يمكن القول أن مفهوم الحوار كأسلوب للبحث والنقاش للوصول للحقيقة هو من المفاهيم القديمة الجذور في الفكر السياسي والديني، فمن ناحية الفكر السياسي يمكن أن نجد محاورات أفلاطون، وكذلك محاورات غيره من المفكرين الإغريق كذلك في العصور الوسطى برز في كتابات القديس والقاضي سير توماس مور (1478 - 1535) في بريطانيا ومنهج الديالكتيك الذي كان من أبرز المعبرين عنه هيغل (1770 - 1831) ثم حوله كارل ماركس إلى فكر الديالكتيكية المادية وكلاهما أصبح أساساً لتحليل وتفسير وفهم تطور المجتمعات.
وفي إطار الفكر الديني نجد أكثر مظاهر الحوار في القرآن الكريم حيث دعا إلى التحاور مع غير المؤمنين ومجادلتهم بالحجة وبالتي هي أحسن، وعرض أيضاً كمنهج حوار بين الله سبحانه وتعالى وبين أنبيائه ومنهم نوح عندما جادل الله في مصير ابنه، وإبراهيم عندما جادل الله في شأن قوم لوط، وعندما جادله أو حاوره في كيفية أحياء الموتى، بل إن الله سبحانه وتعالى سمح لإبليس بأن يحاوره في شأن خلق آدم، وقال له إنه مخلوق من نار وآدم مخلوق من طين والنار أفضل من الطين ولذلك رفض أمر الله بالسجود لآدم. بل إن الله تحاور مع ملائكته في شأن خلق الله لآدم ليكون خليفة في الأرض، تساءلوا «قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك» (البقرة: 30).
ولكن في العقود الثلاثة الماضية برز مفهوم الحوار في إطار جديد ومختلف هو إطار الحضارات وكان أول طرح لذلك في منظمة اليونسكو في العام 1984، وأخذ الرئيس الإيراني السابق محمد خاتمي بعد ذلك الفكرة وطرحها على القمة الإسلامية التي عقدت في طهران في العام 1997، واعتمدت القرار، وتقدمت به لدورة الجمعية العامة للأمم المتحدة التي اعتمدته ودعت لكي يكون عام 2001 هو عام حوار الحضارات وطلبت من الدول عقد ندوات وورش عمل في هذا الصدد.
وفي الإطار السلبي طرح البروفسور الأميركي صامويل هنتنغتون (1927 - 2008) مفهوماً مضاداً لذلك وهو مفهوم صراع الحضارات وطرح ذلك في مقال له في مجلة الفورين أفيرز ثم طوره في كتاب صدر في منتصف التسعينيات، وزاد الاهتمام بمفهوم صراع الحضارات ونقيضه حوار الحضارات بعد الحوادث الإرهابية في نيويورك في 11 سبتمبر/ أيلول 2001 سعى بعض الفلاسفة لتأصيل فلسفة الصدام الحضاري بين الغرب والإسلام، وعلى الجانب الآخر برز فلاسفة وكتاب ومفكرون عرب ومسلمون وغربيون أيضاً دعوا لحوار الحضارات ودحض فكر صمويل هنتنغتون ومن لف لفه.
ومن ناحية ثالثة برز في العلاقات الدولية مفهوم الحوار في عدة أطر للتقريب بين الشعوب وإزالة اللبس المرتبط بمشاغلها الأمنية والاقتصادية ومن ذلك الحوار العربي الأوروبي، الحوار العربي الصيني، الحوار العربي الياباني، الحوار الأورومتوسطي، الحوار الإستراتيجي المصري الأميركي، والحوار الخليجي الصيني، والحوار الخليجي الأوروبي، ومن الصعب حصر كل تلك الحوارات وغيرها لتعددها وتشعبها بل إن الأمم المتحدة دخلت في السباق فدعت لما أطلق عليه تحالف الحضارات في مؤتمر اسطنبول عام 2005.
ولعل من أبرز المبادرات لحوار الحضارات هي المبادرة التي قام بها وزيرا خارجية البحرين واليابان في العام 2001 أثناء زيارة الوزير الياباني للبحرين ضمن جولة خليجية طرح فيها فكرة الحوار الياباني الإسلامي وعقدت في إطار هذه المبادرات ندوات سنوية كان أولها في البحرين في 2002 ثم طوكيو في 2003 ثم طهران 2004 ثم تونس 2006 ثم اليابان 2007 والسعودية 2008 والكويت 2009 واليابان 2010. وناقشت تلك الجولات التصورات لدى كل من اليابان والعالم الإسلامي تجاه الآخر وكيفية تصحيح ذلك، كما ناقشت قضايا الحوار الثقافي والحوار الديني ومفاهيم كرامة الإنسان، والتحديث، وقضايا الشباب، والبيئة والتطور التكنولوجي والتبادل الثقافي والعلمي ونحو ذلك من قضايا تمس صميم اهتمامات الشعوب ومصالحها.
ولكن يمكن أن نتساءل هل هذه الحوارات العالمية العديدة أدت إلى نتائج ملموسة أم أنها أصبحت كما أطلق عليها البعض أنها حوار الطرشان فكل طرف يعبر عن وجهة نظره ومواقفه ثم ينتهي الاجتماع ليعقد مجدداً بعد فترة وهكذا.
والتساؤل الأكبر هو حول جدوى حوارات المثقفين وهم ليسوا صناع القرار؟
وللرد على التساؤلات السابقة يمكن أن نشير إلى عدة ملاحظات ذات صلة وثيقة في هذا المجال...
الأولى: أن الحوار يفترض وجود خلاف ووجود عدم فهم لمصالح وتصورات وثقافة الطرف الآخر، وهذا يعني أن هدف الحوار السعي لإزالة سوء الفهم، وهذه مسألة ليست سهلة وتحتاج إلى وقت لبناء تصورات جديدة تجاه الآخر.
الثانية: أن بعض الحوارات ركزت على قضايا محددة مثل حوار العقائد والثقافات والأديان وتحولت إلى أداة من أدوات بناء مفاهيم جديدة بإزالة اللبس السابق في تعامل الدول والثقافات. وهذا بدوره يزيل ما طرأ على علاقات الدول من توترات نتيجة كتابات أمثال صامويل هنتنغتون أو غزو العراق وأفغانستان وغيرها.
الثالثة: أن الحوار يعني السعي للوصول إلى تفاهم حول القضايا المشتركة وتجنب التركيز على الخلافات وإعطاء أولوية لجوانب الاتفاق وهي خطوة متقدمة لاستعادة السلام وحسن الجوار وعلاقات التعايش بين الدول المختلفة.
الرابعة: أن الحوار استهدف بناء مصالح اقتصادية وعلمية وتكنولوجية ولعل الحوار العربي الصيني حقق إنجازات لا بأس بها، كذلك الحوار الخليجي الأوروبي أو الأوروبي المتوسطي أو حوار الآسيان مع دول الخليج أو مع دول الشرق الأوسط AMED وبناء شبكة المصالح والتبادل أيضاً تستغرق وقتاً.
الخامسة: أن المهم في هذه المرحلة حاجز الاغتراب والنظر للآخر كعدو، وإنما النظر له كشريك في بناء السلام، وفي مواجهة المخاطر والتحديات، وتحويل ذلك إلى فرص وإنجازات. فالعلاقات العربية الإيرانية أو العلاقات العربية التركية أو العربية الأوروبية أو العلاقات العربية الأميركية محملة برواسب تاريخية عميقة لها إيجابياتها ولها سلبياتها والمهم تعظيم الإيجابيات والتقليل من السلبيات للوصول إلى التوافق والتعايش، والحد من الطموحات على حساب الآخرين تحت دعاوى العظمة والقوة والسعي للهيمنة.
السادسة: أنه ليس أمام عالمنا المعاصر سوى الحوار وسيلة لحل الخلافات وإزالة سوء التفاهم؛ لأن الحروب نتائجها كارثية، واستمرار الخلافات يعمقها وقد يؤدي لحروب متتابعة في حلقاتها.
السابعة: أن فلسفة الحوار تقوم على ركائز واضحة وهي الشفافية والرغبة الصادقة والبعد عن منطق الخداع والتلاعب بالوقت لصالح طرف دون آخر والسعي لتحقيق المصالح المشتركة على أساس الكسب للجميع وليس لمصلحة طرف آخر. فالعالم مليء بالخيرات، ومليء أيضاً بالمشاكل التي يمكن أن تؤدي به للهاوية وسباق التسلح النووي وأسلحة الدمار الشامل الأخرى بل، والتسلح التقليدي ناهيك عن قضايا البيئة والديون والأزمات المالية والاقتصادية تواجه العالم بأسره بتحديات بالغة الخطورة، ولابد أن يتعامل معها الجميع بصدق وإخلاص للمصلحة المشتركة وللحيلولة دون حدوث انهيار عالمي أو كارثة عالمية لا يستطيع طرف أو أطراف التعامل معها بمفردهم ولعل من الأمور قد تبدو بسيطة وهي ليست كذلك عدم ضبط التلوث البيئي والانبعاثات الحرارية أو عدم توافر ضمانات أكيدة للبرامج النووية السلمية ناهيك عن العسكرية أو تسرب النفط كما في حادث المنصة لشركة النفط البريطانية في خليج المكسيك أو ظاهرة ارتفاع الحرارة التي قد تؤدي لإغراق مناطق عديدة في العالم.
من أجل كل ذلك ندعو لنشر ثقافة الحوار سعياً لتحقيق ثقافة السلام ثم بناء علاقات تعاونية، والبحرين رغم صغر مساحتها وقلة عدد سكانها تعد من الدول الرائدة في هذا الصدد.
إقرأ أيضا لـ "محمد نعمان جلال"العدد 2857 - الجمعة 02 يوليو 2010م الموافق 19 رجب 1431هـ