لم تنجح اللجنة الخماسية العربية التي عقدت اجتماعها في طرابلس الإثنين الماضي في التوصل إلى توقيع اتفاق إطاري يضمن سبل تطوير منظومة العمل العربي المشترك ودفعه باتجاه الارتقاء من صيغة «الجامعة» إلى «الاتحاد». فالقمة الخماسية التي انبثقت عن المؤتمر العربي الذي عقد في نهاية مارس/ آذار الماضي في سرت كلفت بمهمة إيجاد صيغة توفيقية بين تيار يدعو إلى تسريع إقامة اتحاد عربي وآخر يطالب بإتباع منهج التطوير التدريجي والإبقاء على الجامعة العربية كما هو عليه حالها الآن ومنذ أكثر من ستة عقود.
عدم النجاح لا يعني أن فكرة الدعوة إلى تطوير منظومة العمل العربي ليست صحيحة أو هي مثالية في أحلامها في اعتبار أن الوضع الذي تمر به الدول العربية يؤشر إلى تحولات سلبية تهدد الوحدة الوطنية الداخلية لأسباب شتى تتراوح بين نمو الوعي القبلي أو ظهور صحوات طائفية أو مذهبية أو أقوامية أو لونية. فالعراق مهدد بالانقسام إلى دويلات (فيدراليات) مذهبية وأقوامية. لبنان يتأرجح بين بقاء نظام المحاصصة أو انشطاره إلى مناطقيات طائفية. اليمن يعاني من انقسامات متوارثة تزعزع استقرار الدولة وتهدد الوحدة بانشطارات قبلية ومناطقية. السودان بات على قاب قوسين من تمزقه إلى دولتين جنوبية وشمالية تفتحان طور تقوض الدولة وتوزيع الوحدة على وحدات لونية وعرقية ومناطقية. والصومال بات عملياً مجموعة دويلات قبلية تتوزع المناطق الجغرافية إلى مراكز نفوذ تتجاذب السلطة من مواقع تمنع عودة الدولة إلى مكان يضمن استمرارها على الخريطة السياسية.
كل هذه المشاهد التي طرأت على المسرح العربي وأخذت نصيبها الواقعي منذ تسعينات القرن الماضي طرحت تحديات خطيرة على الجامعة العربية ما أدى إلى نمو وجهة نظر سلبية ترى أن الحل الأمثل للأزمة هو ترك الأمور تمشي على حالها وعدم التدخل لوقف التدهور حتى يستقر الانقسام على وحدات لا متناهية من الدويلات المختلفة الأنواع والأشكال والألوان.
هذا الرأي السلبي أسس وجهة نظر ثالثة بناء على معطيات الواقع العربي وارتداداته الأهلية وانكفاء جماعاته إلى العصبيات الضيقة والحلقات الصغيرة التي تنمو كالفطر في الجبال والمرتفعات والمنحدرات والأودية والصحاري والمستنقعات والزوايا الاجتماعية المتهالكة في انزياحاتها وانزلاقاتها نحو الانغلاق والتقوقع والابتعاد عن القضايا الوطنية والإنسانية المشتركة.
مشكلة الجامعة العربية لا تنحصر بين قوة سياسية تدفع باتجاه تبني مفهوم الاتحاد وأخرى تطالب بالتروي وعدم التسرع في اتخاذ خطوات تبالغ في التفاؤل. المشكلة تطورت إلى الوراء وباتت الدول العربية تواجه الآن أسئلة تتصل بوحدتها الداخلية واحتمال تفرقها إلى انقسامات أهلية تعزز فكرة الانفصال وتبعثر الدولة الوطنية الواحدة إلى وحدات متنافرة موزعة على المركز والأطراف.
التيار الثالث الذي يدعو إلى تقسيم الدول وتشطيرها إلى فديراليات وكونفديراليات ازدادت قوته في العقود الثلاثة الأخيرة لأنه أخذ يستفيد من مشاهد التفكك والاضطرابات الأهلية والانقسامات الطائفية والمذهبية والقبلية واللونية والمناطقية التي تتناقلها الفضائيات من العراق ولبنان والسودان واليمن والصومال وغيرها من دول مغاربية ومشرقية. وبسبب نمو نزعات الانكفاء والانعزال والتكوُّر في حلقات ضيقة أخذ التيار الثالث يتطور سياسياً ويطالب علناً بإلغاء الجامعة العربية لأنها فشلت تاريخياً وفقدت وظيفتها ودورها وموقعها.
الجامعة الآن بين خيار الاتحاد وخيار الانقسام. والتيار الانفصالي ليس ضعيفاً لأنه يستمد قوته الإيديولوجية من عناصر واقعية متفجرة تعطيه الذرائع للتأكيد على وجهة نظره المطابقة للواقع بينما القوى الأخرى لا تمتلك القوة العملية ذاتها التي تسمح لها بمقاربة العقل العربي وإقناع الشارع بجدوى الاستمرار في أحلام وردية لا أساس لها من الصحة أو هي على الأقل مخالفة في توجهاتها الوحدوية للمجرى الانقسامي الذي أخذ يرسم علامات حدود تفصل التشكيلات الاجتماعية – الأهلية عن بعضها.
هذا التحدي الذي يرفعه التيار الثالث بناء على انشطارات الواقع العربي في وجه القوى الوحدوية بات يتطلب رداً من نوع آخر. والاكتفاء بسياسة التمسك بالصيغة «الجامعية» ورفض الفكرة «الاتحادية» يشكل واحدة من أدوات التفكيك لأن الاحتفاظ بما هو قائم الآن يعطي المجال لنمو الانقسامات وتطورها داخلياً من حال الانشطار الأهلي إلى واقع سياسي يطالب شرعياً بدويلات انفصالية في مناطقها الجغرافية. وهذا الاحتمال ليس مستبعداً في المستقبل إذا تولدت في العراق جمهوريات مذاهب، وفي لبنان جمهوريات طوائف، وفي السودان دويلات عرقية – لونية، وفي اليمن جمهوريات قبائل، وفي الصومال جمهوريات جهوية قبلية.
المشاهد المتناقلة فضائياً لا يستهان بتأثيراتها السياسية لأنها تعكس ذلك التخثر في نمو الدولة الوطنية وعدم قدرتها على تطوير وحدتها الداخلية ونقلها إلى درجة المواطنية وبعيداً عن الولاءات العشائرية والعائلية والجمهوريات التوريثية. والتخثر المذكور يعطي حجة للتيار الثالث الذي يطالب بترك الأمور تأخذ مجراها التاريخي إلى أن تستقر الانقسامات والانشطارات على أصغر الوحدات الأهلية في كل بلد عربي.
عدم توصل اللجنة في القمة الخماسية في طرابلس إلى تحديد مخارج للازمة وترك الباب مفتوحاً بين الاستمرار في جامعة تضم الدول في عضوية أخوية – أفقية أشبه بعلاقات جوار قبلية وبين تطوير الصيغة إلى اتحاد هرمي – عمودي يحدد آليات دستورية ويشترط قواعد تحتية للتضامن العربي يؤشر إلى ضعف في القدرة على تحمل مسئوليات تاريخية لمواجهة عواصف أخذت تهدد الوحدة الداخلية في كل دولة عربية من المحيط إلى الخليج. فالانقسام الذي يتمظهر في المسرح العربي يمكن أن يتطور لمصلحة التيار الثالث وطموحه في أن يرى الساحات متشظية إلى عناقيد غير متناهية من الدويلات الأهلية والأسرية إلا أنه أيضاً يمكن أن يكبح ويكبل في حال نجحت دول الجامعة في التوافق على دستور اتفاق إطاري يضع آليات للانتقال من طور الإخوة القبلية الجوارية (الأفقية) إلى طور الاتحاد المصلحي الهرمي (العمودي). الرد على التحدي ليس بالضرورة أن يكون دائماً القبول بالأمر الواقع كما هو وتركه على ما هو عليه إلى أن يقضي الانقسام على الوحدة وإنما أحياناً يتطلب التحدي رداً يقرأ المستقبل بعقلية الدولة وآفاق التطور حتى لو كان الواقع يعاني من انشطارات تزعزع استمرار الوحدة الوطنية القائمة حالياً في كل دولة عربية.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2854 - الثلثاء 29 يونيو 2010م الموافق 16 رجب 1431هـ