العدد 2837 - السبت 12 يونيو 2010م الموافق 29 جمادى الآخرة 1431هـ

الخلاف الفلسطيني بين الأيديولوجيا والجغرافيا

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

إبداء الرئيس الفلسطيني محمود عباس قلقه من اضمحلال فكرة إقامة الدولتين بسبب استمرار نمو الاستيطان في الضفة الغربية جاء بعد اللقاء الذي أجراه مع الرئيس باراك أوباما في واشنطن وقبل عودة المبعوث الأميركي جورج ميتشل إلى المنطقة لاستئناف المفاوضات غير المباشرة بين السلطة وحكومة بنيامين نتنياهو.

المخاوف الفلسطينية التي جاءت في توقيت غير مناسب تكشف عن مأزق تعاني منه السلطة يتراوح بين مراهنة على مشروع دولة تتآكل زمنياً وبين واقع يتأكد ميدانياً ويتمثل في نمو بؤر الاستيطان وتوسعها الأفقي والعمودي. فالسلطة من جانب لا تستطيع إسقاط فكرة الدولة من برنامجها باعتبارها تشكل الخيار الذي يقلل من الخسائر المتوقعة في حال فشل المشروع، ومن جانب آخر تدرك أن نمو التوطين والاستيطان سيؤدي إلى تعطيل إمكانات نجاح الفكرة وتطويقها وإجهاضها قبل أن ترى النور.

المأزق لا يقتصر على السلطة لأنه أساساً يوجه إشارة سلبية إلى الشعب وكل الفصائل الفلسطينية المعنية بموضوع قيام دولة على أرض محتلة. فالاستيطان في جوهره يشكل حجر زاوية في خطة تقويض مشروع التحرير وما يقتضيه من التزامات وطنية تبدأ بحماية الهوية وحراسة الأرض وتأسيس دولة ذات سيادة وقابلة للحياة. وحين لا تتوافر هذه العناصر الحيوية (الأرض، السكان، الهوية) تصبح فكرة الدولة لا معنى لها لأنها تكون أصلاً خسرت واقعياً كل تلك العوامل الضرورية التي تحتاجها لتبرير قيامها وإعلانها.

المشكلة إذاً تتجاوز نطاق السلطة وهي تمتد لتشمل كل الأطياف والمكونات والفصائل بغض النظر عن الولاءات والانتماءات والأهواء الايديولوجية. فالمشكلة وجودية وتهدّد كل ما تبقى من شواهد تاريخية وجغرافية في حال استمر نمو بؤر الاستيطان وتراجع مشروع الدولة.

هذا المشترك الوطني تبدو القوى المسئولة عن مصير القضية لا تعطيه الأهمية القصوى وتغلب عليه الخلافات الجزئية التي تطغى على المخاطر المتأتية من خطة توسيع المستوطنات وتغيير هوية الآثارات وجرف الأرض وقطع الأشجار.

إلى ذلك يبدو الاحتلال غير آبه بكل الضغوط أو الاعتراضات التي تظهر أحياناً على الخريطة الدولية. فهو من جانبه يعمل على خطة طويلة الأمد تلتف من جانب على الالتزامات والقرارات والاتفاقات والمفاوضات المباشرة وغير المباشرة وتراهن من جانب آخر على الخلافات الفلسطينية التي تعطي فرصة لحكومة تل أبيب في تمديد مستوطناتها تحت سقف عدم توافق الفصائل على برنامج مشترك.

الخلافات الفلسطينية باتت تشكل مادة طرية تستطيع تل أبيب إعادة تشكيلها وفق النماذج التي تخدم أهدافها. فالاحتلال لا يريد دولة فلسطينية وغير مستعد للتراجع عن الاستيطان ويخطط لقضم القدس و40 في المئة من مساحة الضفة بغض النظر عن طبيعة السلطة الموجودة في رام الله. وهذا العنوان العريض تدركه «حماس» وهي على اطلاع على كل تفريعاته. كذلك تعلم «فتح» أن مشروع الدولة يحتاج إلى معركة سياسية - دبلوماسية للحصول عليه ولن تقدمه تل أبيب إلى أي طرف على طبق من فضة ومن دون ثمن.

المسألة إذاً واضحة وهي تتركز في نقطة واحدة تتمثل في طبيعة الاحتلال الاستيطاني وما يشكله من خطر مباشر وغير مباشر على القضية. ولكن هذا الوضوح الظاهر يبدو أحياناً بحاجة إلى تفسير وتحديداً حين ترتفع المزايدات الايديولوجية في وقت يكون الاحتلال يخطط للمزيد من القضم والجرف والقطع مستفيداً من الانقسام بين غزة والضفة.

الانقسام الفلسطيني الذي يعاد إنتاجه ايديولوجياً لا قيمة له ولا منطق يبرره لأنه أساساً يقوم على مجموعة توهمات تفترض أن الاحتلال يرجح هذا الفصيل على ذاك. وهذا التوهم الذي يغذي الاختلاف الايديولوجي يتناسى أن الانقسام الأخطر هو استمرار عزل غزة عن الضفة وتأسيس الافتراق على قاعدة جغرافية تفصل السلطة عن القطاع.

الجغرافيا أقوى من الايديولوجيا التي تتضمن دائماً في تضاعيفها تصورات وهمية لا صلة لها بالواقع والمحيط وموازين القوى. «حماس» مثلاً بدأت معركتها مع السلطة تحت عنوان «إطلاق الصواريخ» وانتهى بها المطاف في غزة إلى وقف إطلاقها بذرائع لا تختلف كثيراً عن تلك التي كانت تقولها حكومة رام الله. ومع ذلك لا تبدو حكومة حماس أنها في صدد مراجعة ملف الصواريخ وإعادة قراءة حيثياته بعد تجربتها المستقلة في القطاع.

مسألة «الصواريخ» تعطي فكرة عن أن الخلافات ليست ايديولوجية وخصوصاً حين تبدي حماس استعدادها للحوار مع واشنطن وعدم ممانعتها قيام دولة في حدود أراضي 1967. أين الخلاف إذاً بعد كل هذه المتغيرات؟ إنه في الجغرافيا وابتعاد الضفة عن غزة. والمسافة التي تعزل بين المنطقتين يراهن عليها الاحتلال بصفتها تشكل ذلك الخط الفاصل بين طموح السلطة بتأسيس دولة وواقع يتمثل في نمو بؤر الاستيطان الذي يهدد ميدانياً احتمال التوصل إلى هذا الهدف.

الكلام الذي قاله عباس بعد عودته من واشنطن وقبل جولة ميتشل على المنطقة عن اضمحلال فكرة الدولتين بسبب توسع الاستيطان أفقياً وعمودياً يؤكد على أن النزاع الايديولوجي لا معنى له حين تصبح الوقائع الجغرافية تحرج كل الفصائل لأنها من جانب غير قادرة على تغييرها ميدانياً ومن جانب آخر تصبح مضطرة للتهرب من أسئلة تتصل مباشرة بذلك الخطر الذي يهدد مصير القضية الفلسطينية

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2837 - السبت 12 يونيو 2010م الموافق 29 جمادى الآخرة 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً