أعمال العنف العرقية التي نشبت في جنوب قرغيزستان وأسفرت عن سقوط 73 قتيلاً وجرح 830 وفرار الآلاف هرباً إلى حدود أوزبكستان تكشف عن مأزق دول تعاني من ضعف تاريخي في توحيد هوية وطنية مشتركة تتوافق عليها الأقليات والأكثرية. فهذه الدولة الإستراتيجية في آسيا الوسطى التي تقع في غرب الصين وجنوب روسيا تواجه مشكلة بنيوية في توازنها السكاني وموقعها الجغرافي. فهي دولة «معاصرة» وحديثة التكوين ولكنها تحمل هوية قبلية (عرق) وتعيش في داخلها مجموعات قومية (روسية) في
الشمال وأقلية أوزبكية (14.5 في المئة من التعداد الإجمالي للسكان) في الجنوب. وبسبب هذا التركيب السكاني واجهت هذه الجمهورية حالات اضطراب شبه دائمة حتى في زمن الاتحاد السوفياتي. آنذاك اضطر الرئيس السوفياتي الأخير ميخائيل غورباتشوف إلى إرسال قوات لمنع تدهور المواجهات التي نشبت بين القرغيز والأوزبك إلى حرب أهلية في العام 1990.
اصطدامات العقد العاشر من القرن الماضي جاءت في سياق انهيار الاتحاد السوفياتي وبدء تفككه بعد ارتخاء قبضة الكرملين وظهور حالات انقسام في مختلف الجمهوريات من البلطيق إلى قزوين والقوقاز وأوكرانيا وبيلاروسيا وصولاً إلى آسيا الوسطى.
تلك الاصطدامات كانت ناتجة أصلاً عن فوضى عامة زعزعة استقرار جمهوريات الاتحاد السوفياتي وانتهت باختفاء الدولة عن الخريطة السياسية وارتسام حدود 15 دولة ظهرت فجأة على مسرح التاريخ.
جمهورية قرغزستان كانت واحدة من تلك الباقة من الدول (القبائل) التي دخلت معركة البحث عن هوية تتجانس مع تكوينها السكاني. ومشكلة قرغزستان لم تكن خاصة لكون معضلة الهوية (الجنسية) شكلت ذلك الهاجس المشترك لمختلف جمهوريات آسيا الوسطى وقزوين وجورجيا وأرمينيا وأذربيجان وأوكرانيا. فهذه الدول التي كانت جزءاً من مظلة الاتحاد السوفياتي اعتبرت تقليدياً من جمهوريات الأطراف التابعة للمركز (موسكو). وبحكم الطبيعة المركزية للسلطة السوفياتية واجهت هذه «الدول» صعوبات معيشية وحالات من التمييز والتهميش والشك بصدق التزامها بالمشروع العام الذي كان الكرملين يشرف على ترتيبه وتسويقه.
إلى ذلك كانت هذه «الجمهوريات التابعة» عرضة للتدخلات المركزية في تكوين هويتها وتعديلها من خلال ترحيل مجموعات روسية سلافية للسكن في الجنوب واعتمادها قوة صغيرة (أقليات) تشرف على إدارة أو مراقبة أو ملاحقة قوى الاعتراض المحلية. هذا التدخل في تغيير الهوية السكانية أنتج هيئات سياسية تتعامل مع المركز بصفتها قوة إيديولوجية تربطها مع الكرملين شبكة من العلاقات الحزبية. فالجمهوريات كانت أشبه بفروع حزبية ترتبط مباشرة بالمكتب السياسي أو اللجنة المركزية أكثر من كونها تلك الدول التي تتمتع بنسبة من الاستقلال تعتمد على قواعد اقتصادية وموارد إنتاجية ومصادر ثروة.
انهيار الاتحاد السوفياتي أدى إلى تفكيك الحزب الحاكم وتشرذمه إلى فروع محلية استفادت من موقعها السابق في السلطة المركزية فأقدمت على الانقلاب والتحكم بمقاليد الجمهورية بعد خروج الجيش السوفياتي وانسحابه من المناطق تاركاً رفاقه القدامى يتحركون ضمن صلاحيات اكتسبوها من شرعية قديمة لا صلة لها بالمتغيرات التي طرأت على مناطق آسيا الوسطى.
تجدد العنف في قرغزستان واتخاذه الطابع القبلي (العرقي) والمناطقي (شمال وجنوب) جاء بعد إطاحة الثورة الشعبية في أبريل/ نيسان الماضي بالرئيس السابق كرمان بك باكاييف وتشكيل حكومة انتقالية متعاطفة مع الكرملين برئاسة روزا أوتونباييفا. وبما أن باكاييف قرغيزي من الجنوب استغل هذا الانتماء الجغرافي - العرقي ليثير زوبعة من التحشيد ضد الأقليات المتحالفة مع الشمال.
اختلاط السياسة بالأيدولوجيا بالقبيلة بالعرق يؤشر إلى وجود أزمة هوية في منطقة حديثة العهد في تأسيس دول غير قادرة على التكيف مع تحولات طرأت على آسيا الوسطى. فهذه الدائرة الجغرافية الهائلة في مساحتها تضم قوميات (قبائل وأعراق) منتشرة من غرب الصين على امتداد جنوب روسيا وشمال إيران وقزوين وشرق تركيا وصولاً إلى جنوب القوقاز تتجمع في إطارها أقليات تتوزع في كل الجمهوريات التي انفصلت عن الاتحاد السوفياتي. والأقليات على تنوعها تحمل هويات قبلية - عرقية تتسمى بها جمهوريات ليست موحدة عرقياً وقبلياً مقابل مجموعات متفرقة تعيش في جمهوريات لا تحمل اسمها.
هذا التأزم في محمول الهوية لا يستبعد أن يسهم في توتر إقليمي بسبب وقوع وادي فرغانة المتمرد على الحدود بين قرغزستان وأوزبكستان. كذلك يرجح أن يؤدي تطور المواجهة الأهلية التي تجاوزت قدرة السلطة المحلية السيطرة عليها إلى إثارة قلق الصين (حدودها الغربية) وروسيا التي ترددت في إرسال قوات عسكرية لمساعدة الحكومة الانتقالية على ضبط الأمن وأيضاً الولايات المتحدة التي تستخدم قاعدة جوية في ماتاس (الشمال) طريق إمداد إلى قواتها العاملة في أفغانستان.
قاعدة ماتاس تبعد 300 كيلومتر عن مدينة أوش (مركز الاضطرابات العرقية) في الجنوب، وهي تشكل ذلك المنفذ الخلفي الذي قد يتعرض للانهيار إذا امتد العنف واخترق الحدود الأوزبكية باتجاه وادي فرغانة المشهور بكونه بؤرة جاذبة لكل القوى الإسلامية المعارضة في منطقة آسيا الوسطى.
حكومة أوزبكستان اتهمت أنصار باكاييف القرغيزي بتأجيج العنف ضد الأقليات المختلفة انتقاماً للانقلاب ضده. والحكومة الانتقالية اتهمت باكاييف أيضاً أنه حرض أنصاره لتحريك ملف الأقليات لمنع حصول استفتاء في 27 يونيو/ حزيران الجاري للتصويت على تعديلات دستورية قد تؤثر على إعادة هيكلة الجمهورية وتوازناتها السكانية.
الأزمة إذاً ممتدة جغرافياً وهي الآن موقوفة على احتمالين: الأول يتصل بموسكو ومدى استعدادها للتدخل وإنقاذ الحكومة المتعاطفة معها من الانهيار والفوضى الأمنية، الثاني يتعلق بحدود أوزبكستان ومدى قدرتها على ضبط المعابر والممرات بعد فرار الأوزبك من الدولة المجاورة واضطرارها إلى استخدام القوة لاسترداد ما خسرته في أوش وقطاع سوزاك التابع لجلال آباد.
بغض النظر عن حصول تدخل روسي أو تحرك أوزبكي أو إذا كانت الأعمال العرقية العنيفة مدبرة أو عفوية فإن ما حصل ليس نتاج لحظة زمنية وإنما تأسس تاريخياً على سياسة تقليدية كشفت بعد انهيار مركزها السوفياتي عن وجود مأزق هوية تعاني منه جمهوريات حديثة العهد ولا تمتلك تلك الخبرة المطلوبة لإدارة دول تحتاج إلى عقلية تتجاوز حدود القبيلة
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2838 - الأحد 13 يونيو 2010م الموافق 29 جمادى الآخرة 1431هـ