ألَيسَ غريباً أن تنعدم الحرّيات في بلد متقدّم تكنولوجيا حتى الإعجاب؟! وأليسَ غريباً أن تنعدم الخدمات المدنية المُقدَّمَة للناس في بلد غارق في الديمقراطية لحدّ الضَّجَر منها؟! هل هذه سفسطة قائمة أم لَيٌّ للحقائق، أم فعلاً انها حقيقة؟! المهم أنه مادام السّؤال عنها واقع فإن وجودها يُصبح قائماً أيضاً، وكأننا في جوف الديكارتيّة التي تقرِن الوجود بالتفكير.
الغريب أنه وضمن هذا المنطق (منطق التناقض ما بين دكتاتورية تولّد حياة رفاه واستقرار، وديمقراطية تُولّد حياة كفاف وعنف) إذا استمرّ وسط آليات تنفيذية منتظمة تاريخياً فقد يتحوّل الأمر إلى سياق طبيعي يقبل به الناس ثم يُدمِنون عليه. وإذا ما حصل ذلك فقد يتحوّل لاحقاً إلى أشبه ما يكون بطِباق السَّلب، لكنه مُتّحد في ميكانيزماته، حتى يتحوّل إلى هوية مقدّسة.
فأصل المطالبات (في مُعظمها على الأقل) تستهدف حاجات البشر وطرق تحسينها. وإذا ما توافر هذا التحسين عبر مسارات «غير مُطالِبَة» فقد يتحوّل الأمر إلى الاقتناع بالحكمة القائلة «العِبرة بالخواتيم». وفي أحيان مُختلفة قد تتحوّل التجارب الرديفة «الفاشِلة» أو «المُقصّرة» إلى مفاضلات ما بين ما كان وما بين هو كائِن، كما بالنسبة لعدد من تجارب المعارضات السياسية.
لك أن تتخيّل أن بلداً كسنغافورة تتوافر فيه خدمات تعليمية وإدارية وطبيّة (ومدنية بصورة عامة) تفوق ما هو موجود في دول أوروبية. فهذا البلد لديه أكثر من عشرين مستشفى عاماً يُغطّي حاجة السنغافوريين ويزيد إلى الحدّ الذي بات قادراً على استقبال مرضى الخارج. وكذلك الحال بالنسبة للسّكن، لكنه وفي نفس الوقت مازال يعتمد على نظام أمني صارم، وفضاء إعلامي رسمي رتيب، مع مروحة ضيّقة جداً من الفضائيات الغربية، تحجب سوءَة منعه خدمة الساتلايت. فهل أن ما يملكه هذا البلد هو من حَسَنات الدكتاتورية؟!
في بلد آخر كبنغلاديش تستحوذ فيه المرأة على خمسة وأربعين مقعداً في البرلمان، وعلى ثلث مقاعد الهيئات المحلية، ومُوقعة على أكثر من 17 اتفاقية دولية تضمن حقوق الإنسان، ولديها نظام حوكمة وانتخاب راقٍ يُشار إليه بالبَنَان، لكنها مازلت بلداً متخلفاً على مستوى الخدمات. بل إن أكثر من نصف الشعب هناك يعيش تحت خطّ الفقر. فهل إن ما يعانيه هذا البلد من إخفاقات وسيئات هي بفضل الديمقراطية؟!
في نموذج مماثل. الصيّن، التي تُعتبر تنّين الاقتصاد العالمي، وأحد منافسي الولايات المتحدة على الزعامة الاقتصادية، وأحد دائنيها الرئيسيين على مستوى السّندات، مازالت تخشى من وضع كلمة «تيانمن» في مُحرّك البحث غوغل لمن يعيشون أو يزورون الصين. فضلاً عن الحديث حول سلطات الحزب الشيوعي المركزي «الأوحد» فيها، وعن طريقة تعامل النظام الصيني السياسي مع الإعلام والحركات الإثنية وتداول السلطة سلمياً. كيف يُمكن استيعاب ذلك؟!
قبل أيام قرّر البرلمان الموريتاني «إطلاق» الفضاء السمعي والبصري، في الإعلام، عبر منح القطاع الخاص حق امتلاك الفضائيات والإذاعات إلى جانب ما تملكه الدولة. وإذا ما أخَذ القانون طريقه إلى التنفيذ على يد الحركات السياسية والمستثمرين، فإنه سيُشكّل منعطفاً مهماً في العالم العربي، فضلاً عن قيمته الاستثنائية في المغرب العربي، يحدث هذا رغم أن البلد مازالت تأكله الصحراء، والفاقة، وضعف الناتج القومي، ومداخيل الناس فيه.
وبين كلّ هذه النماذج قد تُصبح الدول الغربية ما بعد قبرص وحتى الشمال وصولاً إلى الغرب الأقصى حيث الولايات المتحدة الأقرب إلى إيجاد التوازن ما بين توفير حياة رفاه مع نظام حريات ناجز، رغم الحديث عن سيطرة بعض اللوبيات والعوائل البرجوازية هناك على العديد من مقدّرات وثروات تلك البُلدان. وللعِلم فإن هذا النوع من التوازن لم يتحقّق إلاّ بعد اقتتال دام أربعة قرون ما بين تلك الدول بعضها ببعض، وأيضاً احتراب القوميات والأعراق والأديان فيها.
ضمن هذه الإثارة، يتوجّب استحضار عدد من الرؤى حولها. فهذه البُلدان التي يعتبرها الغرب بأنها قاصِرة ومُقصّرة على مستوى إنضاج أنظمتها السياسية ومؤسساتها الدستورية لا يُمكن اختزالها في زاوية النكوص الديمقراطي والفشل على مستوى الحريات، وبالتالي استحقاقها «الغِلظة» لتعديل مسارها في الحُكم؛ لأن تلك الغلظة لتعديل مسار الحكم ستخضع حتماً لعمليات ابتزاز سياسي وتمييز يُقبَل به حيناً ويُرفض حيناً آخر، فضلاً عن كونه اختزالاً خاطئاً من الأساس.
فنمذجة العالَم بطابع سياسي/ ثقافي غربي بقضّه وقضيضه أمرٌ غير ميسور. كما أن صِيَغ الحُكم الموجودة في هذا البلد والتي تسير بنجاح، قد تتحوّل إلى كارثة فشل حقيقية حين يتمّ استجلابها إلى مكان مغاير. خُذ مثالاً في العراق. فحين كان هذا البلد يعيش تحت حكم دكتاتوري قمعي كانت ظروفه مستقرة، وحين عُلِّبَت له الديمقراطية عن بُعد أصبحت البلاد والعباد في طاحونة دم!
ظروف الحكم السياسية ليست أبنية لها أعمدة من حديد، ولا وصلات جامدة بين هيئاتها الدستورية. فهذه النُظُم تتسيّد في خاتمة الأمور على جوهر الحراك العام. مجموعة من البشر هم الذين يُشكّلون هويتها بالتماثل، وهم يتنفّسون الحاضر لكنهم عالقون في أصلهم بالتاريخ ومُقرّراته ومُثبّتاته والتي تنطبع على نسيجهم الاجتماعي والثقافي. وبالتالي فهم حين ينظرون إلى الحاضر ينظرون إليه وظِفْرُهم في التاريخ.
جاء الاسكندر الأكبر المقدوني (21 يوليو/ تموز 356 ق.م. - 13 يونيو/ حزيران 323 ق.م.) واجتاز هيليسبونت وولايات آسيا الصغرى وفرجيا ومناطق الشام وصولاً للمتوسط، وممتلكات داريوش الثالث ملك الفرس وهزمه شرّ هزيمة، لكن ذلك لم يُحوّل تلك البلدان إلى نسخ يونانية طبق الأصل لا من حيث الحُكم ولا من الثقافة.
وجاء المغول (656 هـ) (1258م) بهمجيتهم ورعونتهم وحطّموا الحضارة العباسية، ودمّروا بغداد وحاميتها، وأحرقوا تراث الإسلام، وعاثوا في الأرض فساداً لا يُوصف، لكنهم تفاجأوا لاحقاً بأنهم مُستَوعَبُون من قِبَل من أتوا إلى غزوهم. وأصبحت المجاميع المغوليّة لاحقاً إحدى الانتماءات المتعددة للإسلام، بدل أن تتحوّل تلك البُلدان إلى «سمات» مغولية قادمة من الشمال.
أقصى ما يُمكن قوله هنا إن تجارب الشعوب والأنظمة لا تستوعب لعبة التغيير الراديكالي في المفهوم، رغم أنها قادرة على التعاطي مع التصريفات الناعمة التي تفرضها ظروف العالَم وتحوّلاته. وبالتالي فإن صناعة «النظام السياسي» هي بحجم تعقيد «صناعة البَشَر» بكامل ظروفهم؛ لأن التماثل ما بين «النظام والناس» حقيقة شاخصة. وهو ما يعني خطورة المجازفة في الادّعاء بضرورة تغيير العالَم بضربة «حجَر» ولنا في العراق عِبرَة.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 2859 - الأحد 04 يوليو 2010م الموافق 21 رجب 1431هـ
هرطقة اسمها امن صدام
الى الزائر 3 اي امن ايام صدام ؟؟ تنام ليلا وتصحو وعلى رقبتك حمل المشنقة.. فقط اتركو العراق ياجيران العراق وسوف يعود الامن .لاترسلو ذو الاحاح والثوب القصيرة وسوف يكون العراق بخير..سبب الفوضى في العراق هو ازلام صدام البعثين والتكفيريين.. وتريدون زورا ان تجعلة العراق محرقة في نظام الحالي وتتفاخرون بنظام اقنل الرضيع والشيخ والام
أخيرا قلت كلمة الحق
فالعراق في عهد الراحل صدام حسين - و بالرغم من كثرة الأخطاء - إلا أنه كان أكثر أمانا، كان هناك الغذاء و الكهرباء و المستشفيات ... بينما انظر إلى ديمقراطية أمريكا التي جاءت بمهرجين من أمثال المالكي و مقتدى و عمار الحكيم ... أنظر ما وصل إليه العراق من بؤس و تشرذم.
فروع واصول
القضية الاساسية لدى الناس هو ان ينام ويصحوا بامان لانها الأصل اما الامور الاخرى فكلها فروع
الشرق
هناك دول لا تريد المجازفه برغبات الشعوب لان العابثون ربما يحولون البلاد والعباد الى الاعيب ودمى يسهل التلاعب بهم والسيطره على ثرواتهم وحضارتهم ولها ايضا مؤنرات جغرافيه ربما لتمارس بعض الالاعيب الديكتاتوريه على شعوبها وايران نموذجا