خالد غزال - باحث لبناني، والمقال ينشر بالتعاون مع «مشروع منبر الحرية www.minbaralhurriyya.org»
يقف العراق اليوم أمام منعطف جديد في تاريخه بعد إجراء الانتخابات النيابية الجارية والتي أعادت خلط أوراق الساحة العراقية داخلياً، وتكوّنت استقطابات حادة لم يستطع أي فريق أن يحقق فيها نصراً حاسماً يمكنه من تولي السلطة، كما أظهرت هذه الانتخابات موقع الخارج في تحديد الداخل والتأثير الحاسم في إعادة تكوين المعادلات العراقية الداخلية، بعد سبع سنوات من الاحتلال الأميركي، عانى فيها العراقيون الآلام الكثيرة وسقط فيها العديد من الضحايا، سواء خلال الغزو أو من جراء العمليات الانتحارية، ومن تهجير أكثر من مليونين من سكانه إلى الخارج، ومن دمار البنى التحتية وتخريب المنشآت، وصولاً إلى ما هو أخطر من كل ذلك وهو المتعلق بتدمير بنى الدولة العراقية وانبعاث مقومات العصبيات وتفتت النسيج الاجتماعي العراقي. بعد هذه المدة غير القصيرة على الاحتلال، يمكن للمراقب تسجيل جملة محطات بارزة منها ما يتصل بالوضع الراهن، ومنها ما يؤشر إلى احتمالات المستقبل.
في حساب الأرباح والخسائر الأميركية أولاً، يمكن رصد بعض المعطيات. على صعيد المكاسب، تجب رؤيتها بالعلاقة مع الإستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط، والتي أملت على الولايات المتحدة الأميركية الإصرار على غزو العراق، رغم إدراكها بعدم وجود أسلحة دمار شامل تبرر الغزو. تقوم هذه الإستراتيجية على دعامتين مركزيتين، الأولى تتصل بالثروة النفطية في الخليج العربي وعلى الأخص منه العراق الذي يحوي مخزوناً هائلاً من الاحتياطي النفطي، وفي هذا المجال يأتي الإصرار على التواجد العسكري الأميركي المباشر لحماية هذا النفط، إنتاجاً وتصديراً، بالنظر إلى انعدام الثقة الأميركية بقدرة الأنظمة القائمة على تأمين هذه الحماية بقواها الذاتية. وهو هدف أمكن النجاح في تكريسه واقعاً. أما الدعامة الإستراتيجية الأميركية الثانية، فهي المتعلقة بحماية أمن إسرائيل، وهو أمر يتحقق عبر الوجود الأميركي المباشر، والأهم عبر تفتيت الدول ذات الموقع الإقليمي المؤثر راهناً، أو الممكن تطوره لاحقاً. بهذا المعنى يأتي تدمير الدولة العراقية، بوصفها إحدى القوى الإقليمية التي يمكن لها أن تهدد أمن إسرائيل، من خلال ما تملكه من مقومات القوة والموارد المتعددة. هذان الهدفان أمكن للولايات المتحدة تحقيقهما، ولا يبدو في المستقبل القريب،على الأقل، أن هناك مخاطر تتهددهما، بالنظر إلى أن جميع القوى العراقية القائمة راهناً والمؤهلة لاستلام السلطة، تبدو مجمعة على العلاقة الجيدة مع الولايات المتحدة واستمرار علاقة إستراتيجية عسكرية معها.
في المقابل، لا يمكن سوى الاعتراف بفشل أميركي في ضبط الوضع الأمني وإيجاد استقرار وفق ما كان مرسوماً في ذهنها عند الغزو، فلقد تكبدت القوات الأميركية خسائر فادحة في قواتها، جعلها تضع جدولاً زمنياً لانسحاب هذه القوات في خلال عام. وإذا كانت الإدارة الأميركية تعبر اليوم عن خيبات أمل مما كانت تتوقعه، إلا أنها قادرة على تقديم منجزاتها إلى الأميركيين، وإقناعهم بأن ما قامت به في العراق إنما يصب في خانة حماية الأمن القومي الأميركي، وأنها نجحت في ذلك.
على الصعيد العراقي الداخلي، لاشك أن وطأة نهاية حكم البعث ودكتاتورية صدام حسين تشكل لدى الغالبية الساحقة من العراقيين متنفساً وفسحة من الأمل. لكن السنوات السابقة قدمت أيضاً للعراقيين أشكالاً متعددة من العذاب والخوف والقلق على مصير بلدهم وعلى حياتهم الشخصية. صحيح أن الانتخابات التي جرت قبل خمسة أعوام، والتي جرت خلال هذا العام، تعبر عن انتقال فعلي إلى تداول ذي طابع ديمقراطي للسلطة، وهو أمر يجب تسجيله في خانة الإيجابيات الفعلية، لكن العراق خلال هذه الفترة، شهد المزيد من التفكك البنيوي في مجتمعه وحياته السياسية يتمثل في الانقسامات الحادة الجارية اليوم في جميع ميادين حياته السياسية والاجتماعية، وكان تقويض بنى الدولة العراقية من أخطر نتائج الاحتلال على الإطلاق، تسبب إلغاء الجيش بانهيار مقومات الدولة، ونجم عن هذا الانهيار صعود العصبيات العشائرية والطائفية والقبلية والإثنية، وصولاً إلى التعصب المذهبي داخل المجتمع. على رغم بشاعة الدولة المتسلطة وطريقة إدارة حكامها في كل مكان، لكنها تظل أقل شروراً من هيمنة الميليشيات المحلية التي تطبق قوانينها على المجتمع بطريقة استنسابية. وهو أمر يفتح البلد على صراعات أهلية وقبلية وحالات انتقام وثأر، خبرها العراق على امتداد السنوات السابقة، كما خبرتها بلدان أخرى مثال لبنان في فترة الحرب الأهلية في السبعينيات وصولاً إلى نهاية الثمانينيات من القرن الماضي. مما يطرح أكبر التحديات على الحياة السياسية العراقية في إعادة توحيد الدولة وبنائها.
من التحديات الكبرى أيضاً، الانفلات الأمني الواضح من خلال تواصل العمليات الانتحارية والتفجيرات التي تضرب المجتمع العراقي من دون تمييز بين عسكري ومدني. صحيح أن حدة العنف في العراق تراجعت إلى حد كبير خلال السنة الأخيرة، لكن حدتها ترتفع أحياناً من دون إنذار أو توقع، وتمعن في تصعيد عنف طائفي ومذهبي كبير. ومن دون قيام دولة فعلية وجيش قوي، يصعب تصور إمكان القضاء على هذا العنف أو الحد من انفلاته مستقبلاً.
من التحديات التي تواجه العراق ما يتصل بعلاقاته الإقليمية وتدخلات القوى في حياته السياسية. تمثل الانتخابات الحالية، بنتائجها والقوى التي أفرزتها، أحد النماذج في قراءة الخارج في علاقته بالداخل، حيث أظهرت صراعاً إيرانياً من جهة، وسعودياً - سورياً من جهة أخرى، دار من خلال اللوائح التي تشكلت، وسعى فيها كل طرف إلى حفظ موقعه السياسي وحتى الأمني وملء الفراغ المتوقع حصوله بعد انسحاب الجيوش الأميركية من العراق.
لا يخفى على المراقب أن الانتخابات الأخيرة، موصولة بسنوات الاضطراب الماضية من الغزو، قد خلقت في العراق انقسامات حادة يمثلها اليوم «ملوك الطوائف وأمراؤها» على غرار الحالة اللبنانية. لا يوحي هذا الاستقطاب والتبلّور الطائفي بالاطمئنان على المستقبل العراقي، فمثل هذا التذمر يقف موضوعياً في وجه قيام دولة مستقلة وقوية، لأنها بالتأكيد ستكون على حساب هؤلاء الملوك والأمراء والحد من نفوذهم وسلطتهم. يأمل المواطن العراقي أن تشكل الانتخابات النيابية الأخيرة مجالاً لتكوّن مواطنية سياسية متجاوزة للانقسام الطائفي الحاد حالياً، وهو طموح مشروع، لأنه أحد الممرات الرئيسية لبناء الدولة. فهل تنجح القوى السياسية الحاكمة في تحقيق هذا الحلم، وهل سيتمكن العراقيون من تجاوز انقساماتهم؟ وهل سيتمكن العراقيون من تشكيل حكم يضمن لكل الفئات المتنوعة موقعاًً في الحياة السياسية للبلد؟ إنه سؤال يرسم مستقبل من الصعب التنبؤ بمدى نجاحه.
إقرأ أيضا لـ "منبر الحرية"العدد 2852 - الأحد 27 يونيو 2010م الموافق 14 رجب 1431هـ