تحت وطأة النهضة الحديثة والإصلاح الديني وضغطهما تصدع بنيان العصور الوسطى حضارة وثقافة، وراح يزداد تصدعاً حتى انهار أخيراً، رغم كل ما بذل من جهود للمحافظة عليه، وعلى أنقاض تينك الحضارة والثقافة نهض بناء ذو أساس جديدة.
وإذا اعتبرنا أن القرنين الخامس عشر والسادس عشر هما أوج الصراعات والنزاعات، بين أنصار النظام الفكري والديني والاجتماعي القائم ومؤسساته من جهة، وبين المخالفين لهم، الرافضين دوام ذلك الوضع، الطامحين إلى عالم آخر جديد ينسجم من تطلعاتهم، من جهة أخرى، فلابد أن نعتبر أن القرنين السابع عشر والثامن عشر يمثلان بدورهما منعطفاً تاريخياً نجح، خلال جيل جديد، في تقويض عهد وإرساء آخر.
لقد بدأت الهجرة إلى الدنيا - إن جازت العبارة - في الفترات الأخيرة من العصور الوسطى، وكان في إطار هذه التحولات المتعاقبة أن برز شخص ماكيافللي كأحد أبرز الذين رسموا الملامح المتميزة لوجه الإنسان المؤسس لهذا العالم - لاسيما على مستوى السياسة - ذلك أن الصورة التي أعطاها عنه تشكل بحق انقلاباً، قياساً إلى الرؤية السابقة.
ومنذ ذلك الحين، توالى في الغرب ظهور فلاسفة وعلماء وفنانين ومفكرين، يحملون أفكاراً جديدة أدت، باستقرارها في الأوساط الشابة المفعمة بالأمل والنشاط التي مثلتها الطبقة المتوسطة، إلى تغيير وجه تاريخ الغرب، ومن ثم تغيير العالم.
لن نتوقف في ما يلي عند الترادف بين المتغيرات الاقتصادية/ الاجتماعية والمتغيرات الفكرية، ولا عند ما أثره تطور العلوم التجريبية والفنون، وما رافقها من تقدم على المستوى التقني؛ فلقد سبق أن بينا رأينا في الموضوع بتبنينا وجهة النظر القائلة بأنه لا تصح نسبة تبدل فكري في وسط ما إلى عامل دون العوامل الأخرى، أو جعله معلولا مباشراً لعامل واحد. كذلك، فالمتغيرات الفكرية التي شهدها الغرب هي ثمرة كل هذه العوامل معاً. وعلى ما سبق القول فإن الترجمة العملية الأبرز عن هذه المتغيرات في الفكر والرؤية تمثلت بإيلاء الدنيا وشئونها المحل الأول. ومع إيلائها هذا المحل سقطت حكماً منظومة كاملة من التصورات عن الإنسان وعن الكون على حد سواء. وبسقوطها أخذت ملامح منظومة أخرى تطل وتتبلور.
وإذ صح أن ماكيافللي هو الذي بشر بولادة الإنسان الجديد، فلابد من اعتبار فرنسيس بايكون (1561 - 1626م) صاحب الفضل في تصوير شخصية هذا الإنسان في مرحلة بلوغه، وفي هدايته إلى الطريق الذي يجب عليه سلوكه.
وعليه، لابد أيضاً من اعتبار تراث فرنسيس بايكون الفكري - ومن جملته كتابا الأورغانون الجديد (Novum organum) الذي لم يكتمل، وأطلانتيس الجديدة الذي يمثل مشروع مدينته الفاضلة - خير شاهد على الأساس الفكري والعقلي للإنسان الغربي الجديد - هذا الأساس الذي بلغ كماله في الوضعية (Positivesm) التي لاتزال، على اختلاف مدارسها ومذاهبها، في طليعة اتجاهات عصرنا الفكرية، وخير شاهد أيضاً على إمكانية حلول العلم، (العلم التجريبي)، والنزعة العلمية (Scientism) محل الدين وكل إيمان وفكر يتجاوزان التجربة.
لقد ظهر العلم الجديد قبل بايكون قطعاً، وتبدت علائمه واضحة في أفكار الفلكي البولندي كوبرنيك (1473 - 1543م)، والفلكي الألماني كبلر (1571 - 1630م)، وتكاملت بفكر الفيزيائي والفلكي الإيطالي غاليليو (1564 - 1642م). وبلغت النضوج، على يد نيوتن من خلال تصوره الشامل (1649 - 1727م). غير أن هذا جميعاً لا يطفف من أهمية فرنسيس بايكون ومن ريادته في السعي إلى اكتشاف نظام يلبي طموحات الحركة الفكرية العلمية الجديدة.
لقد كان شعار العلم للدنيا من جملة شعارات العالم الحديث، وهو ما أكد عليه بايكون أكثر من سواه. ولعل هذا الشعار يعبر بوضوح عن الدور الذي اضطلعت به النظريات والاكتشافات العلمية الحديثة، إلى جانب الاعتراضات الفكرية المحض في تقويض أركان سلطة الدين والعقلية القديمة. غير أن النظريات والاكتشافات هذه لم تقوض ما قوضته فقط بل اقترحت، مستعينة بفتوحات العقل التجريبي والحسابي، تصوراً جديداً عن العالم يسد مسد التصور البائد. وبمقدار ما كشف العلم الحديث من أسرار الكون والحياة بمقدار ما رفع من شأن الدنيا وحط من شأن الآخرة، بالمعنى الواسع للكلمة، وليس بالمعنى الديني الضيق. وبمقدار ما أثبت العلم المستند إلى الملاحظة والتجربة قدرته، بمقدار ما تقدم خطوات في طريق حلوله محل الدين في حياة الإنسان.
ريادة ف. بايكون في مجال العلوم، تنظيراً وتجارب، لا توازيها إلا ريادة ديكارت، الذي يعود إليه فضل إرساء بُعد ميتافيزيقي يوافق رؤية الإنسان الجديد ذاك ومحله في الوجود منه. لقد ظهر بعد ديكارت فلاسفة كثر، تابعه بعضهم وخالفه البعض الآخر، وكان لبعضهم من التأثير ما كان لديكارت نفسه، لكن امتياز ديكارت على هؤلاء جميعاً هو في ريادته وفي أنه أسس بناء فلسفياً ميتافيزيقياً جديداً كل الجدة على أنقاض فلسفة العصور الوسطى وإلهياتها، وعليه فليس مبالغة تأييد القول بأنه فيلسوف من طراز فلاسفة اليونان الكبار لا أقل.
«اتفقت كتب تاريخ الفلسفة على أن تأثير ديكارت فاق تأثير أي شخصية أخرى من شخصيات القرن السابع عشر الميلادي، في الانتقال من العصور الوسطى إلى العالم الحديث. فكل ما أنجزه أسلاف ديكارت كان الإطاحة بالفلسفة المدرسية، دونما البحث عن فلسفة بديلة، بل قد شاع بينهم عبث البحث عن فلسفة بالكامل. وأما ديكارت فلم يثبت فقط بطلان هذه الاعتقاد بل أثبت أن الفكر الفلسفي البناء مازال ممكنا» (نقد فكر الغرب الفلسفي، جيلسون).
عرض ديكارت نفسه إلى محنة «الشك»، ووجد نفسه في نهاية محنته، على قول جيلسون، شكاكاً حقيقة، لكن شكاكاً يترقب ما هو خير من «الشك». فديكارت قَبِلَ الشك ليعبر عليه إلى اليقين، لكن ما أدركه من يقين حصل له من طريق غير الطريق التي سلكها أسلافه. وهذا اليقين كان بحد ذاته مختلفاً عن يقين أسلافه. كان يقيناً يتناسب مع روح العصر، وبوسعه أن يهدئ روح ديكارت الثائرة المحلقة، ويساير تطورات «الإنسان الغربي» في الحياة المادية - يقين مُتعلقه «كل شيء» طالما أن «كل شيء» متعلق بالإنسان الأرضي. ومن ثم فإن أول وسيلة وجدها ديكارت للخروج من الشك كانت إثبات الأنا، ومن إثبات الأنا توصل إلى الله.
وإله ديكارت خالق، لكنه خالقُ عالَم قوامه الامتداد والحركة، أي عالَم الكمية والطاقة الذي يمكن اكتشافه والتحكم به، على النحو الذي يقترحه ديكارت أيضاً.
كان ديكارت مصراً على أن يحدد أخلاق الأنا هذه، وهو وإن لم ينجح كل النجاح في هذا الأمر، فلقد كان لدويّ صيحته وقع بعيد في أذهان الأجيال التالية وعقولها.
قد يتوهم البعض أن ما ذكرناه عن بايكون وديكارت خارج عن موضوع بحثنا الذي هو الفكر السياسي وجذوره الفلسفية، ولكن الحقيقة غير ذلك.
فتاريخ الفكر السياسي ليس سياسياً صرفاً، وقراءته لا تستقيم إلا إن أخذت في الاعتبار الإطار العام لتطور الفكر في مختلف الميادين. ولعل القارئ أن يتبين، خلل ما نحن مقبلون عليه من حديث عن نشوء الفكر الليبرالي، ما دعانا إلى الاستطراد الآنف الذكر.
كذلك قد يعترض البعض على إغفالنا شخصيات وقامات فلسفية لا يستهان بها، وجوابنا على ذلك من شقين: أولهما أن ما قد يلاحظه القارئ من إغفال هو في الأرجح مقصود، وأن مرده تالياً ليس الحط من قدر هذا المفكر أو الفيلسوف أو ذاك، وثانيهما منهجي مفاده أنه عند دراسة التطور الفكري لعلم ما، (بما في ذلك السياسة)، فالأوفق الاقتصار على الذين كان لهم التأثير الأكبر أو التصوير الأوضح لهذا التطور.
إن رأي أو آراء كل مفكر جديرة بنفسها أن تدرس ويدقق فيها، ولكن دراسة آراء مفكر ما شيء، ودراسة تطور رأي أو فكرة أو علم في سياقة تاريخية شيء آخر.
إقرأ أيضا لـ "محمد خاتمي "العدد 2856 - الخميس 01 يوليو 2010م الموافق 18 رجب 1431هـ