أشار وزير الخارجية المصري أحمد أبو الغيط إلى أن قمة اللجنة الخماسية التي عقدت في طرابلس الإثنين الماضي توصلت إلى «نتائج مهمة ومحورية» بشأن تطوير وتفعيل آليات العمل العربي. والنتائج التي تم التوافق عليها ستصاغ في وثيقة ستعرض للنقاش خلال القمة العربية الاستثنائية المقرر عقدها في أكتوبر/ تشرين الأول المقبل. وتشمل الوثيقة مجموعة اقتراحات تطالب بعقد قمم تخصصية تركز على مجالات الاقتصاد والتنمية والثقافة والبحث العلمي إضافة إلى موضوعات أخرى طموحة تتصل بإقرار النظام الأساسي للبرلمان العربي وتقديم المساعدات في حالات الطوارئ والكوارث الإنسانية.
إلى ذلك أشار أبو الغيط إلى أن القمة الخماسية توصلت إلى صيغة توفيقية بشأن تسمية الجامعة واقترحت بأن يطلق عليها اسم «اتحاد جامعة الدول العربية»؛ حرصاً على إرثها التاريخي وعدم التفريط بهويتها التقليدية.
تسمية «اتحاد جامعة» تشكل برأي الدول العربية تسوية مؤقتة بين تيار يدعو للارتقاء نحو «الاتحاد» وآخر يطالب بالمحافظة على مفردة «الجامعة» في اعتبار أنها تعكس واقع الحال من دون مبالغة في التفاؤل. والتسوية اللفظية التي يمكن أن تلعب دور قناة التعويض عن المشكلة اللغوية لن تنجح بالضرورة في تحديد نقاط الضعف والخروج من أزمة أخذت تتطور واقعياً بالاتجاه المضاد للاتحاد والجامعة في آن.
المشكلة في أساسها ليست لفظية حتى يتم تسوية الموضوع بإضافة كلمة «اتحاد» إلى «جامعة» وتنتهي المسألة في حدود لغوية لا علاقة لها بجوهر الأزمة. المشكلة مفهومية لأنها تضغط باتجاه إعادة تعريف دور الجامعة وهي أيضاً وظائفية تتصل مباشرة بإعادة هيكلة المؤسسات وإعطاء صلاحيات خاصة لها تعطيها حق المساءلة والمتابعة والملاحقة وأحياناً التدخل في حال اقتضى الأمر.
مسألة الاتحاد دستورية وهي لا يمكن أن تلعب وظيفتها إلا في إطار علاقات هرمية تنظم عمودياً قنوات الاتصال بين دول عربية موزعة على مساحة جغرافية هائلة الحجم وممتدة على مسافات متباعدة ومتخالفة في المناخ والطبيعة والموارد والبيئات المتنوعة في درجات الطقس. الموضوع الجغرافي شديد الأهمية لأنه يضغط سياسياً على مجموعات من الدول موزعة على أقاليم غير موحدة في طبيعتها تنتشر من المحيط الأطلسي في أقصى الغرب وتمتد بحرياً على شاطئ المتوسط الجنوبي وصولاً إلى شرقه، ثم تعبره باتجاه البحر الأحمر والخليج العربي وصولاً إلى بحر العرب والمحيط الهندي.
هذه المساحات الجغرافية التي تقارب أو تباعد بين دول البحر المتوسط الأوروبية وتغور إلى عمق الصحراء ومرتفعات النيل الاستوائي والوسط والغرب والشرق الإفريقي وتستقر على بيئات جوارية تحيط بها تركيا وإيران من الشمال تحتاج فعلاً إلى إطارات تنظيمية قادرة على ضبط إيقاع هذه الامتدادات الهائلة من التنويعات المناخية والمعيشية والحياتية. فهذا المجال الحيوي يتطلب هيئة دستورية تتجاوز مفهوم «الجامعة» وعقلية «الشقيقة» وسياسة «الاخوة» الجوارية والقبلية حتى تكون قادرة على الإحاطة بالمشكلات والسيطرة عليها ومنع انزلاقها نحو هاوية التفكك وما يعقبها من انشطارات أهلية تهدد الدول العربية وتمزقها إلى هويات صغيرة تخرج إلى السطح من داخل المجتمعات المأزومة.
المشكلة ليست في التسمية وإنما في الهيكلة. مفردة «الجامعة» ليست هي أصل الأزمة وإنما عدم وجود صلاحيات دستورية تعطي المؤسسة حق المتابعة والمحاسبة حين تتخلف الدول العربية عن تنفيذ توصيات تم التوافق عليها بالإجماع. فهناك الكثير من الاتفاقات والنصوص الرائعة خرجت من لقاءات القمة على امتداد ستة عقود وتناولت مختلف القطاعات الدفاعية والنقدية والاقتصادية والتنموية والتربوية والصحية والاجتماعية وما يتفرع عنها من مجالات حيوية تتصل بالمياه والكهرباء والاتصالات والمواصلات والنقل والشحن وسكك الحديد والجمارك والموانئ والمطارات والسفر والإقامة والتنقل... وغيرها من شئون وشجون. كل هذه التنويعات الوحدوية التي أقرتها «الجامعة» لم تنفذ على رغم توافق الدول على حيثياتها وبنودها. وهناك بعض الدول خالفت توقيعها وقامت باتخاذ خطوات معاكسة لكل تلك الفقرات التي وردت في الاتفاقات.
عدم الالتزام بالتوقيعات هو أساس المشكلة والسبب أن الدول العربية تستفيد من مظلة «الجامعة» للتهرب من الالتزامات «القومية» بذريعة أن قرارات القمة اختيارية وليست إلزامية وبالتالي فهي قادرة على تقزيم المسئولية لأن الميثاق يعطيها تلك الفرصة القانونية.
المشكلة ليست في مفردة «الجامعة» وإنما في مضمونها الاخوي الذي يتعامل مع أعضاء الهيئة بعقلية القبيلة أو «الشقيقة» في الأسرة من دون مراجعة أو محاسبة أو ملاحقة التقصير الذي يتسبب في أذى الجميع. وهذا النوع من العلاقات التنظيمية تأسس في حقبة الأربعينات ولم ينجح في تجاوز ظروفه واعتباراته المؤقتة حين أخذت الجامعة (الخيمة) بالتوسع الأسري والتمدد الأفقي من المحيط إلى الخليج.
مساحة الجامعة قارية وهي تساوي خمسة أضعاف الاتحاد الأوروبي (27 دولة) وتقارب مساحة أميركا (50 ولاية) وهي تجمع أجزاء معتبرة من آسيا وإفريقيا وتضم البحار وتشارف المحيطات وتقع فيها أهم احتياطات النفط والغاز والطاقة الشمسية والممرات والقنوات التجارية الاستراتيجية والأنهار العظيمة التي أسهمت في إنتاج حضارات كبرى من النيل إلى الفرات. هذه المساحة القارية لا يمكن أن تقودها مؤسسات أخوية - رعوية تعتمد علاقات تنظيمية أفقية تتصف بالميوعة والإهمال والتسيب وعدم الملاحظة والتحقق والتقصي في أمور تزعزع الأمن القومي والمصلحة العليا.
تسمية «اتحاد جامعة» لا تقدم ولا تؤخر لأن الموضوع لا يختزل بالمفردة وإنما بالمفهوم العام وما يعنيه من إعادة هيكلة ترفع العلاقات الاخوية (الشقيقة) إلى مستوى منطق الدولة (المصلحة). فالسؤال له علاقة بالمصلحة. فهل هناك مصلحة للدول العربية بتطوير علاقاتها نحو إطار عمودي يتراكم هرمياً من قاعدة إلى قمة محكومة بهيئة دستورية اتحادية؟ نعم، تعني أن صيغة «الجامعة» ليست كافية للقيام بهذه الوظائف التاريخية. لا، تعني أن «الاتحاد» ليس ضرورياً ويمكن التمدد أفقيا إلى أبعد من المحيط والخليج من دون ضمانات دستورية تمنع تمزيق المساحة العربية وتشطيرها من 22 إلى 44 دولة وما فوق.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2855 - الأربعاء 30 يونيو 2010م الموافق 17 رجب 1431هـ