العدد 2848 - الأربعاء 23 يونيو 2010م الموافق 10 رجب 1431هـ

باربار في قلب الحداثة (2 - 2)

إلى ذلك فإن القرية كانت على موعد آخر هو تفاعلها مع انتفاضة مارس/ آذار 1965 والتي اشترك فيها أهالي القرية بفعالية خارج القرية، وداخل القرية في مسيرات جماهيرية جالت شوارع القرية رافعة اليافطات المعادية للاستعمار, ومرددة هتافات من قبيل «يا بحرين هلي، هلي خلّ الاستعمار يولي»، وكذلك المشاركة بفعالية في الانتفاضات اللاحقة، وخاصة في أوساط الطلبة على امتداد السبعينيات من القرن الماضي، هذا فضلاً عن المشاركة الفعالة في انتخابات المجلس الوطني لسنة 1973، وترشيح إحدى شخصيات القرية نفسه لعضوية المجلس، وطرحه لبرنامج تقدمي بمعايير تلك الأيام، تحت شعار من أجل الديمقراطية الحقة ومن أجل حقوق العمال والفلاحين، ولا ننسى دور القرية في انتفاضة التسعينيات.

لذلك فإن حدث الكهرباء على أهميته، كان امتداداً لأحداث تاريخية سابقة شهدتها القرية، وكانت تمثل علامات مضيئة على طريق الحداثة والتحديث. ففي حين تعرف أهالي باربار إلى السينما في وقت مبكر وأسبق من الكهرباء، فإنهم تعرفوا إلى التلفزيون بعد افتتاح الكهرباء مباشرة، إذْ دخل التلفزيون إلى القرية لأول مرة منذ 1964م.

أما على صعيد الحداثة الاجتماعية، فقد لوحظ أن الوعي الثقافي والاجتماعي قد أصبح أكثر انفتاحاً خاصة تجاه تعليم المرأة، وهو ما تجلى في التحاق أول دفعة من بنات القرية بالمدرسة في سنة 1967م. تلا ذلك تأسيس أول مدرسة ابتدائية للبنات في العام 1969. هذا العام الذي سبقه حدث تكنولوجي مهم هو دخول التليفون لأول مرة إلى القرية في العام 1968. وما أدراك ما التليفون ومفاعيله.

ولاشك أن عملية الحداثة والتحديث في باربار لم تكن مفروشة بالورود, بل كانت هناك معوقات وصراعات تجلت على صعيد الثقافة والفكر والممارسات والمؤسسات الأخرى، وكذلك بين القديم والجديد والأكثر جِدةً.

وأكثر ما تجلى فيه ذلك الصراع، هو السيطرة على النادي وخاصة في بداية السبعينيات من القرن الماضي، حيث كان الاصطفاف واضحاً بين تيارين، التيار التقدمي وما يمثله من آفاق، والتيار المحافظ وما يمثله من انسداد للأفق وتعلق بالتقاليد والماضي.

كما تجلى ذلك الصراع أيضاً، في الاصطفاف الاجتماعي والفكري حول افتتاح مدرسة ابتدائية للبنات، حيث أيد فريق من الأهالي ذلك وبقوة واعتبر ذلك مكسباً حضارياً وتقدمياً للمرأة وبالتالي الترحيب بهذه الخطوة والدفاع عن هذا المكتسب. وفريق آخر عارض افتتاح المدرسة بحجة أن ذلك مفسدة للمرأة وللمجتمع، وقد حاول أن يقف ضد المشروع ومنع بناته من الالتحاق بالمدرسة، لكن هذه المعارضة لم تصمد مع الأيام، حيث انتصر النور على الظلام، والتحديث على التقليد.

وبذلك تكون باربار من أوائل القرى على امتداد شارع البديع التي افتتحت فيها مدرسة للبنات في وقت مبكر نسبياً، ثم تلتها مدرسة إعدادية في بداية الثمانينيات من القرن الماضي.

يشار إلى أن قرية باربار ربما تميزت بين القرى الأخرى المجاورة لها بتفتح القاعدة الاجتماعية للأفكار التقدمية والتنويرية منذ البداية، كما اتسمت بالصلابة، حيث قاومت هذه القاعدة شتى صنوف الإكراهات الرسمية وغير الرسمية، حتى أن الكثيرين من حاملي هذه الأفكار قد تعرضوا للقمع والسجن والمضايقات خلال مرحلة قانون أمن الدولة, ومع ذلك بقي وهج الأفكار التقدمية والتنويرية مشعاً وحاضراً في القرية برغم النوازل المتتالية حتى الآن.

إلى جانب تلك الإكراهات الرسمية، فإن الإكراهات الشعبية لا تقل في ضغوطها ونتائجها عن الإكراهات الرسمية, وخاصة في ظل المد الأصولي واستخدام العوام في التشهير، والتسقيط بحاملي الفكر التنويري والتقدمي، وتصوير الموقف بطريقة أيديولوجية، وكأنه صراع بين الحق والباطل، في حين أنه في الواقع ليس كذلك، بل هو صراع بين الحداثة وما تعنيه، والقدامة وما تحتويه.

وما إنْ طلّ عقد السبعينيات حتى بدأ ثلة من شباب القرية يلتحقون بالجامعات العربية والأجنبية، إلى الكويت وقطر والإمارات إلى الرياض إلى القاهرة والعراق إلى بريطانيا وباريس وألمانيا وموسكو إلى دمشق وهنغاريا إلى بلغاريا وكوبا والهند، ليعود هؤلاء الشباب إلى قريتهم محملين بالفكر والتجارب والعلم والعمل، وفي مختلف التخصصات. ويبرز من بين هؤلاء المتعلمين تعليماً عالياً، مهندسون، وأطباء، وصيادلة، وصحافيون، وكتاب، وسوسيولوجيون, واقتصاديون، ومهتمون بالفلسفة، ومعلمون، وأدباء وتشكيليون، وموسيقيون، وأساتذة جامعات، وحقوقيون، ومثقفون على قدر كبير من الأهمية على صعيد القرية، وعلى صعيد الوطن .

ويستمر التطلع في القرية إلى النظم الحديثة، في تنظيم وإدارة العمل الخيري فيتم تأسيس صندوق باربار الخيري في بداية التسعينيات من القرن الماضي، ليكمل مسيرة النادي في هذا المجال. وقد أصبح للصندوق الخيري دور مهم على صعيد القرية في مساندة ودعم العديد من أهالي القرية وتنظيم وإقامة الأنشطة الخيرية والاجتماعية وفق أسس حديثة.

ولا تقف ذاكرة الحداثة في باربار عند الأحداث الفكرية والثقافية والاجتماعية، بل تتجاوزها إلى الثقافة المعمارية المرتبطة بالبنية التحتية، ذلك إن الحداثة مسألة كلية وشاملة، مادية وروحية.

وفي هذا الشأن، أخذت مساكن وشوارع القرية في التحول من العرشان والبرستجات والأزقة (الدواعيس) الضيقة والمتربة والمتداخلة، المعبرة عن التضامن الاجتماعي ما قبل الحداثي، إلى نمط المساكن الحديثة المعبرة عن الميول الفردية والنزعة الانعزالية والاغتراب بالمعنى الحديث, وبدء تفتت نمط العائلة الكبير باتجاه الأسرة الصغيرة/ النووية، والانتقال شيئاً فشيئاً من قيم الزواج الداخلي (العائلي) إلى الزواج الخارجي (الزواج من خارج العائلة والقرابة).

التحول إلى تلك البيوت المبنية من الحجر والجص أو الاسمنت منذ أربعينيات القرن الماضي، وفي السياق نفسه أصبحت المساكن ذات أبعاد هندسية واضحة المعالم، والشوارع اتسعت وأصبحت مستقيمة ومبلطة بالإسفلت، ومنذ بداية الخمسينيات تعرف أهالي القرية على أدوات البناء الحديث كالطابوق والاسمنت المسلح، والشبابيك الحديثة المستوردة من بلاد «بره»، وطلاء المنازل، ولم تأتِ الستينيات إلا وقد انتشرت المساكن ذات الطابع الأوروبي (الحديث)، وانقرضت مساكن العرشان والبرستج وأصبحت في ذمة التاريخ، وأخذت تنمو الدكاكين والأسواق والمخابز، ومتطلبات الحياة الحديثة، وانتشار اقتصاد السوق والقيم الاستهلاكية، والترقي الشخصي، والميل المستمر في التمايز عن الجماعة، بدلاً من الاندماج فيها تعبيراً موضوعياً عن مرحلة مجتمعية جديدة. وهذه كلها مؤشرات على تحول قيمي نحو الحداثة لا تخطئه العين.

أما الآن فإن باربار، القرية الوادعة والواعدة فيما مضى، وذات الأحياء الثلاثة التي لم يعرف أسماءها الجيلُ الحالي، وهي حلة العودة وحلة الصغيرة وفريق الغربي، وفريق الساحة الذي تأسس في بداية السبعينيات، أقول إن باربار لم تعد كما كانت من الناحية الطبوغرافية، ولا من الناحية السكانية ولا من الناحية الاجتماعية، فقد كبرت إلى حد بعيد وأصبحت ستة مجمعات/ أحياء كبيرة، وتوسعت أفقياً وعمودياً في مناطق كانت فيما مضى زراعية، وأصبحت تمثل نواة مدينة صغيرة، وقد امتلأت بأضواء المدينة، وأحلامها، ومباهجها، وحيويتها، وعلاقاتها الاجتماعية المدينية المعقدة إلى حد ما.

أما فيما يتعلق بسكان القرية، فلم تعد حكراً على أهلها، بل أصبحت تضم أعداداً كبيرة ممن جاؤوا من مناطق مختلفة من البحرين، وهذا الانفتاح أعطاها مزيداً من الحيوية في كل شيء تقريباً، حيث تعدد الأفكار والمشارب والثقافات والأصول الاجتماعية والمرجعيات الثقافية والدينية والسياسية هو السمة الغالبة.

هذه بعض جوانب ذاكرة الحداثة والتحديث في القرية، وهي جوانب بطبيعة الحال لها عواقب ونتائج قد تكون مزدوجة، إيجابية وسلبية. إلا أن الإيجابية ربما تكون هي الأكثر حضوراً على صعيد الواقع وخاصة في الجوانب المادية والثقافية بوجه عام.

إلا أن ذاكرة باربار لا تقف عند هذا الحد، بل تشمل جوانب عديدة، من بينها قضية الصحة والمرض. وفيما يتعلق بالصحة والمرض المرتبطين بالحداثة والتحديث فيمكن القول، إن الحداثة ساهمت مساهمة كبيرة في القضاء على العديد من الأمراض المزمنة والمتوطنة في القرية، من قبيل الجدري والطاعون والملاريا والرمد والقرع بأنواعه والسل والأمراض الجلدية وسوء التغذية والقمل, كما ساهمت في تحسين رعاية الطفولة وارتفاع مدى الحياة، وانخفاض وفيات الأطفال، والاهتمام بالأمومة وتنظيم النسل، ورعاية الشيخوخة، والاهتمام بالصحة الفردية، والعامة وتنظيم النسل وتربية الأبناء وإعدادهم للمستقبل، وامتداد فترة الطفولة، بالارتباط بفترة التمدرس.

وبالمقابل فإن الحداثة قد جلبت أمراضاً لم تكن معروفة في القرية، من قبيل الأمراض النفسية بأنواعها، كالاكتئاب، والقلق, والاضطرابات النفسية، والعقلية والشعور بالعزلة، والفُصام (الشزوفرانيا)، والمخدرات, والتوترات على مستوى الفرد وعلى صعيد المجتمع، وأيضاً العُصاب الفردي والجماعي، ناهيك عن ظهور أمراض اجتماعية لم تكن معهودة من قبل، مثل انتشار ظاهرة الطلاق، والتفكك الأسري، والبرود العاطفي، والسرقة، والتشرد، وظاهرة أطفال الشوارع، والفراغ الروحي، واللهاث وراء الثراء بأي ثمن، واغتراب الطفولة، واستشراء الانتهازية والوصولية، والكذب والتكاذب، وأوهام الحضارة، وأمراض الحضارة كذلك.

لكن مع ذلك تبقى باربار أرضاً مفتوحة على الحداثة والتحديث, قرية مقاومة بمفكريها ومثقفيها وأهاليها لكل ما يعيق التقدم والمستقبل وأحلام الأجيال، كما أنها تتسم بشيء من التقبل والتسامح فيما بين التيارات والآراء والأفكار المتباينة، وحتى المتناقضة، وهذه كلها من خصائص الحداثة والتحديث المبكر نسبياً، ومن نتاجهما.

إنها باربار، القرية التي انصهرت فيها الحضارات السومرية والدلمونية واليونانية والعربية الإسلامية والحديثة والمعاصرة من مختلف جهات الأرض، لتجعل من هذه القرية توليفة خاصة أشبه بالسيمفونية التي تعني أشياء كثيرة، وشيئاً واحداً في الوقت نفسه، إنها باربار التي تحتفي بالفكر والمفكرين والثقافة والمثقفين، تحتفل بالشعر والشعراء والفن والفنانين، وتستقبل كل ما هو جديد وجميل، وتتطلع دائماً إلى المستقبل المنشود الذي لم يأتِ بعد.

وفي الختام هذه ليست سوى لمحة سريعة من خلال رصد بعض مفاصل حركة الحداثة والتحديث في قرية باربار، إحدى قرى البحرين القديمة والحديثة في الوقت نفسه. القرية التي تحتضن أقدم معلم أثري (معابد باربار) جنباً إلى جنب، مع أحدث معالم الحداثة والتحديث في البحرين، وربما في العالم.

* كاتب وباحث اجتماعي

العدد 2848 - الأربعاء 23 يونيو 2010م الموافق 10 رجب 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً