في الحلقة ما قبل الأخيرة، تتفتّق للقارئ حقائق مُذهلة حول الآثار الماكرو - اقتصادية للحرب، سواء في العراق أو أفغانستان. وهي كما سنرى ستمثّل التحكيم العلمي للتكاليف. وهي في نهاية الأمر إحدى أهم التحديات العلمية لمشروع المحافظين الجُدد في الولايات المتحدة والذين عرّبوا للحرب على العراق.
يَعتَبِر ستيغلتز/ بيلمز موضوع النفط كأحد أهم محددات القراءة الماكرو - اقتصادية لحرب العراق بسبب سطوته على العجز في الميزان التجاري وضغوط التضخّم ورفع معدلات الفائدة الأمر الذي يُؤدّي إلى تراجع الاستثمار والانفاق الاستهلاكي وتدهور أسعار الأسهم. حينها تصبح الحكومات المُستَورِدَة للنفط أمام معادلة صعبة: إنفاق مبالغ ضخمة على الاستيراد، مع تسديد قيمة الفائدة على ديون غير مدفوعة.
يُؤكّد الباحثان على ضرورة تصحيح معلومة جدّ مهمة. وهي أن الاقتصاد الأميركي قائم على الحروب، إنها فرضية أشبه بـ «الخرافة». عندما تتحقّق معادلة «عدم كفاية الطلب» القائم على «ما يستطيع الاقتصاد إنتاجه لو وُظّف الجميع بكامل طاقتهم، الأمر الذي يفوق طاقة الناس في الشّراء» يُصبح الأمر مختلفاً كما جرى خلال الحرب العالمية. وبالتالي فهما لا يُقرّران (الباحثان) فقط «خرافيّة» ذلك القول، وإنما يطرحان تساؤلاً حاصلاً بالضرورة: إلى أيّ حد أضعفت الحرب الاقتصاد الأميركي؟
إذا افترضنا أن سعر البرميل الواحد زادَ بمقدار 5 دولارات نتيجة الحرب (وهو بالتأكيد أكثر) فإن تكاليف تلك الزيادة تصبح مُروّعة. فالولايات المتحدة تستورد في العام الواحد خمسة مليارات برميل. وإذا ما تمّ ضرب هذه الكميّة في الدولارت الخمسة، فهذا يعني أن الإنفاق الإضافي سيصل إلى 25 مليار دولار. وبحسب الزيادة الفعليّة للأسعار فإن البرميل وصل في منتصف العام 2008 إلى 150 دولاراً، وهو ما يعني زيادة وقدرها 120 دولاراً. وهو ما يعني أن هناك 600 مليار دولار إضافية على الحساب. نتحدث عن هذه الزيادة في بحر عام واحد.
هذه الزيادات المبذولة على النفط كانت وجهتها الصحيحة هي تدعيم سلع الداخل بغرض زيادة الأرباح، وتقوية السوق الداخلية. هنا يطرح المؤلِّفان معادلة تحت عنوان «مُضاعِف الاستيراد النفطي». وهو المدى الذي يُترجَم ضمنه أيّ تبدّل في مستوردات النفط إلى تغيُّر في الناتج الكُلّي. وحسب وصف ستيغلتز/ بيلمز فإن أيّ مضاعِف أكبر من واحد يعني هبوطاً قدره 25 مليار دولار في الطلب على السلع الأميركية وهذا ما يُولّد بدوره تناقصاً في الناتج القومي أكبر من ذلك القدر.
وبحسب تلك المعادلة فإن التقديرات المعياريّة للمُضاعِف هي بحدود 1.5، وفي الحسابات البحثيّة يفترض حدوث هبوط في إجمالي الناتج المحلّي قدره: 25 مليار دولار مضروباً 1.5 أي 37.5 مليار دولار ولسبع سنوات ليكون المجموع 263 مليار دولار. في المحصّلة يمكن الوصول من خلال ذلك إلى الآثار العموميّة أو كما يُسمّى بـ المُضاعِف العُمومي، أو التوازن العام العالمي.
لقد أدّى التورّط الأميركي في العراق إلى تهالك معادلة «مُضاعِف الإنفاق». فحين تنفق مليار دولار، تزيد الناتج القومي بالتماثل المبذول. أما الإنفاق الأعوج أو ما يُسمَّى «الإزاحة خارجاً» فهو في مساره الأعم مُضرّ للاقتصاد تراكمياً. فالتأثير (إن حصل) فإنه يأتي على شكل صدىً غير مسموع. بعكس التداعيات المباشرة التي جعلت من سوق الأسهم المالية الأميركية تخسر بعد بداية الحرب أزيد من 4 تريليونات من الدولارات.
بنهاية العام 2008 ازدادت مديونية الولايات المتحدة نتيجة النّزاعيْن العراقي والأفغاني 900 مليار دولار. وبعد سبعة أعوام ستكون مديونية الولايات المتحدة نتيجة ذلك تريليوني دولار. ضمن مسار «الإزاحة خارجاً» يفترض الباحثان أنه ومن أصل 1.6 تريليون دولار من النفقات العسكرية سيخصّصَ مبلغ 800 مليار دولار للاستثمار الداخلي، ليكون عائدها 7 في المئة، فيزداد الناتج الأميركي 56 مليار دولار سنوياً، وسيزداد دخل الأسرَة الأميركية 500 دولار.
في المحصّلة ضمن هذا النظام الحسابي، وطبقاً لأحد خيارَي البحث (الفُضلَى/ المعتدل) فإن تكلفة هذه المغامرة الأميركية «الحمقاء» هي 4 تريليونات دولار. وربما نُدرك الآن أن الأزمة الاقتصادية العالمية والتي بدأت شرارتها في الولايات المتحدة، لم تكن بعيدة عن هذه التداعيات. وربما كانت هي العامل الأساس في تصدّع الاقتصاد الأميركي، الذي عادة مُثقَلاً بهكذا ضغوط لا ترحم.
إن الحرب الأميركية على العراق بيّنت بأن أهدافها لم تتحقق. ليس ذلك فقط، وإنما تعطلت بسببها عجلات اقتصادية وسياسية كانت تعمل ولو بشكل بطيء. لقد بدا العراق المُختل وظيفياً أنه بقعة أرض تتّجه إلى الخراب. قبل الحرب كانت ظروفه قاسية وصعبة، وبعدها أصبحت ظروفه مستحيلة. مع حلول شهر سبتمبر/ أيلول من العام 2007 كان 4.7 ملايين عراقي (واحد من أصل سبعة) قد اضطروا لمغادرة منازلهم. وهي أضخم هجرة قسرية لشعب في الشرق الأوسط منذ نكبة فلسطين في العام 1948م.
كانت ظروف الهجرتَيْن (الداخلية والخارجية) قاسية. وكانت دول جوار العراق مُثقلة بمشاكل اقتصادية، الأمر الذي جعل الهجرة إليها تزيد من أعبائها الاقتصادية والاجتماعية. في حالة الأردن مثلاً فإن هذا البلد كان يحتاج إلى مليار دولار لكي يستوفي النفقات المبذولة على المهاجرين العراقيين، في حين أن المفوضيّة لا تتجاوز مخصصاتها لذلك سوى 123 مليون دولار. هذا الأمر تكرّر في اليمن ومصر وسورية أيضاً.
في الوقت الذي يتمّ فيه الحديث عن القتلى والجرحى في صفوف الجيش الأميركي، لا يلقى القتلى العراقيون أدنى بالاً من أحد، رغم أنهم الأكثر تماساً في الميدان ويُزَجُّ بهم في المعارك حماية لحياة الجنود الأميركيين لتقليل الخسائر في صفوفهم، رغم أن جردة تكلفتهم (بحسب المفهوم الأميركي المتعالي) أقلّ من الجنود الأميركيين. لذا فإن الباحثيْن يفترضان مساواة بين التكلفتين لكي يخرجوا بخلاصة حسابية تقول: بأن تكلفة قتلى الجنود العراقيين هي 172.4 مليار دولار. ومع إضافة الجرحى يقفز الرقم إلى 69 مليار دولار.
إن هذه الأرقام تتعلّق بقتلى المؤسسة العسكرية العراقية، لكن الأرقام الأخرى والتي تحصر أعداد المدنيين هي مهولة. وهي تلك المتعلقة بعمليات الخطف اليومي والقتل الطائفي وجرّاء العبوات الناسفة. يُضاف إلى كلّ ذلك هو طريقة المعالجات المفترضة لمثل هذه المأساة، وخصوصاً أن العراق بات يعمل بنصف أطبائه بعد الحرب. وإذا ما تمّت الجردة على ذات المنهج المتّبع فإن الكلفة للقتلى العراقيين المدنيين تصل إلى ثمانية تريليونات من الدولارات! بمعنى أن التكلفة ستزداد عن ثلاثة تريليونات دولار إذا ما أضيفت إليها فاتورة العراق. فدماء الأميركان ليست زرقاء كي تتمّ ممايزتهم عن غيرهم بالتفضيل. كلّ هذه الأمور تعطي انطباع أن الفاتورة الإجمالية قد لا تنتهي أبداً. وهي ككرة الثلج يتضخّم حجمها كلما أخذها المنحدر صوب الوادي. وقد لا يعلم أحد (إلاّ الله) كم وكم سيجني العالَم جرّاء ذلك القرار المجنون الذي تعمّدَت به ولايتا جورج بوش الإبن الرئاسيتان. (للحديث صلة).
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 2842 - الخميس 17 يونيو 2010م الموافق 04 رجب 1431هـ