العدد 2840 - الثلثاء 15 يونيو 2010م الموافق 02 رجب 1431هـ

عاصمة الاتحاد مهددة بالانفصال

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

عاصمة الاتحاد مهددة بالانفصال. هذا هو الوضع السياسي الذي أسفرت عنه الانتخابات التشريعية في بلجيكا. فالنتائج أعطت حزب «التحالف الفلمنكي الجديد» بزعامة بارت دي فيغر 27 مقعداً، وأعطت الحزب الاشتراكي بزعامة ايليو دي روبو 39 مقعداً من أصل 150.

المشكلة ليست في الحسابات العددية. ومن هو الأكثر والأقل. المشكلة في القراءات العينية للتوازن العرقي - اللغوي الذي يتوزع على الأقاليم الجغرافية ويعكس تطلعات كل مجموعة قومية - لغوية في الدائرة الضيقة التي تشكل فيها غالبية.

توزيع المقاعد انشطر بين أكثرية وأقلية في الأقاليم ما أدى إلى نمو التيار الداعي للانفصال في مناطق على حساب تراجع التيار المطالب بالمحافظة على وحدة الدولة. والتوزيع المتفاوت بين الأقاليم يشكل للملك البلجيكي البير الثاني عقبة يصعب تجاوزها في حال تمسكت الأحزاب في مواقفها المتعارضة التي تهدد الدولة بالاضمحلال عن خريطة أوروبا السياسية.

الحزب الفلمنكي طالب قبل الانتخابات التشريعية باستقلال إقليم الفلاندر (الناطق بالهولندية) في الشمال عن الدولة وتحويل بلجيكا إلى «كونفدرالية» تمكن المناطق من الاعتماد كلياً على نفسها حتى تستطيع التطور إلى دول مستقلة في المستقبل.

في المقابل هناك إقليم والونيا في جنوب بلجيكا يطالب بتحسين الضمانات الاجتماعية وتوفير فرص العمل والحدّ من البطالة التي بلغت أكثر من ضعفي النسب في إقليم فلاندر الشمالي الهولندي وهو الأغنى قياساً بغيره.

المشكلة إذاً متداخلة في عناصرها وعواملها ودوافعها. فهناك أزمة خلاف مناطقي (شمال ضد جنوب)، وأزمة تفاوت في النمو الاجتماعي (شمال غني وجنوب أقل رفاهية)، وأزمة لغة (هولندية وفرنسية)، وأزمة عرقية (فلامنك وفرانكفون)، وأزمة أقاليم وصلاحيات محلية (فلاندر شمالي - والونيا جنوبي).

هذا التداخل المناطقي، الإقليمي، الاجتماعي، اللغوي، والعرقي بين الفلمنكيين والفرنكوفونيين أدى إلى نمو نزعة الانفصال عند المجموعة الهولندية مقابل رفض المجموعة الفرنكوفونية فكرة الكونفيدرالية لأنها تهدد الدولة بالتلاشي والاضمحلال.

تصاعد الخلافات بين الناطقين بالهولندية والفرنسية يؤشر إلى أن معضلة الانفصال وتداخلها مع الأزمة الاجتماعية - الاقتصادية وانعطافها على اللغة والعرق والإقليم والأكثرية والأقلية ليست وقفاً على دول العالم الثالث المتخلفة أو النامية أو القاصرة سياسياً أو تلك التي تتحكم بها سلطة فردية مستبدة. فالمعضلة كما يبدو أصبحت كونية وهي أخذت تتفشى في الدول المحترمة سياسياً والمعتبرة اقتصادياً والمتقدمة اجتماعياً. وبلجيكا في هذا القياس تحتل موقعاً متميزاً في دول القارة الأوروبية لا بوصفها عاصمة الاتحاد (بروكسيل) وإنما لكونها تشكل ذلك النموذج الخاص للدلالة على التعايش والتساكن والائتلاف والتسامح.

هذا التشابه الكوني في أزمات الأقليات والأكثريات لا يعني بالضرورة أن هناك تطابقاً في التفصيلات. فالاختلاف كبير بين ما يحصل من مجازر في قرغيزستان (117 قتيلاً و1485 جريحاً وتشريد 30 ألفاً من الأوزبك) وما يحتمل أن يحصل من تجاذبات سياسية بين الفلمنكيين والفرنكوفونيين في بلجيكا. والفارق في التعامل بين المجموعتين اللغويتين - العرقيتين لا يلغي وجود تقاطعات في جوهر الأزمة وهي تتخلص بنمو ظاهرة الانفصال لدى الأقليات الأوروبية.

النزعة الانفصالية (الاستقلالية) التي أخذت تنمو في بعض جيوب الدول - القومية في أوروبا في مرحلة تتجه القارة إلى صيغة اتحادية تتجاوز الحدود الجغرافية والحواجز الجمركية تعكس في نهاية المطاف وجود أزمة هوية تتصل بوجود خيار جديد للأقليات يعطي حق الانفصال عن الدولة القومية والانتماء مباشرة إلى «الاتحاد الأوروبي» من دون وسيط. وهذا الخيار السياسي الذي أخذ يتبلور منذ ثمانينات القرن الماضي أعطى ذريعة للمجموعات العرقية أو اللغوية أو الإقليمية في بريطانيا (سكوتلندا وايرلندا وويلز) وفرنسا (كورسيكا) وإسبانيا (الباسك) أن تطالب بانفصالها أو استقلالها من دون حاجة للمرور بالدولة القومية.

المعطى القاري ساهم في تشكيل مظلات سياسية للأقليات للنمو والعبور وتجاوز صيغة الدولة القومية والذهاب مباشرة للالتحاق بالنموذج الاتحادي بوصفه يمثل الغطاء الشرعي لحماية الهوية المحلية من الاندماج بالأكثرية. وامتناع الأقليات الأوروبية عن التخلي عن تلك الخصائص التاريخية (اللغة، اللون، الثقافة، الدين) يتشابه في جوهره مع تلك العناصر الأهلية التي تتمسك المجموعات القومية - القبلية بهوياتها الخاصة كما هو حاصل في قرغيزستان وكازاخستان وطاجيكستان وأوزبكستان وأذربيجان وتركمنستان إضافة إلى البشتون والبلوش والطاجيك في أفغانستان والأكراد في العراق والأرمن في أرمينيا.

هذا التشابه لا يعني التطابق في التفصيلات ولكنه يرسل صورة عن نمو هويات صغيرة أخذت تتشكل في عالم يتسارع باتجاه العولمة من دون انتباه لوجود أنماط من العلاقات تنتمي إلى عصر ما قبل الدولة القومية المعاصرة. فهذه الهويات (القبائل، العرقيات، المجموعات اللونية أو اللغوية) كانت محاصرة سياسياً في المرحلة القومية وهي الآن تحاول أن تنطلق من الدوائر الإقليمية الضيقة في مرحلة كونية يشهد العالم فيها موجة تتجاوز الحدود الإطارية (الجغرافية) التي تشكلت على أساسها الدول المعاصرة.

هناك مفارقة بين الكونية الجارفة والانعطافات الجزئية الصغيرة التي تتمثل في نمو هويات ما قبل الدولة القومية تحمل في تضاعيفها وتضاريسها السكانية ذلك المزيج الذي يخلط بين المواطنة (الوطن) أو العرق والقبيلة واللون أو الدين أو اللغة أو المذهب. والتعارض في المشهد بين الاتحاد والانفصال أوبين الاندماج والاستقلال يكشف عن أزمة هوية لم تنضج معالمها لكونها لاتزال تمر في مرحلة الاختيار بين «عولمة» لا يمكن وقف تقدمها الكوني و«خصوصية» تواصل ابتكار الآليات للدفاع عن ذاتها.

مشكلة بلجيكا التي أخذت بالتفاقم بعد توصل أوروبا إلى تفاهمات مبدئية على صيغة الاتحاد القاري يرجح أن تتطور في ظل نمو عالم غير موحد في هوياته ولكنه يعيش في فضاءات متشابهة تشدُّه تارة إلى الأمام (وحدة) وطوراً إلى الوراء (انقسام).

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2840 - الثلثاء 15 يونيو 2010م الموافق 02 رجب 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 2 | 4:45 ص

      !!!!!!!!!!!!!!!!!؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟

      ليس لديك مواضيع عن البحرين عن البحاره ورواتب و وسواحل و والى اخر بس عن خارج البحرين شرقت وغربت انشرى ياوسط وشكرا

اقرأ ايضاً