أقامت أسرة الأدباء والكتاب أمسية نقدية لقراءة المجموعة القصصية ( الهامات ) للقاص أحمد الحجيري وقد قدمت خلال الأمسية ثلاث أوراق نقدية أساسية قدمها كل من النقاد فهد حسين وجعفر حسن وزكريا رضي، وقد حضر الأمسية مجموعة من المثقفين والمهتمين والأصدقاء.
في بداية ورقته أشار رضي إلى أن قراءته لمجموعة «الهامات» تنهل من معين مدرسة السيميائية السردية وتحديدا، اجتهادات عالم السيميائيات الليتواني الأصل ألجيرداس جوليان جريماس، وللإشارة العابرة فحسب فإن هذه المدرسة ركزت على استقراء النص السردي بوصفه شبكة من العلاقات والدوال، وهي لا تهتم بماذا قال النص، ولا بمن قال النص، ولكن بكيف قال هذا النص ما قال؟( راجع في الخطاب السردي- نظرية جريماس لمحمد الناصر العجيمي- الدار العربية للكتاب- تونس 1991)
وأضاف رضي بحسب نظرية جريماس يوجد لدينا في عملية التحليل مستويان: مستوى سطحي ينقسم إلى (مكوّن سردي ويقوم أساسا على تتبع سلسلة التغييرات الطارئة على حالة الفواعل) و(مكون تصويري (بياني/ أو خطابي) ومجاله استخراج الأنظمة الصورية المبثوثة على نسج النص ومساحته)، ويبحث في تسلسل وجوه وأفعال المعنى. يوازي هذا المستوى مستوى عميق أو ( بنية عميقة) وتختص بدراسة بنية النص استنادا إلى نظام الوحدات المعنوية. الأمر يتعلق في هذا المستوى بتحديد جوهر الخزان الثقافي الذي يتحكم لاحقا في أشكال تحقق السلوكات المخصوصة. فما يبرر هذا السلوك أو ذاك ليس حكما سطحيا ينصب على حدود التحقق، بل ارتباط هذا السلوك بثقافة تبرره وتفسره . راجع هنا السيميائيات السردية لسعيد بنكراد على موقعه الالكتروني
يمتلئ نص الهامات وما تلاه بفضاء خصب، يمكن بسهولة تجريد علاماته والبحث في شبكة علاقاتها ودوالها المنتجة مع عدم إغفال أن العنونة الثلاثية ذاتها( الهامات - اعتدال الهامات- ثم قبر الغريب) اشتغلت كمفاصل أساسية وتحويلية بحيث أصبح كل عنوان كاشف عما يليه من برنامج سردي، تحولت فيه العلاقة بين المرسل والمرسل إليه، وبين الفاعل وموضوعه، وصار كل جزء دالاً على ملفوظ سردي متغير في حالاته التي اقترحها منهج جريماس والتي وصفها بالانفصال والاتصال بحسب اقتراب الفاعل من موضوعه وتملكه إياه أو ابتعاده عنه.
البرنامج السردي في متتالية الهامات وتقسيماته،
بحسب التقسيم الجريماسي فإن العلاقة الأساسية في النص السردي هي بين طرفين أساسيين هما الذات/ الفاعل ويعينه المرسل والظهير ( العامل المساعد) والطرف الثاني هو الموضوع ويعينه أيضا عنصران اثنان هما المرسل إليه و( العامل المعارض) وللوهلة الأولى قد يذهب الظن إلى أن طرفي هذه المعادلة يتجسدان في البطل نفسه كشخصية عبود العواد مثلا، بموضوع الحكاية، في حين أن ترسيمة العلاقة الدلالية تختلف كلية عن هذا الفهم، فالفاعل هو جملة الأدوار المحفزة للبطل أو الشخصية لكي تبدأ مشروعها، بينما الموضوع هو المشروع ذاته أو القيمة التي يراد الوصول لها أياً كانت أخلاقية أم غير أخلاقية، خيرة أم شريرة. ولأجل ذلك ارتأينا تقيسم هذا البرنامج بتحولاته وتغيراته إلى ثلاثة مراحل أو أنماط تبعا لعلاقة الفاعل بموضوعه وأسميناها بعلاقة (التنافر/ الانفصال) بين الفاعل وموضوعها، ويمثلها الجزء الأول من المتتالية والتي عنونت بالهامات، ثم علاقة ( الاندماج أو الاتصال) ويمثلها الجزء الثاني من المتتالية والمعنون باعتدال الهامات، ثم علاقة التنافر العكسي ( الانفصال مجدداً) ومحطتها الجزء الأخير من المتتالية والمعنون بقبر الغريب.
من الأهمية بمكان التركيز على دور الفاعل السردي بوصفه محركاً أساسياً للشخصية القصصية التي يكون لها دور في توجيه الحدث وتغييره، وسيتضح جليا كيف أن تمركز نص الهامات ومتتالياته، ستعتمد على فاعل سردي رئيسي، هو (عبود العواد ) وظهوره أو تلاشيه المفاجئ، سيكون بداية لتحول الحدث السردي ونهاية له أيضا. إن هذا التمركز لا يلغي أبداً توزيع أدوار الفواعل الموازية أو يقلل من حضورها، ضمن مسار البرنامج السردي وتحقيق المشروع (موضوع القيمة أو امتلاكه ) لأي من الطرفين، لكن سيبقى عبود العواد فاعلا سرديا مهيمنا ومحركا لكافة الفاعلين السرديين الموازين له.
وتابع رضي منذ الحدث الفجائي الذي يقوم به عبود العواد، والذي أذهل أهل القرية بأجمعهم بإعلان سخطه وشتمه للجميع، فإن المرسل الذي أعطى الإشارة للفاعل (عبود العواد ) وللفاعلين الموازين يبقى مجهول المصدر، ويختزل في حكاية الحدث التي تناقلتها ألسنة الناس، بطلعة عبود العواد الساخطة، والتي أخذت توزع بصاقها على الجميع، وفي مختلف الجهات. إن اختفاء المحرض، أو الحافز الذي دفع بالفاعل إلى أن يتحرك تحركا إيجابيا تجاه موضوعه (المضمر)، وسلبيا تجاه الفاعلين الموازين له ( أهل القرية) مهدت لمهمتين أساسيتين:
- الأولى تحريك مجمل العناصر والوحدات الأخرى تحريكا مضادا، ومستنفرا، لمواجهة استفزاز عبود العواد، وتأزيم النص منذ بدايته، خلافا للترسيمة السردية المتعارفة والتي غالبا ما تبدأ بنقطة الهدوء ثم الاضطراب لاحقا، فالاضطراب بدأ منذ اللحظة الأولى التي شرع الراوي (الباثّ) والمختبئ خلف عبود العواد بحكاية انتفاضة عبود المفاجئة والساخطة.
- المهمة الثانية، أن حالة التصادم هذه تخفي مشروع هجرة، أو نأي، أو اختفاء وتلاشي، وهو ما انتهت إليه الحكاية الأولى بالفعل باختفاء عبود العواد من قنه وتركه لبصقة على حائط (القن) المتهالك.
وقد بدا جليّا كيف أن الاشتغال في الجزء الأول ، تركز على لازمتين متكررتين في الوحدة الأولى وهي لازمة (هز الهامات) و( البصقة المتكررة) اللتين مكنتا من أن تتحرك العلاقة بين الدال والمدلول بشكل مفارق، وقدمتا أيضا سندا مهما لانفصال الفاعل عن (موضوعه) وتحوله. ومن المهم هنا الوقوف عند هاتين اللازمتين واختبارهما دلاليا، لكشف قوانين اللعب التي دفعت بهما في حركة النص السردي، فكما هو مقرر في أدبيات السيميائيين من أن المعنى لايوجد فيما تحيل عليه الأشياء بداهة، بل مكمنه السيرورة التي تتشكل من خلالها الأشياء باعتبارها دالة على معنى، وما يكون هو ما ينظم، وهو ما يمكننا استقبالاً من التحكم في المعنى (راجع سعيد بنكراد- ممكنات النص ومحدودية النموذج النظري- على الموقع الإلكتروني التابع لموقع للمفكر الراحل محمد عابد الجابري).
وبالعودة إلى تلك اللازمتين السرديتين واللتين هما لازمتان وظيفيتان أيضا في النص، يلحظ رضي كيف تم التحوير الدلالي للهامات وكسر نظامها الدلالي التقليدي من كونها عادة ما ترمز للرفعة والسمو، وعلو المكانة، أو البطولة إلى مدلول مناقض لكل ذلك فتكون علامة للضعف والخور، وقلة العزم، وضعف الإرادة ويمكن حصر استعمال الهامات في نص الهامات وفق الجدول الآتي، مع ملاحظة أن الهامات والرأس استعملتا بشكل مترادف، وكعلامة واحدة. فتارة يأتي التعبير بهز الرأس، وتارة بهز الهامة، وطبيعي أن هزّ الهامة يعني هز الرأس بالضرورة فلا انفصال بين الاثنين.
في حين تحركت (البصقة ) على خطّ مواز لخط (هز الهامات والرؤوس) والمتتبع للمسار الدلالي للبصقة يجد أنها لا تخرج عن حالة التمرد والسخط كحالة عامة شملت جميع الفاعلين السرديين الذين كانوا في الطرف المقابل لعبود العواد، وكانت البصقة تعمل كثيمة متبادلة من جميع مواقع أولئك الفاعلين ما يعني أنه مثلما كانت حالة عامة تلازم هز الرؤوس، فإنها كانت وسيلة سخط مواجهة من قبل البطل (عبود العواد) نفسه، إذ كانت هي المحطة الأخيرة قبل اختفاء العواد وتلاشيه، والذي بقي نهارا كاملاً يسب ويلعن ويبصق، حتى تصل النوبة إلى حدث الاختفاء المفاجئ، مخلفا وراءه بصقة كبيرة هز لها حجي مسعود هامته الفارغة.
على عكس الجزء الأول من المتتالية، فإن في (اعتدال الهامات ) تنتظم العلاقة بين الذات والموضوع على نحو نقيض، فالموضوع ينجذب تجاه فاعله ومريده، وكذلك الذات تسعى باتجاه موضوعها، ولا يلحظ هنا عامل مضاد أو معيق لحركة الذات تجاه تملك موضوعها أو العكس، إذ توجد رغبة متبادلة لطرفي المعادلة في التكافؤ وفي تبادل الأدوار إلا أن الملاحظ أن عملية التغير والانتقال من حالة إلى أخرى والتي هي من أهم ركائز العمل السردي، أتت بشكل مباغت ومفاجئ، إذ لايوجد في الجزء الأول من المتتالية والمعنون بالهامات ما يحيل إلى استقرار قادم، أو حالة من المواءمة، ستقود علاقة الذات بموضوعها، فضلا عن أن اختفاء عبود نفسه وظهوره على مسرح الحدث مرة ثانية، أتى بذلك الشكل المفاجئ والمباغت.
توارت في هذا الجزء اللازمتان الشهيرتان واللتان كان لهما دور كبير في تحريك وقائع النص الأول وعلاقات شخوصه وأحداثه، وبقي الأثر الكائن منذ تلك الحادثة المشئومة، فعبود الساخط المتذمر جاء ليعتذر لأم جميل البياعة، كما عاد ليقدم واجب العزاء لعائلة عباس الجاثي الذي أمطره بالسب واللعنات.
إن اقتراب الذات من موضوعها، وفق رغبة محمومة، حركت الهامات المهتزة والمهترئة سابقا لتستقيم وتعتدل وتنتصب، وحلت (القيثارة العجيبة) كأداة وصل وعامل مساعد مكن من اتصال الذات بموضوعها، وبدا واضحا كيف أن القيثارة العجيبة حركت على مستويين دلاليين متقابلين الأول منهما على سطح النص حيث غدا عنصراً أساسياً وفاعلاً سردياً كان له وظيفة التغيير والتحول لجميع الوحدات، فما إن أخرج عبود العواد قيثارته مبتدئا العزف عليها، (حتى بدأ الرقص... رقص الجميع... ويقولون بأن حمى الرقص دخلت كل بيت حتى العجائز من الرجال والنساء قد انتشوا) أما المستوى الثاني فهو في عمق النص ويأخذ بعدا قيميا وتوجيهيا، تتحول فيه القيثارة إلى علامة خلاص وتحرر، ليست لعبود العواد وحده بل لكل أهل القرية.
الظهور الأخير لعبود العواد الذي سبق اختفاءه الأبدي، تتحول العلاقة بين الفاعل وموضوعه إلى علاقة انفصال تام، ونكران متبادل، ويعود الملفوظ السردي في العلاقة بين طرفي الملفوظ إلى الانفصال والابتعاد، فيبتعد الموضوع عن فاعله، ولا يعود له، ويخرج عن ملكيته وينفصل عنه حتى كأنه لا يعرفه ولا يحاول أن يتعرف عليه من أصل.
ولتسهيل تحول علاقة الملفوظ السردي في الجزء الأخير والمعنون بقبر الغريب يضيف رضي: كان لابد من تحريك جميع الفاعلين السرديين باتجاه هذا الانفصال، فالمكان تحول إلى جدران مصمتة يعلوها السخام، والوجوه بدت كامدة، وشاخ الجميع وهجر اليمام أسطح المنازل. إن الذات في محطة قبرها الأخيرة هذه، ترغب بقوة في امتلاك موضوعها، في حين إن الموضوع يفر منها، وينكرها، وقد وقفت كل تلك العلامات التي وضعت عند حدود القرية وفي جوفها كعامل صدّ، معارض ومضاد لامتلاك الذات لموضوعها، ما دفعها إلى الاستسلام أخيراً والانتهاء والتلاشي الأبدي.
ويخلص رضي إلى انه وبإزاء ما سبق أتت عوامل معينة ومساعدة لحماية الفاعل / الذات عبود العواد، ولتقديم نفسها كمشروع بديل، ضد نكران وجحود الموضوع (الأم)/ أهل القرية، وضد إقصائهم ورفضهم لاستقبال الغائب في رحلته الأخيرة. فظهرت شجرة السّدر، كعامل مساعد، والمرأة العجوز التي هيأت المثوى الأخير للرجل الغريب، وأقامت له القبر ووشحته بقماش أخضر سندسي يعشي العيون. فيما عادت من جديد لازمة هز الهامة، لكن دون اقترانها هذه المرة بالبصقة المتمردة، لكنها بقيت كهامة متعبة ومنهكة، مع استبدالات لغوية مرادفة، فبدلاً من الرأس والهامة، حلت محلها الجمجمة (شعر عبود بحكة في مؤخرة جمجمته المتعبة/هز جمجمته الحيرى).
بدت المفارقة الدلالية في هذه الجزء بادية ليس على صعيد الخطاب السردي فحسب، بل حتى على صعيد الملفوظ السردي نفسه، إذ تحول الفاعل إلى موضوع يُمتلك ويرغبُ إليه، بعد أن كان يسعى هو لامتلاك موضوعه. وبعد أن كان منبوذا ومقصيا ومهمشا. وانقلب الفاعل إلى موضوع ذي قيمة تبجيلية وتقديسية، بعد أن كان في الجزء الأول منفيا ومبعداً.
إن اللعب بشكل مفارق على قلب الدوال، والعلامات، وتحويلها إلى ضدها، أو تركيب علاقات جديدة من رحم علاقات أخرى كان أجمل ما في متتالية حجيري، ويبقى النص السردي قابلا للتناول والدرس النقدي بشكل أكثر امتلاءً قد لا يتسع له مجال هذا الورق.
العدد 2855 - الأربعاء 30 يونيو 2010م الموافق 17 رجب 1431هـ