العدد 2845 - الأحد 20 يونيو 2010م الموافق 07 رجب 1431هـ

المثقفون العرب والصعود التركي: الخيال والحقيقة (1-2)

عياد أحمد البطنيجي - كاتب فلسطيني، والمقال ينشر بالتعاون مع «مشروع منبر الحرية www.minbaralhurriyya 

20 يونيو 2010

في سياق الانشغال العربي على كل المستويات السياسية والنخبوية، فضلاً عن المؤسسات البحثية ووسائل الإعلام بالصعود التركي وتداعياته الإقليمية والدولية، يثار السؤال الآتي: ما هي ملامح خطاب المثقفين العرب تجاه هذا الصعود التركي وتجاه التغير الذي لحق السياسة الخارجية التركية؟.

بعد رصد ومتابعة لما كتب عن هذا الانشغال العربي في خطاب المثقفين، نستعرض في هذا المقال، ملامح هذا الخطاب وقسماته، وبعد ذلك نقدم رؤية نقدية لهذا الخطاب، بغرض الكشف عن البنية الفكرية للمثقفين العرب.

يذكر أن هذا المقال يتناول بعض القراءات للمثقفين وليس كلها، فهناك قراءات معمقة وتستحق التقدير لكنها قليلة ونادرة، وعليه فنحن هنا نقدم قراءة للصفة الغالبة لخطاب المثقفين تجاه الصعود التركي، فهذا ما يستحق الدراسة والبحث.

وفي هذا السياق، نجد من بين المثقفين من وصف تأثير الصعود التركي بأنه «خطف الأبصار وأسر القلوب»، وآخر يقول: «إن الشرق الأوسط دخل العصر التركي»، وثالث يناشد وزير خارجة تركيا إنقاذ بلاده قائلاً: «لا تتركنا يا داوود أوغلو»، لأنك «تحمل في حقيبتك أفكاراً وتمنيات وحلولاً وضمادات وعقاقير»، ورابع يرى أن ثمة «تحولات إستراتيجية مهمة في المنطقة أسهم فيها الموقف التركي»، هذه التحولات جعلت «إسرائيل خالية من أي تحالفات إقليمية للمرة الأولى منذ تأسيسها»، وخامس يقول: «أصبحت إسرائيل تسعى إلى استمالة تركيا عن طريق وساطة واشنطن» بعد أن كان العكس هو الذي يجري، وسادس: «فتركيا الخلافة ستعود بإذن الله قريباً»؛ لأن الجسد العربي صار بعد زوالها «هزيل ومهترئ»، وبعودة تركيا «الخلافة» يعود «العز والمجد». وسابع يرد التغير في الموقف التركي من الحليف الاستراتيجي «إسرائيل» إلى «صحوة ضمير المسئولين الأتراك»، هذا الموقف الأخير في غاية الغرابة، كونه يرد هذا التحول في المسائل السياسية والإستراتيجية إلى الضمير، وبالتالي يسقط من اعتباره العوامل الموضوعية سواء أكانت داخل تركيا أم في محيطها الإقليمي والدولي، ويعزل المجتمع التركي بكامله عن هذا «التحول الكبير» ويحصره فقط في ضمير المسئولين الأتراك. أي دكتاتورية ورومانسية وليس أكثر من ذلك!.

والأغرب وتحت تأثير «السحر التركي» يصف بعضهم الشعب التركي بأنه «شعبٌ من أفضل شعوب المسلمين»؛ لأنه « شعب يتميز بحميَّة إسلامية عالية، وبرُوح إيمانية رائعة». بأي مقياس قاس ذلك؟ لا نعلم. والأنكى أن هذا الموقف العنصري يأتي على لسان «رجل دين» يدعي بأنه مفكر إسلامي، ويحمل مشروعاً فكريّاً لاستنهاض أمة الإسلام، هذا المفكر يرد عودة تركيا إلى حضنها الإسلامي بغية «الدفاع عن أهل السنة ضد الأحلام الصفوية الشيعية»؛ لأنه ليس للعرب، في ظل ضعفهم، غير «الاعتماد على تركيا السنية (...) لذلك يُعَلِّق عليهم أبناء العالم الإسلامي آمالَ الوقوف أمام التغلغل الشيعي المؤَيَّد بالأنظمة الغربية». والأكثر غرابة عندما تساءل أحد المثقفين العرب: «هل توحد تركيا المشرق العربي ؟». وفي لغة مفعمة بالتمني والرغبات صور أحدهم تركيا بالقوة الرئيسية في المنطقة، وأنها ستلعب أدواراً» حيوية في كل الملفات المطروحة، على رغم انف إسرائيل ولوبياتها».

هذا على المستوى الفردي. أما على المستوى المؤسساتي، فهذه مؤسسة تمنح أردوغان جائزة العام 2010 « تقديراً للمنجزات الاستثنائية». وتلك تمنحه جائزة لـ»خدمة الإسلام «باعتباره أنموذجا» ولـ»قيامه بجهود عظيمة وبناءة». وأخرى تشيد بموقف أردوغان في مؤتمر دافوس، وتعتبر موقفه دليلاً على «زوال عصر قوة السلاح».

وفي ضوء هذه الرؤى، يتبين أن بعض العرب الذين بدأوا بملاحظة التحول في السياسة الخارجية التركية، تعاملوا تعاملاً ساذجاً ومبالغاً فيما يخص هذا التحول، والدور الموعود لتركيا، ليس الإقليمي فحسب بل والعالمي أيضاً كما يجرى تصويره. وعلى رغم أن ملامح السياسة التركية مازالت قيد التشكل، وأن قسمات المشروع التركي لم تتبلور بعد، فإن البعض أصدر أحكامه قطعية ويقينية.

والملفت للنظر أن هناك هالة كبيرة أحاطت بهذا التغير التركي، ورسم دور يفوق طاقة تركيا وقدراتها وكأنها تعمل في فراغ من دون أخذ قدراتها الفعلية وارتباطاتها الجيو- ستراتيجية، فضلاً عن إضفاء نوع من الرومانسية والبطولة والشجاعة والمرونة الفائقة عليها.،وبالتالي إحلال رغباتهم الذاتيّة محلّ الواقع، وكأننا لا نحلل هذا التحول المرتبط بدولة تتحرك في سياق إقليمي ودولي يضع عليها قيوداً بقدر ما يفتح أمامها فرصاً للتحرك، بل يتجاوز هذا «التحليل» وكأنك تقرأ لعاشقة تكتب عن عشيقها، أو عاجز ينتظر المخلص، مع العلم أن تركيا لا تملك إلا القليل من الوسائل الخاصة اللازمة لتحقيق مصالحها التي لا تتناسب مع ارتباطاتها الإستراتيجية وتطلعاتها الإقليمية.

هذا التبسيط هو هروب من الواقع وانحياز وتشويه لحقيقة هذا التغير في السياسة التركية، واستغراق في الرومانسية والخيال، بعيدا عن ارتباطات الواقع وحدود الحركة. وهذا يؤكد أن الفكر العلمي والموضوعي لم يكن جزءاً من خطاب هؤلاء، بل سيطر الفكر الرغبي، والرومانسية الفاقعة على العقلانية، والتمني على الواقع، والحلم على الحقيقة، وهو تعويض سيكولوجي عن نقص حاد يعتري هؤلاء، وتعبير عن ضيقٍ من الأوضاع القائمة المزرية، وفي الوقت نفسه يعكس حالة الفراغ التي يعاني منها النظام الإقليمي العربي. وبالتالي ثمة أزمة منهجيّة في تفكيرهم. وباعتبار أن ثمة علاقة بين المعرفة والأطر الاجتماعية، فموقف هؤلاء الفكري مرتبط بضعف وترهل وهشاشة البنى السياسية والاجتماعية والثقافية في البلاد العربية. ويؤكد موقفهم «الفكري» هذا أن الميثولوجيا (الأساطير والزيف والأوهام) تبرز في الفكر السياسي الوضعي كما في الخرافة الشعبية، مكتسياً، في كل حالة، شكلاً خاصّاً من «العقلانية» أو المعقولية، كما يقول فالح عبدالجبار في كتابه «معالم العقلانية والخرافة في الفكر السياسي العربي، (ص54). وعليه فهذه الميثولوجيا عميقة الجذور في زوايا التفكير والوعي الاجتماعي. إذ تؤكد هذه القراءات أن هؤلاء المثقفين لم يتحرروا من إسار الإيديولوجيا وأنها لاتزال فاعلة في وعيهم وتكوينهم الفكري، وبالتالي كل الحديث الذي قيل عن نهاية الإيديولوجيا هو حديث ليس له أي سند واقعي. أضف إلى ذلك أن ولاءهم السياسي لأنظمتهم كان طاغياً وعلى حساب التحليل الموضوعي المرتبط بالمصلحة القومية للعرب، وهذا يعني ضعف الفكر القومي لديهم. فمثلاً نجد معظم المثقفين السوريين مرحبين بالصعود التركي، وفي المقابل نجد أن المصريين متوجسون وتنتابهم نزعات تشكيك عميقة من الدور التركي. وهذا يعني أن مواقف هؤلاء غير مستقل عن مواقف أنظمتهم السياسية، كون أن النظام السوري رحب بهذا الدور، أما نظيره المصري فعبر عن مخاوفه العميقة من هذا الصعود. وهذا ينبئ بأن الدور التركي الصاعد قد يحدث المزيد من الانقسامات العربية - العربية.

العدد 2845 - الأحد 20 يونيو 2010م الموافق 07 رجب 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً