شارف القرن التاسع عشر على الانتهاء ولاتزال النخبة تتنافس بحثاً عن الحقيقة وأصل الوجود و«العلة الأولى». فالإنسان الأوروبي (و الأميركي) واصل مهمة التقصي عن الأسباب والمسببات ما دفعه إلى مسارات متعارضة وخلاصات متناقضة ولكنها في المطاف الأخير تستقر على توازن قلق يجمع الروافد في إطار يحتاج دائماً إلى أدلة دامغة تؤكد توصلها إلى الاكتشاف النهائي. وبما أن النهائي لا نهاية له كان لابد من مواصلة الطريق باتجاهات متخالفة في جانب ومتوحدة في شخصية مركبة في جانب آخر.
التطور جلب للإنسان الكثير من السعادة ولكنه لم ينجح في رفع الشقاء وطموح النخبة على السير في طريق التقدم. وأدى هذا النوع من الوعي الشقي إلى توليد حالات من الازدواجية في المعايير تجمع الحق والباطل، الخير والشر، الجمال والبشاعة في وحدة مصطنعة تفلسف الحروب وتؤمن بالسلام في آن.
انسجام التعارضات واختلاط التأويلات وتضارب التفسيرات تحولت إلى مدرسة تحدث عنها كونت سابقاً حين تناول المحطات الزمنية للتطور العقلي. كونت تكلم عن الشخص الواحد الذي قد يتقبل تفسيرات لاهوتية أو ميتافيزيقية في بعض الموضوعات من دون أن يشعر بالتناقض مع قبوله العلم الواقعي في موضوعات أخرى. فالإنسان يتمظهر في ثلاث حالات دفعة واحدة، فهو يأخذ الجانب اللاهوتي (البحث عن الكائنات وأصلها ومصيرها)، والجانب الميتافيزيقي (البحث في الأشياء مستبدلاً العلل المفارقة بالعلل الذاتية متوهماً أنها جوهر الوجود) والجانب الواقعي (إدراك العقل والامتناع عن المعارف المطلقة والبحث عن القوانين وترتيبها من الخاص إلى العام) ويعمل على دمج الحالات في الحد الذاتي المعقول لتحقيق التوازن.
أنتج هذا التوازن القلق في نهايات القرن التاسع عشر مدارس تناولت الحقائق من زوايا مختلفة، فظهرت مفاهيم الحرية والتسامح إلى جانب العنصرية والعرقية واللاسامية وكراهية الآخر ورفض قبول اندماج المختلف في «روح» الجماعة والأمة القومية.
المستشرق إرنست رينان (1823-1892) مثلاً تأثر بهيغل وأعجب بفلسفته ولم يأخذ بمنهجه التاريخي متجهاً إلى قراءة الحضارات من زاوية اللغة والعرق. رينان اعتبر الدين خرافة ولم يتردد في الدعوة إلى حرب حضارات وصراع الشرق مع الغرب واقتتال أوروبا مع الإسلام. فالتعارض بين الديانات الذي تأسس على قاعدة الاختلاف اللغوي والتفاوت الثقافي بين الأجناس دفعه إلى إعادة قراءة فلسفة ابن رشد في العام 1869 في سياق نظرية الشك الديكارتية ومدى وجود عقلانية عند فيلسوف قرطبة. المحاورات الفلسفية التي أنتجها رينان في العام 1876 جاءت في إطار متغيرات حصلت في تلك الفترة التاريخية حين شهدت أوروبا تراجع فلسفة هيغل التطورية (التسووية) لمصلحة عودة فلسفة ليبنتز الداعية إلى المصالحة بين الكاثوليكية والبروتستانتية وتصدير فائض القوة الأوروبية إلى بلاد المسلمين واحتلال مصر ومحاربة السلطنة العثمانية.
اختلاق فكرة العدو تحولت إلى عنوان أخذت به الدول الأوروبية بعد غزو بونابرت مصر واحتلالها في نهاية القرن الثامن عشر وأصبح تصدير فائض القوة نقطة تواصل بين شرائح النخبة الأوروبية. وبحوث المستشرق رينان التي أثارت الجدل العنيف لاحقاً بين شرائح النخبة المسلمة في القاهرة، جاءت تاريخياً في سياق متغيرات دولية تقوننت سياسياً في مؤتمر برلين الذي عقد في العام 1878. فالمؤتمر الذي عقد بعد هزيمة تركيا العثمانية في حرب 1877-1878 أدى إلى استقلال صربيا ورومانيا وبلغاريا عن السلطنة وأعطى صلاحية للامبراطورية النمسوية – الهنغارية وحقها في ممارسة سيادتها على البوسنة مقابل السماح لروسيا بإحكام قبضتها على مناطق القوقاز.
هذه المتغيرات الدولية في موازين القوى أعطت فرصة لنمو اتجاهات عرقية (عنصرية) أخذت تروّج فلسفياً للتمييز القومي واللاسامية ورفض واقع الاختلاف الموضوعي من خلال تأكيد الدعوة الذاتية إلى التجانس المطلق وعزل الأقليات وطرد الغريب.
المستشرق رينان ليس الوحيد وإنما يشكل ذاك المثال الحيوي على تعارض الاتجاهات ونمو ازدواجية في المعايير تتحدث في جانب عن مستقبل العلم (كتاب نشره في العام 1890) وتدفع نحو التفرقة والحروب في جانب آخر. هذه الازدواجية الشقية يمكن ملاحظتها أيضاً في الثنائية التي تمثلت بقوة في شخصية ألفرد نوبل (1833-1896). فهذا المهندس الكيميائي السويدي اخترع الديناميت (الدمار) في العام 1867 ثم أوصى بكل ثروته التي جناها من الاختراع إلى جوائز للسلام والعلوم والآداب سميت باسمه وهي لاتزال سارية المفعول مع «الديناميت» إلى أيامنا.
نوبل يمثل ذاك النموذج المتقوض الذي دخلت فيه شرائح النخبة الأوروبية بين اتجاه يخترع أدوات القوة (الدمار الذاتي) وبين اتجاه يطالب بالعدالة والحرية والمساواة والتسامح ومعاقبة المجرمين ومحاكمة قادة الحروب. والازدواجية التي عبّر نوبل عن قلقها الذاتي تمثل ذلك النموذج المضطرب الذي أخذت النخبة بمعايشته. فالوعي الشقي الذي بدأ ينمو في مركز القارة وضفافها انعكس على نخبة لم تعد قادرة على التكيّف مع متحولات سريعة باتجاه «التفوق» وفي الآن لم تكن تمتلك أدوات التحكم للسيطرة على واقع يتبدل يومياً. وحين تصبح شريحة من النخبة على مفترق طرق خطير وتنعدم أمامها حرية الاختيار تتجه طوعاً أو عنوة نحو «الجنون» أو«الانتحار».
فريديريك نيتشه (1844-1900) يمثل حال «الجنون» والاضطراب الفلسفي بين عالم يتطور ولا مكان فيه سوى للأصلح على البقاء وعالم ينزوي ويتراجع تاركاً حضاراته وثقافاته مفتوحة على الاحتمالات والتفسيرات والتأويلات. وأميل دوركايم (1858-1917) يمثل حال الخوف من انتشار ظاهرة «الانتحار» في قارة بدأت تتوالد فيها المتعارضات الحادة وتدفع بالإنسان العادي إلى حائط مسدود لا يستطيع تجاوزه من جهة وغير قادر على التراجع عنه أو الالتفاف عليه من جهة أخرى.
عدم القدرة على التكيّف يولّد «جنون العظمة» كما قال انغلز في سياق رده العنيف على ادعاءات دوهرنغ. وجنون العظمة هي حال مرضية تجتاح الأفراد في لحظة الفراغ والخواء وتشكل ذلك التعويض الذاتي عن عدم الرغبة في التفاعل الموضوعي فيتجه العقل نحو التوهم أو تخيّل قدرات خاصة تستطيع إنقاذ البشرية سواء بالهروب إلى الأمام أو بالاندفاع إلى الأعلى. وفي الحالين تتحول المخيلة «العقلية» أو«العلمية» إلى واسطة للارتقاء للتغطية على الضعف الذي يتوالد وينتشر في مساحة ضيقة لا تتجاوز حدود المستشفى.
نيتشه الفيلسوف ودوركايم عالم الاجتماع يعكسان ذلك القلق الدائم من تحولات ليست بالضرورة تعبّر عن سعادة الإنسان بالحضارة الجديدة وإنما بالتأكيد تؤشر إلى خوف الإنسان من مستقبل تلك السعادة الشقية.
ولد نيتشه في العام 1844 في بيت كاهن في منطقة تورينغ (ضمت لاحقاً إلى بروسيا الألمانية) وعاش في أجواء عائلة من القساوسة اللوثريين. والده مثقف ورجل دين (قسيس) ما ترك تأثيره على طفولة الابن في صباه. عاش نيتشه في نومبورغ ودرس في بون ثم لا يبزنغ فقه اللغة والفلسفة وتعلم الموسيقى. قرأ فلسفة شوبنهاور وأعجب بكتاباته عن الحضارات والثقافة الشرقية وعنه أخذ نزعته نحو الإلحاد. تعرف على الموسيقي ريتشارد فاغنر (1813-1883) صاحب مقطوعات الأوبرا وذلك المزاج السياسي المضطرب بين فوضوية «يسارية» وحليف للقوميين المتطرفين.
تأثر نيتشه بفاغنر وتعاطف مع بسمارك في فترة حرب توحيد ألمانيا في 1870 ثم تحولت صداقته مع الموسيقي المتعصب إلى مشكلة زادت من توتره وقلقه من نمو قوة بروسيا وتصاعد مخاطرها العسكرية فاختلف معه وقرر مقاطعته. انقلاب نيتشه على فاغنر الذي انتقده واتهمه بمسايرة «القوميين الاشتراكيين» لكسب الشهرة ونيل الإعجاب والترويج أدخله في منعطف حاد في تطور حياته الشخصية. فهو من جانب تحول إلى أستاذ في فقه اللغة في جامعة يال ومن جانب انقلب على المعتقدات القديمة (روافد الإيمان) واتجه بقوة إلى الإلحاد.
تزاوج الإلحاد مع سوء صحته (مرضه بداء السفلس) وازدياد اهتمامه بالعلوم الوضعية (الطب، البيولوجيا، والفيزياء) جعله ينصرف عن مهنة التعليم والقيام بجولة سياحية في أوروبا لتشتيت الأوجاع التي أخذت تنخر جسده. اشتد المرض على نيتشه في العام 1880 وبدأ يعاني من جنون الألم فدخل المستشفى وهناك كتب «هكذا تكلم زرادشت» بسرعة قياسية في 1883-1885 متحدياً الأوجاع التي كانت تحط به إلى قعر الضعف وهو يقاومها لبلوغ قمة القوة.
استعارة نيتشه شخصية «زرادشت» للقيام بدور البطولة في ملحمته الفلسفية جمعت ثنائية حادة بين تأثره بكتاب شوبنهاور عن الحضارات (الماضي) وتحديه للمرض (الحاضر) وما يمثله من قلق دائم من المستقبل. والثنائية التي جمعت بين فلسفة شرقية (معتقدات فارسية قديمة تقوم على ازدواجية الخير والشر) وروح غربية أخذت تؤسس قوتها الذاتية في عصر جديد انكشفت في فلسفة نيتشه ثنائيات القوة والضعف، السعادة والمرض، الألم والتحدي، الإيمان والإلحاد، العقل والجنون.
جنون الأوجاع دام عشر سنوات. وخلال هذه الفترة المضطربة اخترع نيتشه شخصية «السوبرمان» وهو يجسد رمز القوة المتفوقة على المكان والزمان والضعف والمرض والألم الذي أخذ يأكل جسده.
فلسفة القوة التي ألهمت النازية (القومية الاشتراكية) لاحقاً وأعطتها مادة خصبة لتطوير عقدة التفوق (البقاء للأقوى والأصلح) تشكلت عناصرها الذاتية في المستشفى وتحت وقع ضغط الألم وإرادة التحدي في آن. وفاة فاغنر (القومي المتعصب) أعطت فسحة لنيتشه للثورة عليه وانتقاده في كتاب صدر في العام 1888 ما يؤشر إلى وجود مساحة فاصلة تعزل فلسفته التي ترفض الانغلاق والتعصب والغرور والانتهازية والوصولية وبين رؤية إلحادية اجتهدت في افتراض قوة ذاتية حيّة قادرة على تحدي الألم والموت (القدر المحتوم).
ثنائيات نيتشه بين دخول المستشفى والخروج منها، تأسست على ازدواجية عصره الذي دخل بدوره في تاريخ تتجاذبه الرغبة بالسعادة والقلق من المستقبل. ثنائية الضعف والقوة أنتجت «جنون العظمة» ودفعت نيتشه إلى هاوية إعلان وفاة الصانع في كتابه الأخير قبل وفاته في فايمار العام 1900. كتاب «المسيح المصلوب» في العام 1888 شكّل ذاك المثال الأخير على التناقض أو ثنائية الجدل بين رسالة المحبة والتسامح والاستعداد للتضحية وبين خشبة الصليب التي ترمز للألم والوجع والقيامة.
سيرة نيتشه لا تنفصل عن فلسفته. وفلسفته لا يمكن عزلها عن زمن بدأت أوروبا تدخل في ثنائياته اللامتناهية. وفلسفة السيرة تختصر تلك الفترة العاصفة التي اجتاحت القارة ورفعتها إلى أعلى حالات التعارض بين إبداع العقل... وجنونه.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2856 - الخميس 01 يوليو 2010م الموافق 18 رجب 1431هـ
جميل ما تكتب يا وليد
هذه الحلقات الإسبوعية في الفلسفة جميلة جدا ... هل نشرت في كتاب أو ستنشر ليتسنى لنا قرائتها و مراجعتها وقت الحاجة ... فعلا تستحق النشر..