«تغيير الأشخاص لا يعني تغييراً في الاستراتيجية». هذا الكلام قاله الرئيس باراك أوباما حين وافق على استقالة قائد القوات الأجنبية في أفغانستان الجنرال ستانلي ماكريستال عقاباً على تصريحات مؤذية للإدارة الأميركية أدلى بها إلى مجلة «رولينغ ستونز». فالعقاب كشف عن وجود أزمة في العلاقات بين إدارة تقبع في واشنطن وتدير الحرب وفق تصورات ذهنية وتقديرات سياسية بعيدة عن المسرح وبين قيادة ميدانية تشرف عن قرب في إدارة مواجهة عملانية تتطلب معرفة تفصيلية بالتضاريس الجغرافية – القبلية التي تؤثر على المعادلة العسكرية في إطارها الإقليمي ومجالها الحيوي.
الاختلاف بين رؤية القيادة المدنية وراء البحار وتصورات القوة الميدانية المكلفة بتنفيذ الأوامر على الأرض يشكل دائماً فجوة كبيرة تظهر ذلك الافتراق المنطقي بين النظرية الأكاديمية العامة التي تدرس في المعاهد والكليات العسكرية وإمكانات تطبيقها في مكان بعيد تتحكم في آلياته قوانين مغايرة لتلك الفرضيات المتعارف عليها في الكتب الجامعية.
المشكلة ليست في الجنرال وهي أيضاً لا علاقة لها بالقوة العسكرية الأميركية الضاربة. فالخلاف ليس على من هو الأقوى عسكرياً وإنما على من هو الأكثر التصاقاً بالأرض التي تشكل مجال اختبار القوة. الولايات المتحدة تمتلك أكبر قوة عسكرية مجهزة بالآلات والتقنيات والمعدات المتطورة والمستودعات المتخمة بالصواريخ والقنابل القادرة على تدمير أفغانستان وإزالتها من الخريطة السياسية مقابل قوى قبلية لا تمتلك سوى آلات بسيطة ومعدات قديمة ووسائل بدائية للمقاومة والرد على الهجمات الجوية والبرية.
أميركا أقوى من أفغانستان عسكرياً واقتصادياً ومالياً وتقنياً بمليون مرة ولا مجال للقياس لتحديد الطرف المتفوق على الآخر في هذا المجال النظري. المشكلة ليست في المقاربة الأكاديمية التي تعتمدها قيادة وزارة الدفاع (البنتاغون) لإخراج استراتيجيات ورقية يصعب تنفيذها ميدانياً. المشكلة هي في ذلك الفارق بين قوة قبلية تتعامل مع واقع تدرك تفصيلاته وتتعاطي مع آليات يعجز «الكومبيوتر»على تفكيك ألغازها ورموزها وإشاراتها وبين دولة كبرى تمتلك كل أدوات القتل ولكنها تفتقر إلى معرفة تساعد على استكشاف قوانين الربح والخسارة في بلد فقير يعاني من الجوع والحد الأدنى من المتطلبات التنموية والإنسانية.
هذا الفارق الشاسع بين قوة كبرى تعاني من التخمة الاستهلاكية والرفاهية والتباهي بفخامة نمط العيش وبين قوة قبلية تعاني من شظف الحياة وصعوبة الحصول على مصدر للرزق، ينهار حين تتواجه على أرض بعيدة يصعب التحكم بآلياتها اعتماداً على تقنيات يمكن توجيهها بالأقمار الاصطناعية أوالصواريخ «الذكية». وبسبب هذا الفارق بين التقدم والتخلف تنقلب الصورة في الميدان العسكري وتتحول الصواريخ الذكية إلى غبية حين تستهدف القرى الآمنة والأسر الفقيرة والأحياء المسكينة.
المشكلة ليست في القوة وإنما في العقل السياسي الذي يدير الاستراتيجية الأميركية في العالم. وأوباما الذي ورث الأزمات المالية والحروب عن سلفه جورج بوش بات يحتاج إلى قراءة أخرى تنقذه من ورطة تتحمل مسئوليتها مجموعة متعصبة ولوبيات (مافيات) الطاقة والمال ومؤسسات التصنيع الحربي.
كلام أوباما عن أن تغيير الأشخاص لا يعني تغييراً في الاستراتيجية يعني أن الانزلاق نحو هاوية الفشل بات مسألة وقت ويصعب تدارك الكارثة قبل وقوعها. فالمطلوب فعلاً هو تغيير الاستراتيجية قبل تغيير الأشخاص، لأن المشكلة ليست في وقاحة جنرال وتطاوله على القيادة المدنية وإنما في المنطق الخاطئ الذي يتحكم بالإدارة الأميركية واقتناعها بأنها قادرة على الانتصار وحماية الأرض الأم من هجمات مشابهة لتلك التي وقعت في 11 سبتمبر/ أيلول 2001.
هذه الأوهام تحتاج فعلاً إلى معالجة سياسية، لأنها تقوم على توهمات نظرية تمتلك المال والمعدات والأجهزة ولكنها تعاني من ضعف في إدراك آليات الاجتماع البشري (القبلي) في بلد مرتفعات يعتمد على الزراعة البسيطة وتربية الماعز لسد قوته اليومي. وهذا الفارق الزمني بين قوة غنية تخاف على جيشها من الخسائر وبين قوة فقيرة لا تخاف على أهلها وسكانها وضحاياها يكشف عن ذلك الخلل في قراءة معنى الانتصار والفشل. وبسبب هذه المعادلة ستخسر أميركا الحرب مهما سجلت من ضربات عسكرية ضد طالبان (البشتون) وأسقطت ضحايا في أفغانستان بينما القبيلة ستنتصر في النهاية مهما سقط لها من خسائر بشرية ومادية.
اختلاف القراءة في معادلة الربح والخسارة بين طرف الدولة الكبرى وطرف القبيلة يعطي فكرة عن مدى ضعف استراتيجية أوباما في قندهار وصعوبات الحرب قبل انسحاب قواته في يوليو/ تموز 2011. فالقراءة تقوم على معادلة معكوسة وهي أن أميركا خاسرة مهما انتصرت والقبيلة منتصرة مهما خسرت. والسبب يكمن في معادلة القوة بين الغني والفقير. فالأول لا يستطيع تحمل الخسائر حتى لو ربح المعركة والثاني يستطيع التحمل لأنه في حساباته الخاصة لا يمتلك الكثير ليخسره. وانكسار المعادلة يتأتى من أن المواجهة ليست بين دولة ودولة وإنما بين دولة ضد قبيلة.
هذه النتيجة هي درس من التاريخ. القبائل الجرمانية المتخلفة سحقت الحضارة الرومانية لأن الأخيرة خافت على مدنها ومتاحفها وإنجازاتها ومنحوتاتها وبرلمانها ودستورها بينما الأولى لم تكن تمتلك سوى التخلف لتخسره. وهذا الدرس التاريخي أسس ابن خلدون في ضوء تكراره وتجاربه نظرية فلسفية فائقة الذكاء حين استشرف في مقدمته قانون الغالب والمغلوب. فالمغلوب برأي صاحب المقدمة هو المترف الذي يخاف على رفاهيته ونمط معاشه من الخراب والغالب هو الجائع الذي يعيش قساوه الحياة ويلقى صعوبة في تأمين لقمة العيش.
أميركا في نهاية التحليل ستخسر حتى لو ربحت الحرب ضد القبيلة. وقانون الغالب والمغلوب الذي وضع معادلته ابن خلدون قبل أكثر من 600 سنة لا يزال ساري المفعول وأهم من تلك الدراسات العسكرية التي تصدر عن معاهد وأكاديميات البنتاغون. وأوباما الذي قال إن تغيير الأشخاص لا يعني تغييراً في الاستراتيجية عليه بمراجعة خطابه قبل فوات الأوان... فالمطلوب من الإدارة تغيير الاستراتيجية لأنها هي أساس المشكلة وليس الأشخاص.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2850 - الجمعة 25 يونيو 2010م الموافق 12 رجب 1431هـ