سواء فاز الألمان بكأس العالم، أم سبقهم إليه الإسبان، فلا يستطيع أحد من المشاهدين أو الفنيين إنكار حسن أدائهم وتميزه خلال مباريات تصفيات كأس العالم في جوهانسبيرغ.
السمة العامة التي سادت ما تناقلته وسائل الإعلام التي نقلت وقائع المباريات، وتعليقات الجمهور وتقويمات الفنيين ممن شاهدوها أن السبب الذي يقف وراء تلك المسيرة الألمانية هي «شبابية لاعبي الفريق الألماني»، الذي قدر متوسط أعمار لاعبيه بنحو 25 عاماً، والذي أعرب عن تفاؤله بهم «كفريق شاب يمكنه أن يقدم عروضاً ولا أروع»، الألماني فرانتس بيكنباور الذي فاز بلقب بطولة العالم كلاعب العام 1974 وكمدرب العام 1990، ووصفتهم وكالة أنباء رويترز بأنهم «أصغر فريق تدفع به الكرة الالمانية منذ عقود طويلة حين تصبح مباراتهما في نهائيات كأس العالم لكرة القدم شاهداً على افتتاح واحد من أروع ملاعب البطولة».
وربما نجد فيما قاله النجم الكروي قائد المنتخب الألماني السابق والمحلل الفني للجزيرة الرياضية لوثر ماتيوس الكثير من الحكمة بشأن الموازنة بين ديناميكية الشباب وخبرة المخضرمين، حينما قال واصفاً الفريق «إن ما يقوم به على أرض الملعب أموراً رائعة وخارقة للعادة، لكني لا أراهن عليه لإحراز اللقب، لأنه فريق شاب ولم يسبق لكثير من لاعبيه خوض تجربة كأس العالم، وأنا آسف لما حدث لبالاك، لكن غيابه عاد بالنفع على المنتخب الألماني. لا أقول هذا الأمر بنية سيئة، بل لأن وجود بالاك حرم المانشافت من تألق بعض اللاعبين، كما يحدث الآن. يتحمل كل واحد من اللاعبين جزءاً أكبر من المسئولية. لقد أصبح أسلوبنا أكثر سرعة، لأن بالاك من كان يحدد إيقاع المنتخب، وهو ما لم يكن ملائماً لعقلية هذا الفريق الشـاب. لـذلك أقول إن غياب بالاك كان مفيداً للمنتخب، رغم أن ذلك أمر حزين».
ما يقال عن الكرة يمكن أن ينطبق على السياسة، فكم نحن العرب بحاجة اليوم إلى قيادة سياسية شابة مطعمة ببعض المخضرمين ممن اكتسبوا الخبرة، يختلفون عن الكهول الذين لم يعد بالوسع اقتلاعهم من فوق مقاعدهم القيادية. والحديث هنا لا يقتصر على أهل الحكم، بل يشمل أيضاً أصحاب الأحزاب المعارِضة (بكسر الراء). فلو استعرضنا قوائم الرؤساء والملوك العرب خلال نصف القرن الماضي، دون أي استثناء سوى الرئيس السوداني سوار الذهب، سنجد أن الموت وحده هو الذي غيبهم عن كراسي الحكم، التي - حتى في الأنظمة الجمهورية - ورّثوها لأبنائهم. وهكذا نجد إصرار الرؤساء العرب والقادة في الأحزاب التي تعارض حكمهم، على ابتكار المبررات التي تبيح لهم البقاء في السلطة أو القيادة، إلى اللحظة التي يلفظون فيها آخر أنفاسهم، بعد أن كتموا أنفاس جماهيرهم أو أعضاء منظماتهم. هذا على مستوى السلطة، أما على مستوى المعارضة، فكم رأينا من أمناء عامين الأحزاب العربية، ممن كانوا يشاركون في مؤتمراته الحزبية وهم مقعدون على كراسي متحركة، بعد أن تجاوزت أعمارهم الثمانية عقوداً من الزمان.
وإذا كانت الرياضة بحاجة إلى عضلات تحركها أعصاب شابة، فكذلك الأمر بالنسبة للرؤساء في السلطة، والقيادات في المعارضة، تحتاج عضلات الدماغ، كي تؤدي وظائفها، إلى خلايا شابة غير معطوبة.
ومرة أخرى ما يقال عن الكرة ينطبق أيضاً على السياسة، فمن شاهد مباراة ألمانيا ضد الأرجنتين، وبعدها هولندا ضد الأورغواي، لابد وأنه لمح تسليط الكاميرات، بين الحين والآخر، على المستشارة الألمانية ميركل، وهي تتأرجح شمالاً ويميناً فرحة عندما يسجل الفريق الألماني هدفاً، في المباراة الأولى، وعلى ابن ملك هولندا وزوجته الثانية، وهما يتمايلان طرباً عند تسجيل الأهداف في مرمى الفريق المنافس. عند كل ذلك الأمر يبدو طبيعياً، لكن ما كان غير طبيعي، هو أن أياً من لاعبي الفريقين الفائزين، ولا حتى أحداً من مدرائهما الفنيين، سمحت له نفسه بـ «إهداء» الفوز لأيٍّ من الثلاثة. لقد أشاد الجميع بأداء اللاعبين وشكروا مدربيهم، دون أن ينسبوا النصر للمستشارة الألمانية أو لأي من الأسرة الحاكمة الهولندية، أو للعقيدة الحزبية للحزب الحاكم، كما هو متبع لدينا حيث لا يتورع البعض منا فيصر على أن يهدي فوز فريقه لقائده أو رئيسه. بل يصل الأمر حتى إلى الأبحاث العلمية حيث نشاهد بعض العلماء العرب وهم يهدون أطروحاتهم العلمية، التي لم يكن ليحصلوا عليها، كما يعترفون هم، لولا مباركة الرئيس «الفلاني» أو الحاكم «الفلتاني».
انتصارات الفرق في كأس العالم تنسب لأعضاء الفرق الفائزة، ومن قام على تدريب لاعبيها، بعد أن منّ الله عليهم بتخليصهم من خصلة النفاق السياسي والتملق غير المقبول الذي يصل إلى مستوى نسبة كل نصر أو إنجاز لهذا القائد أو ذاك الرئيس، اللذين ليس لأي منهما أية علاقة من قريب أو بعيد بما تم تحقيقه.
هاتان الظاهرتان السياسيتان لمسهما كل من تابع وقائع مونديال جوهانسبيرغ. ولعل هذه الظواهر، وأخرى غيرها، تفسر لماذا يصل فريق ينتمي لدولة صغيرة مثل كوريا إلى رباعيات كأس العالم، وفريق من دولة أصغر هي الأوروغواي إلى نصف النهائيات وتخرج الفرق العربية في المراحل المبكرة. فبينما يعتمدون هم على لاعبيهم ومدربيهم، نتطلع نحن، حتى ونحن نركل الكرة في الملعب، إلى نيل رضا رؤسائنا ونخشى غضبهم.
وربما من باب العلم بالشيء، فإن عدد سكان الأوروغواي لا يتجاوز 3 ملايين ونصف المليون نسمة، وتقع محشورة بين البرازيل والأرجنتين، أما رئيسهم فهو خوسيه موخيكا، من مواليد العام 1935، وكان ومايزال ثورياً يحلم بالحرية والعدل والإنصاف.
وما لم نتخلص نحن كعرب من سلوك النفاق أو خصلة الخوف، سنجد أنفسنا دوماً بعيدين عن نهائيات المونديال، وأبعد ما نكون عن بناء نظام سياسي تتوافر فيه الحدود الدنيا التي يتطلبها مجتمع مدني متطور يتمتع فيه مواطنوه بما يحتاجونه من أمن واطمئنان يمدحون فيه فرقهم ولا ينافقون فيه رؤساءهم.
إقرأ أيضا لـ "عبيدلي العبيدلي"العدد 2862 - الأربعاء 07 يوليو 2010م الموافق 24 رجب 1431هـ