونت منها تقليديا النخبة السياسية (وزراء، نواب، سفراء) التي أشرفت على إدارة الأجهزة والمؤسسات الرسمية خلال فترة زمنية امتدت صعودا وهبوطا من العام 1920 إلى نهاية الحروب الأهلية الإقليمية وتوقيع اتفاق الطائف. بعد توقف الحرب تراجع دور العائلات (العشائر) نسبيا في التوازن السياسي بسبب نمو الأحزاب (الميليشيات المسلحة) وتقدمها ميدانيا في المناطق والنواحي وأصبحت القوى الحزبية تشكل ذاك المنافس الإيديولوجي في إنتاج النخبة وتصديرها إلى مراكز الدولة وإداراتها وأجهزتها. وساهم تعديل قانون الانتخابات واعتماده الدائرة الموسعة في تكسير شوكة العائلات ونفوذها لأنها قوية في مكانها وضعيفة على مساحة الوطن.
العودة إلى القضاء الصغير (قانون 1960) رفع مجددا من شأن العائلات (العشائر) حين أعاد الاعتبار لتلك الهيبة التقليدية في التأثير على الاختيار والاقتراع. وهذا العنصر الإضافي يعتبر أهم نقطة طارئة على المشهد الانتخابي في يوم 7 يونيو المقبل. فالمترشح الحزبي لابد أن يكون من عائلة ذات وزن اقتراعي حتى يستطيع تجميع أكبر كمية من الأصوات لقائمة «8 أو 14 آذار».
القوائم كلها طائفية ومذهبية ومناطقية بسبب نظام المحاصصة (الكوتا) اللبناني إلا أن نجاحها بات الآن يتطلب إضافة تفكيكية جديدة على «وحدة القوائم» ما يقتضي على القوى المتنافسة إدخال أرقام العائلات التصويتية على المعادلة السياسية.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2392 - الثلثاء 24 مارس 2009م الموافق 27 ربيع الاول 1430هـ