العدد 2841 - الأربعاء 16 يونيو 2010م الموافق 03 رجب 1431هـ

باربار في قلب الحداثة (1 - 2)

لا يوجد تاريخ محدد لولادتي، حيث لا شهادات ميلاد، ولم تلدني أمي في المستشفى، بل على يد القابلة مدينة بنت مهدي. أما تاريخ ولادتي كما ذكرت أمي فهو مرتبط بحدث مهم هو حسب تعبيرها وقعة عبدالكريم قاسم، وتقصد بذلك ثورة 14 تموز (يوليو) 1958 في العراق، وتقول: بعد هذه الوقعة بخمسة شهور, جئت إلى هذه الحياة، أي في ديسمبر/ كانون الأول من السنة نفسها.

وأيضا لا أتذكر من طفولتي المبكرة أي شيء، خاصة السنوات الثلاث الأولى، وتبدأ الذاكرة بوضوح منذ السنة الرابعة، وترتبط هذه الذاكرة عندي بأهم حدث في تاريخ القرية، وقع في العام 1962، وهو إقامة احتفال جماهيري بمناسبة افتتاح الكهرباء، وكان يوماً مشهوداً في تاريخ القرية، وزعت فيه المرطبات، وتليت الأشعار والكلمات، وعلقت الزينات والأنوار احتفالاً بهذا الحدث المهم، الذي غيّر حياة القرية رأساً على عقب، وكنتُ احدَ الأطفال الذين حضروا هذه المناسبة.

أما قبل هذا التاريخ فالذاكرة تكاد تكون صفراً، اللهم إلا بقايا صور غير واضحة المعالم، تتراقص بين الحلم والواقع، دون أن ترسو على أي منهما. لذلك فإن ذاكرتي الشخصية يمكن أن تصنف إلى: ما قبل حدث الكهرباء، وهي ذاكرة هباء، وما بعده، مروراً بالأحداث المتعاقبة، وصولاً إلى الوقت الراهن، وهي ممكنة الاستذكار والترتيب الزمني.

مناسبة هذا الكلام, ليس الحديث عن الذاكرة الشخصية أو ما تبقى منها، بل الحديث عن شيء آخر، عن ذاكرة من نوع مختلف، عن ذاكرة القرية، أعني قرية باربار، عن شيء من ذاكرتها، ومفاصل هذه الذاكرة سحابة القرن العشرين.هذه القرية التي مازالت تحمل اسمها السومري منذ عهد حضارة دلمون منذ 2500 عام قبل الميلاد حتى الآن.

الذاكرة الشخصية، شيء فردي، أما ذاكرة القرية فهي شيء آخر ومختلف تماماً. فبالنسبة إلى ذاكرة القرية فإن الأمر يتعلق بالتاريخ والوعي الجمعيين، ذلك أن ذاكرة ما قبل افتتاح الكهرباء على صعيد القرية وإنْ كانت غائمة، إلا أنها ممتدة في عمق الزمن، كما أنها معروفة على الأقل من خلال الرواية الشفهية، والتوثيق الكتابي أو أي نوع من التوثيق. يضاف إلى ذلك، رواية الذاكرة الجمعية المتعاقبة، عبر الأجيال. وتلك الذاكرة التي جاءت مع الكهرباء وتلتها هي أيضاً معروفة باعتبارها أحدث زمنياً، وهي ذاكرة في كل الأحوال تخص الجماعة، وتاريخ الجماعة، دون الأشخاص، وحضورها اللاحق وإمكانيات تذكرها واستيعابها تكون أكبر بسبب جمعيتها، وتناقلها عبر الأجيال المتتالية.

لذلك فإن ما نبتغيه هنا، إنما هو التعرف على ذاكرة القرية في شقها الحديث والحداثي بصيغته الجمعية والجماعية، وليس ذاكرتي أنا أو هو.

وعلى ضوء ذلك يمكن القول إن القرية لم تبدأ حداثتها بحدث افتتاح الكهرباء - على أهمية ذلك - فقد كانت مظاهر وأسباب الحداثة والتحديث أسبق في دخولها إلى عوالم القرية من الكهرباء، بعقود من الزمن.

نعم، لقد دَبّ التغيير بمعناه الحديث في قرية باربار منذ سنوات أسبق بكثير من دخول الكهرباء، فعلى سبيل المثال: التحق أبناء القرية بالتعليم الحديث منذ 1937 في مدرسة البديع، وهي لحظة مهمة في حركة الحداثة في القرية إذا ما اعتبرنا أن حركة التمدرس الحديثة تعني أيضاً لحظة نشوء فئة المثقفين بالمعنى الحديث في تاريخ القرية، وبدء التمايز بين المثقف الحديث (العلماني) والمثقف القديم/ الديني.

كما التحقت أول مجموعة من أبناء القرية بشركة نفط البحرين (الجبل) حوالي هذا الوقت، لتمثل بذوراً جنينية لطبقة عاملة بالمعنى الحديث في القرية، متحررة من نظام السخرة القديم في الزراعة والغوص، وكعلامة على بدء ولادة عالم جديد، وبدء اضمحلال عالم قديم، وفي الزمن نفسه، أو أسبق بقليل، استمع الأهالي إلى المذياع حوالي منتصف عشرينيات القرن الماضي، وعرفت القرية الآبار الارتوازية لأول مرة في تاريخها حوالي 1925.

وهي القرية التي تقدم بعض وجهائها بالاشتراك مع وجهاء آخرين من مناطق مختلفة من البحرين إلى المستشار البريطاني بلغريف حوالي سنة 1934 بمطالب سياسية، من قبيل إنشاء قوانين حديثة، والتمثيل في المجلس البلدي والعرفي بما يتناسب وحجم الطائفة الشيعية حينذاك، والمشاركة في مجلس التعليم، (وعي سياسي مطلبي حداثي مبكر جداً)، وكذلك هي القرية التي قاوم أهلوها المستعمر البريطاني دفاعاً عن الشيخ خلف العصفور في منتصف العشرينيات من القرن الماضي، عندما حاول الاستعمار نفيه أول مرة، ثم في المرة الثانية، حيث كانت القرية إحدى مناطق سكناه، ونشاطه الديني/ السياسي.

وفي السياق نفسه، طالما أن الأمر يتعلق بشخصية دينية مهمة جداً بوزن الشيخ خلف العصفور في ارتباطه بالقرية وتحولاتها المجتمعية والثقافية، يمكن القول إن التحديث شمل الجوانب الدينية كذلك، وقد تجلى ذلك في التحول التدريجي لأهالي القرية، من التيار الإخباري إلى التيار الأصولي في الفقه الجعفري، وما يعنيه ذلك التحول في الرؤية والرؤيا لدى الأهالي من أهمية تاريخية، وخاصة ابتداءً من سبعينيات القرن الماضي، وهو التحول الذي بلغ ذروته مع الثورة الإيرانية، وتأثيرات السيد محمد حسين فضل الله الفقهية والفكرية/ الثقافية بوجه عام، وفي أوساط الشباب بوجه خاص، وطروحاته وفتاواه المتقدمة بالقياس لكثير من رجال الدين.

أما فيما يتعلق بالفكر الحداثي، فيمكن التأكيد على أن التفكير التنويري عموماً والاشتراكي خصوصاً بصيغته العلمانية في وجهها الماركسي، قد وجد في هذه القرية تربة صالحة لنموه أبكر من التحولات الدينية، ثقافة وممارسة، منذ اللحظات الأولى التي برز فيها هذا الفكر على صعيد البحرين، ابتداءً من منتصف الخمسينيات من القرن الماضي.

وارتباطاً بهذا الفكر شهدت باربار أول احتفال سري/ علني بيوم العمال العالمي في إحدى مزارعها، وقد جاء العمال من مختلف مناطق البحرين للاحتفال بيومهم العتيد وبعيداً عن عيون الرقيب، وكذلك نمو بواكير العمل الحزبي والنقابي، كما كانت هذه القرية سباقة إلى الانخراط في حركة هيئة الاتحاد الوطني 1954 - 1956 وزيارة أحد قادة الهيئة (عبدعلي العليوات) للقرية يعرض عليهم مطالبها ويطلب تسمية ممثل عن القرية في اجتماعاتها، حيث لاقى ترحيباً، وتلا ذلك انضمام بعض الأهالي إلى اتحاد العمال، المنبثق عن الهيئة، وكذلك عضوية الهيئة التنفيذية العليا لهيئة الاتحاد الوطني.

وفيما يتعلق بالتفاعل والانفتاح على ثقافات الآخر، حسبنا أن نشير هنا إلى ذلك التفاعل الذي حدث بين أول بعثة دنماركية للتنقيب عن آثار باربار في العام 1953 وأهالي القرية من العاملين مع البعثة وغير العاملين، حيث كان أفراد البعثة من رجال ونساء على علاقة مع أهالي القرية في اكتشاف متبادل بين الطرفين، وقبول مشترك، كل منهما لثقافة الآخر.

والأهالي من النساء والرجال على حد سواء يتذكرون جيداً عالم الآثار والمستشرق البريطاني جيوفري بيبي الذي قال عنهم في كتابه (البحث عن دلمون) إن أهالي باربار قُدوا من الصخر، ويقصد بذلك قدرتهم العجيبة على العمل والمثابرة، حيث خبرهم في مواقع التنقيب الأثرية لأكثر من عقدين من الزمن، وكذلك تعرفهم على شخصيات آثارية أخرى مثل هلين وهلموت وبيتر غلوب وغيرهم من العاملين في البعثات المتعاقبة على معابد باربار، وغيرها كثير من المواقف والأحداث الدالة على قبول الآخر المختلف والانفتاح عليه، ونزعة التسامح النسبي.

وابتداءً بالخمسينيات شهدت القرية عملية تنظيم وتوزيع المياه، حيث تم تدشين عين ارتوازية لتلبية احتياجات القرية من المياه، من خلال حملة منظمة من قبل أهالي القرية وقياداتها المدنية لتحقيق هذا المطلب، وبعيداً عن ضغوط ملاك الأراضي والمزارع وابتزازهم للأهالي، وأطلق على هذه البئر عين البلابل. وقد تم ذلك بفضل جهود أهالي القرية ووعيهم بضرورة تنظيم توزيع المياه والرغبة في تحرير الأهالي من أصحاب المزارع والحقول. ولم يأتِ منتصف الستينيات إلا وأصبحت معظم بيوت القرية مزودة بتمديدات الماء.

وفي تيار الحداثة ذاته كانت باربار على موعد مع تأسيس أول نادٍ ثقافي رياضي في تاريخها الحديث حين قامت مجموعة من الشباب المتعلم والمتنور بتحقيق هذا الحلم في العام 1964، وذلك بعد محاولات تأسيسية سابقة لتجمعات رياضية وثقافية شبابية منذ مطلع الخمسينيات، ليدشن هذا النادي مرحلة جديدة من بواكير مؤسسات مجتمع مدني قائم على أسس حديثة يلتقي فيه الأعضاء وغير الأعضاء، وبملء إرادتهم، يناقشون فيه قضايا مجتمعهم المحلي بشكل خاص، والمجتمع البحريني بوجه عام، هذا فضلاً عن تدشين فنون حديثة لم تعهدها القرية من قبل، مثل المسرح الذي ازدهر في القرية مقروناً بالنادي، لكنه من الناحية التاريخية بدأ باستلهام معركة كربلاء واستشهاد الإمام الحسين، منذ مطلع الستينيات وحتى منتصف السبعينيات، من خلال تمثيل هذه المعركة في ليلة الثالث عشر من المحرم في مكان مخصص لذلك كمسرح مفتوح، يطلق عليه عزاء بني أسد، حيث يقوم بعض شباب القرية بأداء أدوار شخصيات واقعة كربلاء، ولكنه مسرح بكل معنى الكلمة الدقيق، على الرغم من الأسلوب الارتحالي في التمثيل.

والشيء الجدير بالإشارة هنا، وتدليلاً على روح الحداثة التي أخذت تنتشر في مفاصل القرية, أنْ أدخلَ بعض المآتم ضمن موكب العزاء فرقة موسيقية مكونة من آلات نحاسية وطبول، على امتداد النصف الأول من السبعينيات من القرن الماضي.هذا فضلاً عن الحفلات الموسيقية والغنائية التي كانت تقام في الأعراس، ويدعى لها مغنون وموسيقيون من خارج القرية، وفي بعض الأحيان يقوم بذلك بعض شباب القرية، في حال تعذر وجود فرقة غنائية أو موسيقية.

يضاف إلى ذلك تأسيس مكتبة ثقافية للعموم مرتبطة بالنادي، وتعرف الجمهور من خلالها على الصحف والمجلات السيارة وقتذاك محلياً وعربياً («الهلال» و «العربي» و «روز اليوسف» و «آخر ساعة» مثلاً)، وإقامة المعارض التشكيلية، والمشاركة فيها على مستوى البحرين، وتشكيل فرق المسابقات الثقافية، وتمثيل البحرين في أكثر من مسابقة ثقافية على مستوى دول مجلس التعاون، والاحتفاء بالمناسبات الثقافية والفنية من قبيل يوم المسرح العالمي ويوم الموسيقى العالمي، وكذلك ملازمة كثير من شباب القرية حينذاك لدور السينما ومتابعة الأفلام، أي نمو الوعي السينمائي المبكر لدى الأهالي.

* كاتب وباحث اجتماعي

العدد 2841 - الأربعاء 16 يونيو 2010م الموافق 03 رجب 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً