اللقاء «السري» الذي عقد في بروكسيل بين وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو ووزير التجارة الإسرائيلي بنيامين بن اليعازر ألقى الضوء على حدود التوتر بين الطرفين. فاللقاء كشف المدى الذي يمكن أن تصل إليه سياسة عدم الثقة وحدودها الظرفية أو الدائمة.
اللقاء الذي جرى قيل إنه تم التحضير له «بدقة فائقة» بناء على طلب الجانب الإسرائيلي، ليكون بعيداً عن الأضواء ومعرفة الوزارات المعنية، يعيد رسم خريطة طريق توضح جوانب حساسة تربط الدولتين في مجال إقليمي يتعرض دائماً لتقلبات دولية تؤدي في حالات كثيرة إلى خلط الأوراق وإعادة ترتيب للأولويات.
مناسبة اللقاء جاءت بعد توجه الوفد التركي إلى بروكسيل لتجديد البحث في مسألة انضمام أنقرة للاتحاد الأوروبي بعد ضغوط أميركية طالبت دول الاتحاد بتخفيف شروط العضوية وإفساح المجال لدخول تركيا إلى السوق حتى لا تضطر إلى البحث عن بدائل تعوض حاجتها وطموحها ودورها الإقليمي الصاعد في المحيط العربي. الطلب الأميركي تمت مناقشته بين رئيس الوزراء التركي طيب رجب أردوغان والرئيس باراك أوباما حين التقيا على هامش قمة «مجموعة العشرين» في تورنتو (كندا). فاللقاء الثنائي أعاد فتح كل الملفات بما فيها أهمية تركيا ودورها الإقليمي في المحافظة على الاستقرار وموقعها الجغرافي الاستراتيجي بصفتها من الأعضاء البارزين في الحلف الأطلسي وتتمتع بعلاقات عسكرية خاصة مع «إسرائيل».
اللقاء «السري» في بروكسيل الذي أعد بعناية فائقة وبرغبة أميركية لم يقتصر جدول أعماله على المتغيرات الظرفية التي توالدت بعد الهجوم الإسرائيلي على «قافلة الحرية» وقتل تسعة أشخاص من الناشطين في مجال حقوق الإنسان وإنما تطرق إلى مصير الثوابت التي تجمع القوتين الإقليميتين في محيط يمر الآن في منعطف تاريخي قد يؤدي إلى إعادة تشكيل خريطته السياسية في فترة تستعد الولايات المتحدة إلى سحب قواتها من العراق في نهاية 2011.
الجانب المعلن عن اللقاء «السري» أشار إلى التداعيات التي نجمت عن الهجوم الإسرائيلي على سفينة مرمرة وتمثلت في استدعاء أنقرة لسفيرها من تل أبيب وإلغاء ثلاث مناورات عسكرية مشتركة وإغلاق جزئي للمجال الجوي أمام الطائرات العسكرية الإسرائيلية. كذلك أشار اللقاء إلى تجديد أنقرة مطالبتها تل أبيب أن تقدم الاعتذار لسقوط الضحايا وتعويض العائلات وفتح تحقيق دولي في الهجوم والإفراج عن ثلاث سفن احتجزتها خلال الاعتداء وأخيراً رفع الحصار عن غزة.
الجانب غير المعلن يمكن رصده وتتبع تداعياته الأمنية على الداخل التركي من خلال نمو غير مسبوق تمثل في هجمات متتالية بدأ يشنها حزب العمال الكردي على القواعد والثكنات وخطوط الإمداد في شرق وجنوب شرق تركيا. فهذا التدهور الأمني بدأ في 31 مايو/ أيار حين شنت قوات الحزب هجمة مباغتة على قاعدة عسكرية بحرية في الاسكندرون أدت إلى مقتل 8 جنود أتراك في الليلة التي تصادف فيها وقوع حادث اقتحام سفينة مرمرة المتوجهة إلى قطاع غزة.
المصادفة في توقيت الهجومين ليست بعيدة عن إعلان زعيم حزب العمال الكردي عبدالله أوجلان من سجنه نهاية الهدنة العسكرية والبدء بالعمليات المسلحة في مختلف المدن والمناطق انطلاقاً من الأول من يونيو/ حزيران الماضي. فالإعلان الذي تصادف بعد يوم من الهجومين وجه رسالة أمنية واضحة للحكومة التركية تهدد بزعزعة الاستقرار ونشر الفوضى وإثارة القلق وكسر صورة القوة التي تحاول أنقرة الظهور بها في المنطقة العربية. فالإعلان ليس بريئاً في توقيته وخصوصاً أنه ترافق مع سلسلة هجمات وضربات وتفجيرات أودت بحياة أكثر من 50 جندياً في أقل من شهر عن نهاية هدنة امتدت من العام 1998.
انهيار الوضع الأمني في شرق وجنوب شرق الأناضول وعودة حزب العمال الكردي إلى توجيه ضربات أو تفخيخ سيارات في الاسكندرون واسطنبول واضطرار الجيش التركي إلى شن هجوم معاكس واختراق الحدود العراقية في الشمال كلها عناصر ساهمت في كسر صدقية حكومة تؤمن بضرورة إيجاد حل سلمي للمسألة الكردية التي أخذت تتفاقم منذ 26 عاماً. فهذا الانهيار لم يكن نتاج لحظة أو جاء فجأة من دون تدبير وتخطيط وتحضير إلا أن توقيته مع بدء التصادم العلني مع حكومة تل أبيب لا يمكن إسقاطه من حسابات حكومة أردوغان – أوغلو التي اعتبرت أن هناك خطة مدروسة تقف وراء إشعال جبهة الأناضول وإثارة مسألة الأقليات وحقوق الإنسان في لحظة تحاول فيها تركيا البحث عن دور إقليمي في منطقة عربية مقبلة على تحولات دراماتيكية في السنتين المقبلتين.
هذا الانهيار الأمني أقلق أردوغان وأحرجه ما اضطره إلى توجيه نداء إلى الأصدقاء والحلفاء في أوروبا والشرق الأوسط دعا فيه إلى قطع الأموال عن المتمردين وتسليم المتشددين المشتبه بهم. هذه الدعوة السياسية كشفت عن نقطتين: الأولى أنقرة ترى أن هناك جهات خارجية تحرك ملف الأقلية الكردية وتستخدمه أمنياً لإثارة البلبلة وإضعاف شعبية الحكومة وكسر هيبتها في شارع يستعد للانتخابات النيابية في العام المقبل. الثانية ضعف الأجهزة الأمنية وعدم قدرتها على ضبط شبكة الحزب الكردستاني ومنعه من توجيه ضربات استباقية تعطل على الحكومة الاستمرار في سياسة التنمية التي نجحت في إظهار قوة تركيا الاقتصادية ما جعلها تحتل ذلك الموقع البارز في «مجموعة العشرين».
اللقاء «السري» الذي جرى في بروكسيل بين أوغلو واليعازر جاء في سياق حاجة متبادلة بين الطرفين تتجاوز تلك المصادمة الظرفية التي تصادفت مع عودة أوجلان عن اتفاق الهدنة العسكرية. فاللقاء الذي تم التحضير له «بدقة فائقة» تطرق إلى الجفاء السياسي الناجم عن الهجوم على قافلة سفن الحرية وتبعاته الثنائية إلا أنه أتى على ذكر مجموعة من النقاط التحذيرية التي تنبه إلى احتمال انكشاف أمن تركيا وتعريض موقعها الاستراتيجي إلى الخطر في حال أصرت على مواصلة سياستها الجديدة في منطقة إقليمية مفتوحة دائماً على تحولات بعضها محسوب ومدروس وبعضها الآخر لا يمكن توقعه والتحوط له.
الرسالة كما يبدو وصلت ويرجح أن تبدأ حكومة أردوغان – أوغلو بمراجعة الملفات وإعادة قراءة أوراق سياسية كثيرة ومدى كلفتها الأمنية والاقتصادية وبالتالي الاختيار بين التطورات الظرفية والمصالح الدائمة.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2857 - الجمعة 02 يوليو 2010م الموافق 19 رجب 1431هـ