المرجح عند غالبية أو كل الباحثين في تاريخ البحرين القديم أن اسم دلمون ارتبط بجزر البحرين منذ 2200 ق. م. وحتى 567 ق. م أي لأكثر من 1600 سنة، وعليه تم تقسيم الحقب الزمنية الواقعة بين هذين التاريخين لثلاث حقب، هي: دلمون المبكرة ودلمون المتوسطة ودلمون المتأخرة. وعندما ينظر أي باحث لهذا التقسيم يعتقد أنه أمام ثقافة واحدة متجانسة امتدت لأكثر من 1600 سنة يطلق عليها اسم «ثقافة دلمون». لكن هذا غير صحيح فهناك عدة ثقافات تعاقبت على أرض جزر البحرين القديمة ومن أوائل التقسيمات للحقب الزمنية التي وضعت للبحرين كانت على أساس الثقافات المتعاقبة كما ورد على سبيل المثال في كتاب لارسين ودراسة بيسينجر التي تحدثنا عنها سابقاً. نحن إذاً أمام نظامين لتقسيم الحقب: الأول يعتمد اسم الأرض والآخر يعتمد مسمى الثقافة, ولكن أي من هذين التقسيمين يعتبر أكثر دقة؟
في الغالب يختلف اسم الأرض عن اسم الثقافات التي تعيش على هذه الأرض، وهذا ناتج عن تعدد الثقافات, وقبل أن نتحدث عن الثقافات القديمة سنتناول مثالاً توضيحياً معاصراً يقرب الفكرة, فعلى سبيل المثال في مملكة البحرين حالياً لا يوجد شيء يسمى «لهجة البحرين» بل يقال «اللهجات في البحرين» وجميع المراجع العلمية المتخصصة تصنف اللهجات في البحرين لقسمين رئيسيين: لهجة البحارنة (أو اللهجة البحرانية) ولهجة العرب أو لهجة الخليج العربي. اسم الأرض ليس بالضرورة يكون شاملاً للثقافة أو اللهجة فأحياناً تكون الثقافة أصغر من حدود الدولة وهي جزء صغير من الدولة وأحياناً تكون الثقافة أكبر من الحدود السياسية للدولة, فكما للدولة حدود ترسم فهناك حدود داخلية تقسم الجماعات التي تعيش على أرض الدولة. وكل جماعة من هذه تُظهر ثقافتها بصورة مختلفة. ولكن ما حدث في البحرين القديمة هو عملية تعاقب للثقافات بدأت بحقبة باربار ثم الحقبة الكاشية تلتها حقب آشورية وبابلية. وكل ثقافة جديدة تسيطر على المنطقة تقوم بإقصاء الثقافة السابقة.
في كل حقبة زمنية من العهد القديم لجزر البحرين كانت هناك ثقافة معينة سائدة بحسب الجماعة التي تسيطر سياسياً على المنطقة, حيث يقوم العنصر المسيطر سياسياً على الأرض بفرض ثقافته وإيقاف تقدم الثقافة السابقة, حيث كانت كل جماعة تتسلم السلطة السياسية في البلد تحدد نوعية الثقافة التي تسود فيها. لم تكن في تلك الحقب «وسائل إعلام» تسيطر عليها الجماعة المسيطرة على السلطة لتتحكم في نوعية الثقافة التي ستنشر ولكن تعتبر الأختام ونوعية الفخار بمثابة الهوية للثقافة، حيث تميزت كل ثقافة بنوعية أختام معينة ونوعية فخار خاص بها، وتتم عملية الإقصاء الثقافي للثقافة القديمة بوقف استخدام أختامها وإيقاف تصنيع فخارها الخاص وإحلال الأختام الجديدة، وكذلك الفخار الجديد مكان القديم, وبدراسة التغير في نوعية الأختام والفخار في الطبقات الأثرية تم إثبات وجود تعاقب لثقافات سادت على جزر البحرين, والسؤال المطروح هنا: هل تلك الثقافات مستوردة من الخارج أم هي ثقافات محلية المنشأ.
يطلق على أول حقبة شهدت حضارة متميزة على ارض البحرين باسم «حقبة باربار» بحسب التقسيم الثقافي, وبحسب التقسيم الاسمي للأرض تسمى «دلمون المبكرة». ومن بين كل الثقافات التي تعاقبت على أرض البحرين القديمة تعتبر ثقافة باربار هي الثقافة الوحيدة التي تخص أرض البحرين حيث تكونت على أرض البحرين وتطورت على أرض البحرين وانطلقت من أرض البحرين لتتوسع في شرق الجزيرة العربية وجزيرة فيلكا. بمعنى أن الجماعة أو الجماعات التي أسست ثقافة باربار «تعتبر الجماعة الأصلية التي أسست الحضارة الأولى في جزر البحرين قديماً». إن استخدام نظام اسم الأرض في تقسيم الحقب الزمنية في البحرين القديمة لا يعطي القارئ الصورة الواضحة حيث تسمى حقبة باربار باسم دلمون وتسمى الثقافة التي تلتها وهي الثقافة أو الحقبة الكاشية أيضاً باسم دلمون. الثقافة الكاشية ثقافة تكونت في بلاد الرافدين وسيطرت على البحرين سياسياً وفرضت ثقافتها على البحرين (سنناقشه بالتفصيل في فصل لاحق). إن إعطاء مسمى واحد لثقافة أصلية وأخرى وافدة يوهم القارئ بعدم وجود أي جماعة أصلية قامت بتكوين حضارة على أرض البحرين قديماً وكل ما لدينا هي جماعات وافدة.
لكل باحث تقسيمات معينة ومصطلحات خاصة وهناك مزاجية واضحة في كتابة التاريخ القديم للبحرين، وتعتبر الباحثة هيا آل ثاني من القلائل التي أطلقت مسمى «كتاب ضيقي الأفق» على كتاب ينظرون لدلمون على أنها امتداد لحضارة وادي الرافدين, وأطلقت مسمى «كتاب منفتحين» على كتاب يتحدثون عن جماعات محلية وعملية تثقف من الخارج وانصهار بين جماعات كلها أدت لنشأة دلمون على أرض البحرين (آل ثاني 1997: ص 260 – 263). هذه المزاجية في الواقع ليست حصراً على كتاب تاريخ البحرين القديم بل هي ظاهرة ليست بالحديثة وتختص بكتابة التاريخ القديم في مناطق مختلفة.
من الكتاب الذين تناولوا أنماط كتابة التاريخ القديم المفكر عبدالله العروي في كتابه «مجمل تاريخ المغرب» فتحدث في البداية عن النمط التجميعي السردي المعتمد على سرد الأحداث وتجميع أكبر قدر من المادة التاريخية الذي يؤدي لتراكم المعلومات الأولية التي تصلح كأرشيف، وفي مقابل ذلك هناك المنهج النظري التحليلي الذي «لا يقص علينا أحداث الماضي بقدر ما يسرد مراحل تعامله مع المادة التاريخية»، وكذلك يركز الكاتب التحليلي على «حلول الماضي في الحاضر وتكييف الحاضر للماضي» (العروي 2000, الجزء الأول: ص20). يجب أن يكون هناك توازن بين التحليل والسرد, ولكن الإشكال في التحليل هو الخوض في مصطلحات من مثل: الجماعة الأصلية, الثقافة المحلية, التثقف من الخارج, الاستعمار, الإقصاء الثقافي, ومن هنا تنتج عملية قراءة الماضي ولكن بنظرة الحاضر أي عملية إسقاط التحليلات للتاريخ القديم على الأوضاع المعاصرة, فعلى سبيل المثال في مجتمع مثل المغرب العربي إبان الاحتلال الفرنسي لم يكن من السهل الخوض في تحليل الماضي والحديث عن الشعوب الأصلية فلذلك يقتصر كتاب التاريخ القديم في مثل هذه الأحوال على السرد واقتصار مصطلح «شعوب أصلية» لفترات ما قبل التاريخ فقط (العروي 2000, الجزء الأول: ص 51) وكأنه لا يوجد امتداد لتلك الشعوب. يلخص العروي فكرته الجوهرية عن كتاب التاريخ وذلك في نقطة واحدة محورية وهي تحليل أسباب الاستعمار الروماني للمغرب العربي قبل ألفي عام وانقسام الكتاب إلى قسمين حولها: القسم الأول لا يعتبر الرومان مستعمرين ويتحدث عن أخطاء سياسية, وفي واقع الأمر هو يسقط ذلك على الاستعمار الفرنسي وهؤلاء الكتاب عرفوا بكتاب الاستعمار، وفي مقابلهم الكتاب الليبراليون الذين يتحدثون عن الزوال الحتمي للاستعمار الروماني ويسقطون ذلك على الاستعمار الفرنسي, وحتى وإن لم يصرحوا بذلك فليس من الصعب فعل ذلك على القارئ (العروي 2000, الجزء الأول: ص83).
ما نريد الوصول له هنا أن هناك عاملين تحكما في كتابة التاريخ القديم: تفادي الخوض في تحليلات معينة لكي لا تحدث عملية إسقاط لتلك التحليلات على الحاضر, بالإضافة إلى ضيق الأفق والاعتماد على السرد وأسلوب الأرشفة.
في حال أخذنا برأي الكتاب «ضيقي الأفق» من أمثال بيسينجر التي ذكرنا دراستها في فصل سابق وغيرها من الكتاب الذين ساروا على نهجها فلا يوجد تحليل عن كيفية نشوء ثقافة باربار، حيث يعتبر هؤلاء الكتاب أن المجتمع الدلموني ما هو إلا امتداد للمجتمع السومري في مدن جنوب بلاد الرافدين، وأن التطور والانتعاش الاقتصادي الذي حققته دلمون إنما ارتبط باستمرار اضطلاع السومريين بالشئون الاقتصادية في مدن الجنوب الرافدي (آل ثاني 1997: ص 262).
أما في حال أخذنا بآراء الكتاب المنفتحين وتحليلاتهم فإننا سنتوصل لنموذج تكون ثقافة باربار وكيف تطورت وكيف انتهت. سنعتمد هنا على ثلاثة كتاب رئيسيين:
سنعتمد كتاب لارسين (Larsen 1983) الشهير Life and Land Use on the Bahrain Islands وفيه يصنف الكاتب الحقب التاريخية القديمة لجزر البحرين على أساس الهويات، وقد قسم حقبة باربار إلى ثلاثة أقسام رئيسية تمتد بين 2350 - 1600 ق. م.
هناك عدة دراسات للباحثة During-Caspers منها التي ذكرناها أثناء الحديث عن تطور الأختام والتثقف من الخارج وتشير آل ثاني لهذه الكاتبة بقولها:
«كانت نظرتها أكثر شمولية إذ شبهت المجتمع الدلموني في نهاية الألف الثالث قبل الميلاد ببوتقة صهر المعادن التي اختلطت فيها الأجناس والثقافات لحضارات شتى: رافدية وإيرانية وسندية بالإضافة إلى عناصر محلية استفادت كلها من الموقع الجغرافي المتميز في خلق مجتمع يقوم على التجارة ويدين بديانات مختلفة وترفده ثقافات متنوعة» (آل ثاني 1997: ص 262).
سنعتمد تحليلات هوجلاند في دراسته التي نشرها العام 1989م « The Formation of the Dilmun State and the Amorite Tribes» والتي ترجمة عنوانها «تكوين دولة دلمون والقبائل الأمورية» وفيها يسمي حقبة باربار أو ثقافة باربار «دولة دلمون» ويحدد بدايتها منذ 2200 ق. م واستمرت حتى 1600 ق. م. وقد قسم هوجلاند هذه الفترة لثلاث مراحل زمنية.
عندما ندمج المراحل التي قسمها لارسين والمراحل التي قسمها هوجلاند يمكننا أن نحدد فترة ثقافة باربار (2350 - 1600 ق. م.) ويمكننا أن نقسم هذه الفترة الزمنية لأربع مراحل تميزت كل مرحلة منها بتأثيرات خارجية لمناطق مختلفة.
وقد أسماها لارسين حقبة «ما قبل باربار» حيث تجمعت جماعة من الأفراد وكونت مجتمعاً صغيراً على جزر البحرين وبدأت بتكوين هوية, وقد كان جزء من هذه الجماعة بلا شك قادماً من حضارة وادي السند وهذا ما جعل هوية هذه الثقافة تتطور وبها ملامح مميزة شبيهة بتلك التي تميز ثقافات وادي السند.
يسميها لارسين حقبة «باربار الأولى» وفيها نضجت الهوية الثقافية ونشطت الممارسات التجارية ويعزى سبب ذلك إلى حياة السلم التي عاشها الجنوب الرافدي في ظل سلالة أور الثالثة التي جعلت من كان يقطنها أو الوافدين إليها يمارسون نشاطات وأعمال مختلفة تأتي في مقدمتها التجارة والرحلات الاستثمارية بسبب الحياة الآمنة والطرق المفتوحة فأقاموا في مناطق مختلفة بعيدة وقريبة (آل ثاني 1997: ص 208), مما ساعد على نشوء جماعات مختلفة داخل بلاد الرافدين وتكوين دويلات لهم كالكاشيين والأموريين, وحتى خارج حدود وادي الرافدين كثقافة باربار على جزر البحرين وتوسعها لشرق الجزيرة العربية وجزيرة فيلكا. وقد بدأت ثقافة باربار تتأثر بحضارة وادي السند تأثراً واضحاً مما يدل على وجود جماعات من تلك الحضارة أقامت على جزر البحرين وكانت ضمن الجماعة المؤسسة، ويؤكد هوجلاند في دراسته على عمق التأثير السندي وسيطرته على كافة النشاطات والفعاليات التي ظهرت في دلمون من حيث اختيار الختم الدائري المنبسط رغم انتشار الختم الأسطواني في بلاد الرافدين والمناطق الشمالية. وكذلك ما وجد من لقى سندية كالأوزان وبعض من الأواني الفخارية السندية. كما أكد هوجلاند أن مخططات كل من مستوطنة سار ورأس القلعة تشبه إلى حد كبير ما عرف في مخططات من بلاد السند.
تتزامن هذه الحقبة مع سيطرة سلالتي أيسين - لارسا على الجنوب الرافدي وهما سلالة لشعوب عرفوا بالأموريين وقد اتسمت هذه الحقبة أيضاً بالسلم كما هو الحال في عهد سلالة أور الثالثة. ويبدو أنه حدث تدفق للأموريين لشرق الجزيرة العربية وسيطروا سياسياً على جزر البحرين. ويبدو أن الأموريين اندمجوا سلمياً مع الشعوب القديمة على جزر البحرين، حيث إن الثقافة المحلية لم تطمس بل تطورت وحدث لها تثقف من الخارج فنلاحظ أن هوجلاند في دراسته لا يذكر شيئاً عن التأثير السندي بل يشير إلى مدى التأثير الرافدي وعلى الأخص التأثير الأموري من خلال ما ظهر من نقوشات الأختام الدلمونية ذات الطابع الأموري أو المتأثر به, كما يضاف لذلك ما اكتشف من كتابات على أوانٍ ورقم طينية ضمن حدود ثقافة باربار التي انتشرت في شرق الجزيرة العربية وجزيرة فيلكا.
هي مرحلة بداية الأفول الحضاري على جزر البحرين، وتعتبر فترة غموض وانقطاع في التسلسل الأثري وسنتناول هذه المرحلة بالتفصيل في الفصل القادم.
العدد 2855 - الأربعاء 30 يونيو 2010م الموافق 17 رجب 1431هـ