مثلما اختارت واشنطن، في السبعينيات من القرن الماضي لعبة «تنس الطاولة» كي تعيد المياه إلى مجاريها مع بكين، كذلك اختار الرئيس الأميركي باراك أوباما، اليوم، مناسبة عيد السنة الفارسية الجديد «النوروز» كي يوجه دعوته لإيران مبديا استعداده لطي مرحلة تاريخية من العداء طالت على الربع قرن، ووصلت قمتها قبل رحيل إدارة بوش من البيت الأبيض. لقد تعهد أوباما، في رسالته المسجلة المتلفزة، بشكل علني صريح أنه على استعداد لمعالجة «مجموعة من القضايا التي نواجهها، والسعي إلى إقامة علاقات بناءة بين الولايات المتحدة وإيران والمجتمع الدولي».
بالمقابل، لم تتهيج إيران في ردها على تلك الدعوة، وقابلتها بترحيب مشوب بشيء من البرود, جاء ذلك على لسان وزير خارجيتها منوشهر متقي حين صرح بأن حكومته تدرس «عرض الرئيس الأميركي الوارد في الرسالة بإجراء محادثات مباشرة مع القيادة في طهران، (مشيرا إلى أنه) لطيف من واشنطن أن تستغل عيد رأس السنة الفارسية لتبعث رسالة سلام كهذه إلى إيران».
أما الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد، وإمعانا في إبداء المزيد من التريث المشوب بالبرود من المبادرة الأميركية، فقد فضل أن يلزم الصمت، ويدع أحد كبار مستشاريه كي يحث «واشنطن على الاعتراف بأخطاء الماضي وإصلاحها».
في البدء لابد من الإشارة أنه وعلى الرغم من القطيعة الدبلوماسية بين البلدين، والتي تولدت في العام 1979، في أعقاب أزمة الرهائن الأميركيين ، لكن المحادثات الرسمية السرية لم تتوقف منذ ذلك الحين، ويمكن أن نشير إلى أهم محطاتها.
ففي العام 1986، إبان فترة حكم الرئيس الأميركي رونالد ريغان، وإبان قمة الخلاف الإيراني- الأميركي من جهة، واشتداد أوار الحرب الإيرانية - العراقية من جهة ثانية، أبرمت طهران صفقات سلاح سرية ضخمة مع واشنطن، رغم ادعاء الولايات المتحدة فرض حظر شديد على تزويد إيران بالسلاح. وكان ثمن الصفقة، مساهمة إيران في إطلاق سراح أميركيين احتجزتهم المقاومة اللبنانية. عرفت الصفقة حينها باسم «كونترا غيت»، حيث حولت المبالغ المتحصلة من مبيعات السلاح، سرا لصالح متمردي الكونترا الذين كانت تدعمهم الولايات المتحدة في نيكاراغوا. بقيت العلاقة عند حدود تلك الصفقة، ولم يكتب لها، نظرا لتطورات سياسية عرفتها منطقة الشرق الأوسط، أن تتطو إلى أبعد من ذلك.
وفي يونيو/حزيران 2008، وإثر تصاعد أزمة المفاعل النووي الإيراني، لم تخف واشنطن عزمها على إرسال «أحد كبار دبلوماسييها للمشاركة في المحادثات التي ستجري وقتها في جنيف بشأن البرنامج النووي الإيراني». وشارك حينها مساعد وزيرة الخارجية الأميركية وليام بيرنز مع منسق الاتحاد الأوروبي للشئون الخارجية خافيير سولانا التي مثل فيها الجانب الإيراني فيها مسئول الملف النووي الإيراني سعيد جليلي.
وقبل ذلك، وتحديدا في أبريل/ نيسان 2008، نقلت إحدى الصحف البريطانية عن مساعد سابق لوزير الخارجية الأميركي «أن دبلوماسيين سابقين وخبراء أميركيين التقوا جامعيين ومستشارين سياسيين إيرانيين في أماكن عدة مختلفة، ولكن ليس في الولايات المتحدة ولا إيران خلال الأعوام الخمسة الماضية».
لكن ما يميز هذه الدعوة الأميركية الجديدة عن سواها، كونها تتم في ظروف مستجدة اقتصادية وسياسية وإستراتيجية كثيرة من بين أهمها:
أ. اختناق الاقتصاد الأميركي، من جراء الأزمة الهيكلية الممسكة بتلابيبه والتي لم تعد محصورة في قطاع العقار والمال، بل امتدت إلى صلب الصناعة الأميركية ولبها والتي هي صناعة السيارات، الأمر الذي أضعف موقع الولايات المتحدة الدولي الاقتصادي، حيث لم يعد في وسع هذا الاقتصاد الهرم أن يقود الاقتصاد العالمي الجديد بقوانينه البالية، وانعكس ذلك، سلبا ولغير صالح واشنطن في علاقاتها الدبلوماسية مع الكثير من البلدان، بما فيها بعض البلدان الصغيرة نسبيا من مستوى إيران.
ب. تشوه الصورة الأميركية في الخارج، التي تحولت من تلك المدافعة عن الحرية والديمقراطية كما بدت في أعقاب الحرب الكونية الثانية، إلى شرطي عالمي يطارد شبحا صنعته آلة الإعلام الأميركي، وأطلقت عليه اسم «الإرهاب الدولي»، وتجسدت صورة ذلك الشرطي القبيح في ساحات متلاحقة، مثل العراق ومن قبلها أفغانستان، دون أن نستثني الموقف الأميركي من جرائم الحرب التي ترتكبها “إسرائيل” والدعم الذي تحظى به تل أبيب تحت مبررات واهية من نمط «محاربة الإرهاب الإسلامي».
ج. تشتت القوة الضاربة الأميركية الخارجية، حيث غرقت القوات الأميركية في أوحال حروب إقليمية غير محسوبة العواقب، ما تزال واشنطن تحصد ثمارها السيئة. هذه الحروب، إضافة إلى كونها قد ساهمت بشكل مباشر في إنهاك الاقتصاد الأميركي، إلا أنها بالقدر ذاته شتت السياسة الخارجية الأميركية، ومن خلفها قوتها العسكرية الضاربة، وأفقدتها القدرة على التركيز، الأمر الذي أضاع على واشنطن الاحتفاظ بمقاعد القيادة في تحالفات إقليمية مثل الناتو.
د. بروز منافسين جدد، على الصعد كافة، الاقتصادية والعسكرية والسياسية، فعلى الصعيد الاقتصادي، فهناك الاتحاد الأوروبي، والذي بدأ يبرز ككتلة اقتصادية، لم تعد تخشى إشهار خلافاتها مع واشنطن والدخول معها في صراعات حادة عند تقاسم الأسواق وخاصة الناشئة منها مثل الصين والبرازيل وروسيا، أو عند اقتناء المواد الخام، وخاصة مصادر الطاقة من بلدان كانت تحت السيطرة الأميركية المباشرة والمطلقة. أما على الصعيد السياسي، فهناك عودة روسيا من جديد كمنافس سياسي قوي وند للولايات المتحدة، بعد غياب لأكثر من ربع قرن منذ سقوط الكتلة السوفياتية. كرة الثلج السياسية الروسية هذه، قابلة للنمو من خلال اندماجها في محيطها الأوروبي الذي لم يعد يبدي أية معرضة لذلك.
إقرأ أيضا لـ "عبيدلي العبيدلي"العدد 2390 - الأحد 22 مارس 2009م الموافق 25 ربيع الاول 1430هـ