ستمضي سنوات حتى يدرك العالم الإسلامي مدى الخسارة التي لحقت به بغياب المرجع الفقهي السيد محمد حسين فضل الله (رحمه الله). فالخسارة عميقة في لحظة تاريخية تمر بها أمة تعصف فيها رياح الانقسامات الطائفية والتجاذبات المذهبية الضيقة التي تفطر العقول والقلوب وتوزعها على ولاءات عصبية هوجاء تعطل إمكانات الوحدة وتدفعها إلى الصغائر بعيداً عن الصراط المستقيم.
رحيل السيد فضل الله في هذا الفضاء المتلبد بالتشرذم يعتبر خسارة شاملة سيكون لها انعكاساتها على مختلف الفرقاء لأن فقه السيد انطلق من الوحدة أولاً والوحدة ثانياً والوحدة ثالثاً. ورحيل الفقيه التوحيدي في فترة ترتفع خلالها نزعات تكفيرية وإلغائية وتشطيرية تعتبر ضربة لكل تيار يقرأ التاريخ في سياق غير منقطع بين الماضي والحاضر والمستقبل. فالسيد في منظومته الفقهية الفلسفية تعانق مع الماضي برؤية نقدية وتطلع إلى المستقبل بروح استشرافية من دون اكتراث لتلك الاعتراضات التي كانت تواجه فتواه الشجاعة والجريئة من مواقع تسيطر عليها المخاوف الآنية من العامة أو أصحاب النوايا السيئة والعقول الصغيرة.
رؤية السيد فضل الله الفقهية فلسفية في جوهرها التوحيدي لأنها تأسست على قاعدة التدرج من العام إلى الخاص وثم العودة بها منطقياً من الخاص إلى العام. فالرؤية الفلسفية كونية (وحدة الأفق) وبعدها تبدأ التفرعات عن الأصل التي تعترف بوجود الاختلافات لكونها رحمة للناس لا سلاحاً يستخدم للاقتتال والفرقة والفتنة وتحقيق أغراض آنية.
الوحدة لا تعني عند السيد الراحل تجاهلاً للاختلاف وإنما هي أساس التفكير بوصفها تشكل نقطة البدء المركزية التي منها يمكن الانطلاق لمعالجة الانقسام. وحين تكون الوحدة الكبرى هي الموضوع تتحول الوحدات الصغرى إلى أجرام تتحرك في إطار وحدود الفلك الكبير.
هذا التفكير الفلسفي الفقهي ساعد السيد على إطلاق حركة اجتهادية تجديدية تميزت بالشجاعة والجرأة ما ساهم في توليد طاقة دينامية أعطته قدرة على اختراق الكثير من المُسَلَّمات التي ترسخت في أذهان العامة بفعل تكرار العادة وتوارثها من جيل إلى آخر.
الاعتراف بالاختلاف لا إنكاره شكَّل عند السيد خطوة حاسمة للبدء في إعادة قراءة التاريخ والحفر في رواياته وحكاياته بقصد تصحيح مقولات منقولة شفهياً ولا دليل يؤكد صحتها في المراجع الموثوقة. إعادة تصحيح المنقولات الشفهية شكلت صدمة ثقافية لدى العامة وشجعت القوى المستفيدة من الانقسام على تنظيم حملة مضادة حاولت تشويه صورة السيد انطلاقاً من سياسة الحشد أو تجييش العصبيات التي تقرأ الزمن بناء على الفرقة لا الوحدة.
ردَّ السيد على الحملة الظالمة بالصمت وترفَّع على الانجرار وراء تلك الأقلام المسمومة التي تطاولت على العلم اعتماداً على تكرار خرافات لا قيمة راهنة لها سوى حفر القبور وتمزيق الجسد والعبث بالجروح بغية الكسب السياسي المؤقت على حساب الحقائق التاريخية ووحدة الأمة.
القدرة على التحمل، المضافة على الشجاعة والجرأة في كسر أنماط من السلوكيات، المعطوفة على الأخذ بالعلوم والاكتشافات والاختراعات المعاصرة شكلت في مجموعها أدوات تحليل تساعد على الحفر في الوقائع والاجتهاد في النص حتى تستطيع الفتوى أن ترد على التحدي والأسئلة. فالفتوى عند السيد الراحل لم تكن نتاج تراكم الماضي بل هي مزيج دينامي يولد قوة طاقة تتناسب مع وقائع العصر ومجرى التاريخ الذي يتقدم دائماً ويتطور من دون انقطاع. وهذا هو بالضبط دور الفقيه الفيلسوف وإلا ماذا يعني المرجع إذا لم يكن عنده القدرة والشجاعة والجرأة والانتباه للمتغيرات والتحولات القريبة والبعيدة عنه حتى يستطيع أن يفتي ويقرأ المستقبل بناء على الحاضر وتأسيساً على الماضي.
فتاوى السيد فضل الله العصرية ستبقى مثار جدل في المستقبل لأنها شكلت قوة دينامية استباقية استشرفت الكثير من الاحتمالات في عالم يتغير يومياً ولا يعترف إلا بوجود القوى الحية القادرة على مخاطبة تحولات لا يمكن التصدي لها إلا من خلال التعامل العقلاني مع متطلباتها وتداعياتها. فالخوف من العلم والتهرب من استحقاقاته ورفض استخدام أدواته للتعرف على الحقائق الأزلية والأبدية كلها إرهاصات متخلية رفض السيد إدخالها إلى مدرسته الفقهية الفلسفية. الفتوى نتاج زمانها وهي تتطلب قراءة عصرية حتى تستطيع احتواء الوقائع الجارية وبالتالي الصمود في مواجهة المتغيرات في المستقبل.
قوة الراهن لم تكن تعني عند السيد تجاهل الماضي والتهرب من الاستحقاقات في المستقبل. فالراهن نتاج ديناميكي مركب من عوامل مختلفة بعضها طارئ وبعضها قابل للنمو والتقدم مضافة على عناصر مختلطة من المواد الموضوعية وقوة الإرادة والتصميم والجرأة والاستعداد للتضحية، وكل هذا يتطلب من المرجع الفقيه أن يكون في موقع المسئول القادر عن الإجابة الصحيحة والعادلة بغض النظر عن ردة الفعل ومدى الاستجابة من العامة وأصحاب الرؤوس الحامية.
الفتوى علم وليست كلاماً يعتمد على الإنشاء أو بلاغة البيان أو فوضى في الأفكار الفضفاضة التي تقول كل شيء من دون تركيز أو تدقيق. فالفتوى لها قواعدها الفقهية (العلمية) ومنهجها الفلسفي (أدوات الحفر والتخاطب) وسياقها الزمني (الماضي الحاضر المستقبل) والرؤية العقلية التي تهندّس العمارة من العام إلى الخاص والعودة من الخاص إلى العام. وهذا النوع من الاجتهاد الفقهي الفلسفي أعطى مرجعية السيد فضل الله تلك الخصوصية الشاملة لأنها جمعت بين الاختلاف والوحدة على قاعدة أن الوحدة لا الانقسام هي الأساس. وساهمت هذه الرؤية التأسيسية في تشكيل خصوصية شاملة (توحيدية عامة) جذبت إليها الانتباه والتقدير من كل القوى والمدارس والمذاهب الإسلامية على اختلاف أنواعها وألوانها.
تجرُّد السيد وترفُّعه وعدم انجراره إلى الشراذم والحلقات الضيقة وأهواء العامة جعلته يحتل مكانة خاصة في عالم إسلامي مضطرب من كثرة فوضى الفتاوى العابرة للقارات أو المتسلطة على مواقع الإنترنت والفضائيات المذهبية والإعلام الطائفي. أعطت هذه النزاهة الطاهرة فتاوى السيد قوة دينامية خاصة نجحت في اختراق مختلف الطوائف والمذاهب ما جعله أحياناً يتحول إلى مرجع عام يعود إليه الجميع عند الحاجة. وسبب هذه الثقة يعود إلى نزعة السيد التوحيدية وحرصه على البحث عن الحقيقة وعدم تردده في كشفها في حال توصل إليها حتى لو أدت إلى إثارة غضبِ جمهورٍ تأسّس على عصبيات مغلقة ومنظومة أيديولوجية تقسيمية طاردة للوحدة والعقل والمنطق.
سنوات كثيرة ستمرُّ على العالم الإسلامي حتى يدرك مدى عمق الخسارة التي تكبدها برحيل المرجع الفقهي الفلسفي السيد فضل الله. فالفراغ الذي سيخلفه السيد يصعب تعبئة حاجاته ومتطلباته بالسرعة والسهولة المرجوّة وذلك لاعتبارات كثيرة تتجاوز العلم والمعرفة والاطلاع والمتابعة والمثابرة والحفر في التاريخ والاجتهاد في النص. فالخسارة أكبر لأنها تتصل بغياب إنسان فقيه فيلسوف اتصف بتجرده عن الانقسامات والاختلافات حرصاً على الوحدة وضياعها في خضم فوضى اضطراب العصبيات والتعصب المنغلق على التخلف الذهني. فالوحدة عنده هي الأساس، وغياب الأساس الذي من أجله كان القصد من الدعوة والرسالة يشكل برأيه كارثة على الإسلام.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2859 - الأحد 04 يوليو 2010م الموافق 21 رجب 1431هـ
فكر متأصل
السيد فكر متأصل وباحث بالتاريخ، لكن استخدام فكر السيد بهذا الطرح ليس دقيق في الكتابة، لا يوجد احد يجزم التاريخ ولا يوجد أحد يمسح التاريخ، وتبقى بعض موروثات التاريخ و الواردات محط الأساس في التقييم والموارثة، ففكر فضل الله أراد أن يستخدم في التآلف وليس والعصبية
مفقود كبير
حقا لأننا صغار فإننا نحتاج الى وقت كبير لنشعر بحجم الخسارة ، فنحن كسياسيين لبنانيين ومن جميع الطوائف نحتاج الى وقت لنتحسس الخسارة وكعرب ومسلمين من الشيعة ولسنة سوف نحتاج الى وقت أكبر لنشعر بالخسارة.
لكن المصيبة إن لم نشعر !
بنت عيد
لقد خسر العالم جزا كبير بعد فقد فضل اللة حشرك مع جدك النبي وجدتك الزهراء في جنة الخلد مع النبيين والرسلين
أبو جالبوت
مقال جيد و لكنه يستغرق في تفاصيل و تشعبات كثيرة قد لا تعطي وحدة موضوع ينطلق و يتماسك ويتفاعل معها القارىء ،
شكرا
السيد فضل الله المترفع عن الصغائر
رحمه الله بواسع رحمته و أسكنه فسيح جناته .. عاش عزيزا و توفي عزيزا .. لم يكن الأنسان الذي يخضع لأي سلطة كانت سياسية أم كهنوتية ... ياناطح الجبل الأشم ليكلمه أشفق على الرأس لا تشفق على الجبل .. و بالتأكيد فإن فضل الله هو الجبل الأشم!