في السنوات الماضية برزت حالات جمة عن تحولات فكرية وسلوكية «عنيفة» في رموز وشرائح منتسبة للوسط الديني أو محسوبة عليه، وهو أمر أثار ولايزال يثير اهتماماً متزايداً في الساحة المحلية، وربما هذا الانشغال شغل الناس عن أولويات أخرى.

المحطة المحورية التي ينبغي أن ينطلق منها القطار هي البحث عن الأسباب والغور في تفكيك إشكالية التغيير الجذري والانتقال غير السلس إلى الطريق المعاكس الذي ينقل رجال الدين إلى جبهات أخرى على النقيض من الفكر الديني تماماً.

وربما الوقت حان كذلك لتحليل سيكولوجيا النخب والجماهير على حد سواء في التعامل مع تلك التغيرات الفجائية التي تصيب بعض المنتسبين للتيار الديني.

وحتى يمكن الركون إلى تفسير موضوعي للتحولات من الدينية إلى اللادينية يجب أن تكون مقاربتنا أوسع أفقاً من الشخصنة وتوزيع القبعات وصكوك الغفران أو نزعها من أحد، بقدر ما يمثل الموضوع من جاهز للتداول ومادة دسمة للانشغال والاشتغال.

من حيث المبدأ، ليس غريباً أن ينحو الناس منحى آخر في أفكارهم، وتغيرات الناس - كل الناس - طبيعية ما لم تصاحبها اهتزازات وارتدادات تؤثر على الوسط الاجتماعي أو تناقض الكينونة الذاتية.

ولكن أولاً: لماذا جاء أصحاب التحولات العنيفة من بوابة الدين؟ لا مجال للتباين في كون الدين أسرع طريق للنفاذ إلى قلوب الناس، ليس هذا ضرباً من التحليل وإنما حقيقة تاريخية، لأن الدين محرك فطري في كل نفس. ولذلك فان الخطاب الديني يشق طريقه لقلوب الناس. لأنه دائماً ما يقترن بهالة من القداسة.

التيار الديني في أوج قوته اليوم ومنذ أمل يمتد لعقود. والجميع مدرك لتلك الحقيقة. فلا أحد يستطيع أن يجمع آلافاً مؤلفة من الناس بظرف قياسي وبحماس إلا عامل الاستقطاب الديني الذي يستهوي الشريحة الأكبر من الشارع، فالمجتمع متدين بطبيعته فضلاً عن شعلة الثقافة الدينية المكتسبة من المحيط.

لقد كانت البحرين على الدوام الأكثر موئلاً للفكر الديني فضلاً عن كونها الأكثر عرضة للتأثر بالصحوات الدينية في المنطقة. فالبحرين كانت الحاضنة لكل الأفكار في هذه المنطقة ومن أهمها الفكر الديني، والتي تركت بصمتها في الناس وفي طريقة تفكيرهم وفضاء تأثرهم وحتى في يومياتهم. فلا غرو أن نكتشف أن المساجد والحسينيات هي أولى مؤسسات صناعة الرأي العام في البحرين وستظل في الصدارة بلا منازع.

ومنذ أواخر السبعينيات من القرن الماضي عم الخطاب الديني الساحة، ومتلأت المساجد بالمصلين ونشأت رموز دينية كانت حاضنة للشباب، وانتشرت المؤلفات الدينية وصار الحراك الديني يستهوي شرائح المجتمع على بكرة أبيها.

الكثير من الشباب المتحمس للتدين كان الدين يمثل لهم عامل الدفاع الأول في وجه الاحتقان السياسي الداخلي. فمن يريد أن ينخرط في العمل السياسي الجماهيري لابد أن يدخل الوسط الديني. وبلغ ذروة الحماس للأطروحة الدينية مع انتصار الثورة الإسلامية في إيران وظل مسيطراً حتى الآن رغم حالات المد والجزر، والخبو والاتقاد في فترات مختلفة.

وبلاشك فإن انتصار الثورة الإسلامية في إيران قد ضاعف الحماس في الشارع تجاه الدين بوصفه صاحب الحاكمية على كل الشئون. وهذه الفترة كانت الفترة الذهبية لكل صاحب حلم في التأثير على الساحة.

في تلك الفترة تحديداً تضاعف عدد الأفواج الشابة المتجهة طلباً للدراسة في الحوزات الدينية وفي مقدمتها حوزة قم، بعدما تم تضييق الخناق على حوزة النجف من قبل النظام العراقي السابق.

الكثيرون اختاروا الدخول في سلك الدراسة الدينية أما عن إعجاب كبير بشخصية الإمام الخميني الذي دشن عصر الصحوة الإسلامية، كما أن هناك من رأى أن الانتماء إلى الوسط الديني كفيل بأخذ نصيب الأسد من الحظوة الاجتماعية وقيادة المسيرات ورفع الميكروفونات وتحقيق الذات في عشق الزعامة، ومن هؤلاء من انقادت له الناس وشقت له العنان ومنهم من لم ينل نصيباً من الشارع ومنهم من بزغ نجمه لكن سرعان ما أفل ومنهم من خبّأ في قرارة نفسه قراراً بالعودة عن الانتماء للوسط الديني، وهؤلاء المعنيون بدائرة الاهتمام.

ولا يمكن الزعم أن تحولات رجال الدين أضحت ظاهرة، ولكنها حالات في تزايد مستمر. وهذه الحالات تحتاج إلى دراسة متعمقة. والدارس لهذه الظاهرة أو أية ظاهرة أخرى يجب أن لا يغلق باب الاحتمالات جميعها.

وهناك ثمة سؤال محوري: هل يمثل رجل الدين نفسه أم يمثل أطروحة دينية وفكراً إيدولوجياً؟ وقد يمثل وسطاً اجتماعياً وخطاً سياسياً أيضاً، ومن ثم: هل أن المتحولين في الوسط الديني لديهم إيمان عميق بهذا التحول أم أن هذا التحول المفاجئ له أسبابه الخفية الكامنة؟

قد تحمل بعض التحولات في مضمونها ردة فعل خفية ولكنها قاسية على المجتمع، هذا المجتمع بوصفه الفضاء الواسع: السلطة، قوى التأثير، المؤسسة الدينية، الجماهير العريضة التي ينتمي إليها رجل الشارع عن وعي تارة أو انخراط في العقل الجمعي.

ولكن لماذا تقترن الحساسية الشديدة بإطار التحول الديني؟ فهل أن التحول من الإطار الديني أمر مسموح به كأي تحول آخر يصادف حياة أي فئة من فئات المجتمع؟ ولنا أن ندرك بسهولة أن المجتمع الديني يرفض بقوة التحولات العنيفة وحتى الهادئة لرجال الدين. لأن المنظور الجماهيري في الحكم على تلك التحولات هو من باب «أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير».

وهنا يجب أن ينصب الاهتمام في النقاش على مساحة «خصوصية الجماعة»، إذ ترى الجماهير العريضة أن تلك الخصوصية التي وهبت القدسية لرجل الدين سابقاً من حقها أن تقارعه بعنف حين يغرد بعيداً عن مزاجها العام، وهو أمر فطري في كل الجماعات.

وفي كل الأحوال لا يمكن مطلقاً تصديق الفرضية القائلة بأن التحول الدراماتيكي الذي يصيب رجال الدين فينقلهم من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار تحول فجائي، فلابد أن تكون لهذا التحول جذوره المترسبة والتي لم تكن الأيام كفيلة بالإفصاح عنها.

وأسباب التحول عديدة، ذاتية ونفسية واجتماعية، ومن الواضح أن حب السلطة أو الثروة أو كليهما معاً قد يكون دافعاً أساسياً في التحولات كما كان هدفاً في الدخول إلى «الحضيرة الدينية»، فالزي الديني طريق سريع وفعال للوصول إلى مآرب أخرى وامتيازات عديدة لا يستطيع الوسط الديني التقليدي توفيرها لمنتسبيه. فالبعض لا يطيق حياة الزهد التي يفترض أن يعيشها المنتسبون أو اللصيقون بالوسط الديني.

والبشع في كل القضية هو استغلال الدين، أن يكون الدين جسراً سالكاً نحو تحقيق الغايات على حساب استقلالية الفكر الديني وربما استغلال آلام الناس لركوب الموجة. وهو استغلال بشع، قبيح لكنه ليس جديداً.

ودائماً ما وجدت السلطات عبر التاريخ في المظهر الديني غاية المنال في بسط النفوذ وحتى التستر على الاستئثار، لذلك كانت كل السلطات تحرص على الطابع الديني لإضافة بعد القداسة للممارسة السياسية وحتى التغطية على الاستئثار.

ولكن نزعة التملك والنجومية والسلطة على أهميتها ليست السبب الوحيد في تلك التحولات، فهناك ثمة أسباب أخرى للمتحوِّل ولمجتمع المتحوِّل نصيب منها. فقد تتعارض معايير الجماهير مع معايير رجل الدين، وتكبر الهوة الفاصلة يوماً بيوم حتى تبلغ العلاقة بين رجل الدين ومجتمعه مرحلة الطلاق الفكري والنفسي والثقافي.

من الخطأ الجسيم مصادرات خيارات الناس في التحول إلى حيث يريدون. وليس من الحكمة التعريض بأحد أو توبيخه على خياره الجديد إذا كان خياراً شخصياً صرفاً. ولكن كل ما في الأمر أن هناك ثمة ظاهرة تواجه الوسط الديني وتسترعي دراستها بتأنٍ ودون تشنج في إطار أبعد من الشخصنة والتجرؤ الذي وصل إلى مرحلة اقتحام الخصوصيات.

مهما اختلفنا يبقى أن للزي الديني له سحر خاص والمظهر الديني له جاذبية خاصة, ولكن الخطورة تكمن في أن العوام تنقاد للخواص في صوابها وخطئها، في وعيها وفي مغامراتها وربما في تحولاتها أيضاً!

من حق الناس أن تتغير، ولكن لا يصح أن يكون التحول نفعياً أو استغلالياً. وحتى في بطن التاريخ نجد أن الكثير من «واجهات السلك الديني» كانت في صدارة المواجهين للأديان والرسالات، وكانوا يقفون في المعسكر المقابل للحقيقة ودفع المجتمع ثمن استغلالهم للدين.

حكمة من وحي التاريخ

يقول علي شريعتي في كتابه «دين ضد الدين»: «(بلعم بن باعورة) لم يكن ملحداً بل كان كبير الزُّهاد وكان «كعبة المتدينين»... ولكنه كان أول المتصدين لدعوة موسى النبي»