«لقد تم تسييس الأمر»، هكذا استهل المخرج العراقي محمد الدرادجي بيانه الذي وزعه منذ أيام عبر البريد الإلكتروني. البيان وزع احتجاجاً على منع إدارة مهرجان الفيلم العربي الفرنسي للدرادجي من قراءة بيان كان مفترضا أن يسبق فيلمه «ابن بابل» الذي كان «مفترضاً» أيضا أن يستهل «هو الآخر» برنامج فعاليات المهرجان في دورته السادسة عشرة.
لم يعرض الفيلم، قرر الدرادجي سحبه، أو اختار ذلك، قبيل ساعات فقط من انطلاق المهرجان الذي نظمه المركز الثقافي الفرنسي بالتعاون مع الهيئة الملكية الأردنية للأفلام ومؤسسة شومان وأمانة عمان الكبرى في العاصمة الأردنية عمان وذلك في الفترة من 20 حتى 24 يونيو/ حزيران الجاري.
الدرادجي اعترض على منع إدارة المهرجان له من قراءة بيان دعا فيه الحضور للمشاركة في حملة تبنتها الشركتان المنتجتان هيومن رايتس فيلم وعراق الرافدين، لتأسيس منظمة تعني بشئون المفقودين العراقيين، والتوقيع على عريضة بهذا الشأن. أما إدارة المهرجان فقد وجدت في مهرجانها السينمائي حدثاً غير مناسب للترويج لأي قضية ذات طابع سياسي.
«الوسط» حاورت مخرج الفيلم محمد الدرادجي حول أسباب المنع وملابسات ما حدث، كما وقفت على آراء مسئولي المهرجان فيما حدث
ما الذي حدث على وجه التحديد، هل قمت بسحب الفيلم أم أن إدارة المهرجان أجبرتك على ذلك؟
- طلب مني عرض فيلمي «ابن بابل» ضمن حفل افتتاح المهرجان العربي الفرنسي الذي تنظمه السفارة الفرنسية في عمّان، بالتعاون مع بلدية عمّان ومؤسسة شومان الملكية الأردنية للأفلام. كان المفترض أن أذهب لتقديم الفيلم للجمهور الأردني، ولكن لظروف تواجدي في مهرجان الرباط الدولي في المغرب، ابتعثت أحد الزملاء إلى المهرجان العربي الفرنسي في الأردن، لكي يلقي كلمة نيابة عني ويقدم الرسالة الصوتية التي قمت بتسجيلها، وهذا ما أفعله في العادة حين لا أتمكن من حضور أي مهرجان. إذ إنني أبعث برسالة صوتية أتكلم خلالها عن موضوع الفيلم وأطلب من الجمهور، فيما إذا شعروا بقيمة الفيلم الفنية والمعنوية، المشاركة في حملة عالمية نظمتها للمفقودين بالعراق، تطالب الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والجامعة العربية بالتعاون ومساعدة الشعب العراقي في موضوع المفقودين في العراق وهو موضوع مغيّب الآن في الساحة العراقية السياسية بسبب المشاكل السياسية والأمنية.
هذا هو هدف الحملة، وفي كل مكان يعرض فيه فيلم (ابن بابل)، الرباط، اسطنبول، اسكتلندا، صربيا، بريطانيا، نقوم بقراءة هذا البيان وننوه بالحملة، وأي شخص يود المشاركة في الحملة يقوم بالتوقيع على عريضة مخصصة لهذا الأمر ونحن نسعى لجمع أكبر عدد من الأصوات لإرسالها إلى الأمم المتحدة وبالتالي مطالبتها بالمساعدة.
إلا أنني فوجئت برفض منظمي المهرجان قراءة تلك الرسالة والتنويه بالحملة.
هل كان الاعتراض موجهاً ضد الرسالة أم الفيلم؟
- ليس ضد الفيلم، بل ضد الرسالة وضد التنويه لا لحملة، وسبب ذلك أغراض سياسية حسب قولهم، رغم أننا لم نأخذ أي صفة سياسية، بل إن الصفة الإنسانية كانت طاغية على الفيلم، فلم تكن فيه دعاية ضد جهة معينة أو ضد حزب معين أو حكومة معينة. ما فاجأني هو رفض إيصال صوتي وصوت الحملة إلى الجمهور الأردني، وبالتالي خيّروني بين سحب الفيلم أو عدم التطرق إلى الرسالة والحملة، ففضلت سحب الفيلم في يوم العرض.
لكنك في البيان الذي قمت بتوزيعه عبر البريد الإلكتروني، ذكرت أن الموضوع تحول إلى موضوع سياسي؟
- نعم، الموضوع أصبح موضوعاً سياسياً بالنسبة لمنظمي المهرجان، لأنهم أدخلوا السياسة في موضوع الفن وفي الموضوع الإنساني. لم تحتوِ رسالتنا على أي طلب سياسي كل ما طلبناه من الجمهور هو أن يشاهدوا الفيلم، وفي حال اقتناعهم بموضوعه، يمكنهم مساعدتنا في هذه الحملة، والأمر اختياري بحت.
للأسف، كانت نسبة كبيرة من الجمهور في الأردن تنتظر مشاهدة الفيلم بشغف، سواء كانوا من العراقيين أو الأردنيين أو الأجانب المقيمين في الأردن.
ألا تعتقد أن إدارة المهرجان يمكن لها أن تتهمك أيضا بمحاولة تسييس المهرجان بإطلاقك هذا البيان أو هذه الدعوة للمشاركة في حملة ذات طابع سياسي؟
- نحن لا نتبنى قضية ذات طابع سياسي فقط، إنما ذات طابع إنساني بحت. وأحد أهداف هذه الحملة هو مساعدة بطلة الفيلم نفسها التي فقدت زوجها منذ 22 عاماً. وبالمناسبة هذه المرأة ليست ممثلة محترفة بل إنها امرأة عادية من الشعب العراقي تبحث عن زوجها منذ أكثر من عشرين عاماً.
وليست هذه المرأة فقط من فقدت زوجها، كثير كثير من الأصدقاء والزملاء والمعارف اختفوا في العراق.
الفيلم ذو طابع إنساني تماماً، لم نوّجه أصابع الاتهام إلى فئة معينة أو حزب أو دين معين. نحن نطالب بمساعدة الشعب العراقي. توجد الكثير من المقابر الجماعية ولا تستطيع المنظمات أو الحكومة العراقية أن تفعل الكثير لمن فقدوا أبناءهم، فلماذا لا تتوجه الأمم المتحدة والمنظمات العالمية لهذه القضية، تماما كما فعلوا في رواندا والبوسنة والأرجنتين، بدلا من أن تقوم الأمم المتحدة بترك العراق في العام 2004 دون أن تقدم أي مساعدة للشعب العراقي، سوى مساعدتها في فرض الحصار ضده.
وحتى الجامعة العربية لم تلتفت إلى قضايا الشعب العراقي ولم تعمل على نشر المصالحة والسلام في العراق.
هذه حملة إنسانية 100 في المئة، ونحن لا نسيء إلى أي دين أو طائفة أو حزب أو قومية.
خلال عرض الفيلم في دبي، كان هناك اعتراض من قبل بعض المشاهدين إذ زعموا أنك بالغت في تصوير المقابر الجماعية فقط لتعزف على الوتر العاطفي للمشاهدين. هل تعتقد أن الخوف من مثل هذه الاعتراضات، هو ما دفع إدارة المهرجان في عمّان إلى منعك من قراءة بيانك؟
- في الواقع، إن من اعترض في دبي هما شخصين فقط كانا يعتقدان أنني بالغت في موضوع المقابر الجماعية والمفقودين في العراق، ولكن 50 إلى 70 شخصا من المشاهدين ردوا على هذين الشخصين، باعتبار أن الكثير من الجمهور المتواجد كانوا من ضمن ضحايا المقابر الجماعية إذ فقدوا أحباءهم إبان حكم النظام السابق. وأنا أتصور أن الشخصين اللذين عارضا وجهة نظر الفيلم إنما عارضاها لأن الفيلم دغدغ مشاعرهما وضرب على وتر زملائهما، وبالتالي لا يريدان أن ينكآ هذا الجرح.
مهمة الفيلم بالدرجة الأولى هي تغيير الأفكار القديمة لدى أولئك الذين لم يطلعوا بشكل صحيح على الوضع في العراق وخصوصاً وضع المفقودين والمقابر الجماعية.
أما إذا كانت إدارة المهرجان قد سمعت بهذا الموضوع فرضاً وأرادوا إيقافه من أجل ذلك، فلا أعلم لماذا فكروا بهذه الطريقة، فالمهرجانات السينمائية هي ملتقيات فنية وثقافية وإنسانية وحضارية وسياسية، وهناك الكثير من المهرجانات التي نسمع عنها تغيّر الكثير من الأشياء، وعلى سبيل المثال الفيلم الفرنسي الجزائري الذي تحدث عن المقاتلين الجزائريين والمغاربة ممن شاركوا في الجيش الفرنسي لتحرير فرنسا من الاستعمار النازي في الحرب العالمية الثانية، حينما شاهده الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك في السينما، طلب تغيير القوانين الموجودة في الدستور الفرنسي لحماية المقاتلين المغاربة الذين شاركوا في الحرب.
إذاً، هناك أفلام غيّرت مفاهيم وقوانين ودساتير كثيرة في الكثير من الدول، فلماذا تخشى إدارة المهرجان من مثل هذه الأفلام. لقد أغضبني هذا الأمر إذ لم تكن ردة فعل متوقعة وجيدة من إدارة المهرجان.
من جانبها أوضحت إدارة المهرجان أن اعتراض إدارة المهرجان كان موجهاً للدعوة للحملة التي بدأها الدرادجي وليس لفيلمه، إذ وجدت الإدارة أن المهرجان «نشاط يهدف إلى التعريف بأفلام عربية ومخرجين شباب لا أكثر، وليس تظاهرة سياسية»
«الوسط» حاورت رئيس لجنة السينما في مؤسسة شومان إحدى الجهات المنظمة للمهرجان الناقد السينمائي الأستاذ عدنان مدانات للوقوف على موقف المهرجان...
ما الذي حدث لفيلم «ابن بابل» على وجه التحديد؛ هل تم سحبه أم مُنع من العرض، أم أن الأمر يتعلق فقط بالرسالة التي أراد الدرادجي إيصالها إلى الجمهور؟
- في الواقع، لم يُمنع الفيلم ولم يُسحب من العرض إلا في اللحظات الأخيرة، سُحب بناءً على طلب من المخرج نفسه، حيث إنه اتصل في يوم العرض بالمنظمين وطلب قراءة بيان أو عريضة على الجمهور، ومن ثم جمع التواقيع. وهذا نوع من النشاط السياسي غير مقبول بالنسبة للمهرجان، فالمهرجان ذو طبيعة ثقافية فنية، وكان طلبه مفاجئاً إذ إنه وضع البيان شرطاً للعرض، إما أن يُقبل طلبه أو لا يُعرض الفيلم، وبالتالي هو من سحب الفيلم عملياً.
الاعتراض حتى لم يكن على مضمون الرسالة، بل على مبدأ قراءة رسالة سياسية ثم جمع تواقيع، لأن المهرجان ليس مجالاً لذلك، فهو نشاط يُقام لمجرد أسبوع تعرض خلاله أفلام، ونشاط يهدف إلى التعريف بأفلام عربية ومخرجين شباب لا أكثر، وليس تظاهرة سياسية، وهذا هو الإشكال.
لكن الرسالة التي توجهها السينما يمكن أن تنضوي تحتها أمور كثيرة، إنسانية أو سياسية، وربما تأتي مسألة جمع التواقيع تحت إطار الرسالة الإنسانية التي يدعو إليها الفيلم، فلماذا الاعتراض؟
- حقيقة، الفكرة في حد ذاتها لم تُقبل من قبل المنظمين، وشخصياً لم أكن موجوداً أثناء النقاش، فقد بُلغت فيما بعد بالنتيجة وبما حصل، إذ تم الاتصال بي وإبلاغي بأنه تم اتخاذ هذا القرار. وفحوى التبليغ أن مخرجاً لأحد الأفلام التي سيتم عرضها في المهرجان وضع شروطاً في اللحظة الأخيرة لمهرجان ثقافي، وكما قلت لم تكن هناك رغبة لتحويله إلى تظاهرة سياسية. فالاعتراض ليس على مضمون البيان بل على إدخال هذا البيان والتواقيع في بنية المهرجان، لاسيما أن المهرجان تنظمه عدة جهات، فهناك مؤسسة رسمية (أمانة عمّان الكبرى)، وهناك مؤسسة خاصة (مؤسسة شومان)، وهناك الجانب الفرنسي.
هل تعتقد أن للأمر علاقة ببعض الاعتراضات التي طالت الفيلم من قبل أطراف وجدت فيه مبالغة في إظهار معاناة الشعب العراقي، وربما إدارة المهرجان ارتأت ألا يثير بعض الأطراف مثلاً؟
- لا، على العكس، فالأفلام عادة عندما تُختار للعرض فهذا يعني أن هناك موافقة عليها، وبالتالي لا توجد مشكلة تجاه الفيلم. سبق أن شاهدت هذا الفيلم في مهرجان أبوظبي وأعجبني رغم وجود ملاحظات فنية عليه، لكنه بشكل عام فيلم إنساني ومؤثر. لم يعنيني الجانب السياسي بل لفتني الجانب الإنساني والفني والدرامي. وعندما عُرض عليّ اقتراح عرض هذا الفيلم ضمن المهرجان وافقت. المشكلة حصلت في اللحظة الأخيرة فقط قبل ساعات من موعد عرض الفيلم عندما اتصل المخرج وأملى هذه الشروط.
كيف ترى الدعوة القوية في الفيلم للمصالحة بين مختلف الجهات في العراق، ألا تجد أنها رسالة إيجابية جداً ومميزة في هذا الفيلم ربما تبرر الحملة المصاحبة للفيلم؟
- في الحقيقة، أنا عندما شاهدت الفيلم لم أهتم شخصياً إلا بالجانب الإنساني، وبالجانب الفني كبنية درامية وكطريقة تنفيذ، لكن بشكل طبيعي نحن مع أي درء لأي خلافات بين أبناء الشعب الواحد. العراق يعاني من تمزق نتيجة تضارب المواقف، وهو تمزق غير طبيعي وغير مقبول ومؤذٍ أصلاً لشعب العراق ولمستقبله. فإذا كان هذا المضمون هو الأساسي في الفيلم فلا يوجد اعتراض لدى الجهات المنظمة في عمّان، وأؤكد لكِ من جديد أن الاعتراض كان على محاولة فرض ممارسة معينة في اللحظات الأخيرة.
كيف تقيّم الفيلم من الناحية الفنية؟
- الفيلم أولاً يعتمد على حكاية بسيطة، جمال هذه الحكاية بالنسبة لي نابع من العلاقة بين الجدة والطفل، وقضية البحث عن الأب المفقود. هناك مأساة شعب... ما لم يعجبني هو التركيز على المقابر، فهي مادة لم تعد سينمائية بقدر ما هي تلفزيونية إخبارية، ولذا فإن الفيلم لم يُقدم جديداً في هذه المشاهد التي عُرضت بكثافة على المحطات. السينما دائماً تبحث عن الشيء الجديد المؤثر، وليس عن التقليدي المُكرر.
بالطبع لا اعتراض على المضمون، لأن المضمون أو الموقف الفكري للمخرج هو من حقه قد أقبله أو لا أقبله، لكن لا أستطيع أن أرفض قناعته الشخصية. لكن، درامياً أعتقد أن الجانب الإنساني الجميل الشعري الخاص بهذه العلاقة بين هذه الجدة الرائعة التي بدت في الفيلم بشكل رائع والطفل، ربما أضعف من شعرية الوقائع بالفيلم.
العدد 2855 - الأربعاء 30 يونيو 2010م الموافق 17 رجب 1431هـ