الرسالة/ القنبلة التي وجهها الرئيس الأميركي باراك أوباما إلى «الشعب والقيادة» في إيران انفجرت شظاياها الإعلامية في كل مكان تقريبا ولاقت الإعجاب والترحيب من قادة الاتحاد الأوروبي وروسيا والصين وبعض الدول العربية والإفريقية والآسيوية واللاتينية. فالرسالة الأوبامية اختلفت في بيانها الأدبي عن تلك الرسائل البوشية التي كانت توجه سنويا إلى «الشعب الإيراني» فقط بمناسبة احتفالات عيد النيروز الفارسي.
الرئيس الأميركي الجديد أراد من رسالته تجاوز التقاليد الروتينية وتحقيق خرق سياسي يكون له دويه الانفجاري بعد إلقاء القنبلة. الدوي كان قويا إلى درجة أحدث ارباكات في الجانب الإيراني وأثار سلسلة مخاوف من حصول تطورات متسارعة في جوانب أطراف أخرى.
الاهتزاز الناجم عن تموجات القنبلة الصوتية (الإعلامية) يتطلب فعلا قراءة ثانية وهادئة للرسالة حتى يمكن التقاط المدى الشعاعي لقوة الانفجار. فالرسالة كتبت بلغة دبلوماسية واستخدمت مفردات مرنة وإشارات طرية وغمزات ذكية وهي فعلا تختلف من حيث صوغ الكلمات عن تلك «الدبلوماسية الغبية» التي اشتهر بها جورج بوش.
إلا أن الكلام الجميل يتطلب عادة قراءة متأنية حتى يمكن فسخ السموم عن العسل والتوصل إلى معرفة مضمون الجديد. الجديد في المضمون أن أوباما كرر دعوته السابقة إلى أتباع الشفافية والوضوح في العلاقات المفترضة وأكد على أهمية الاتصالات المباشرة (وجها لوجه) تحت سقف «الاحترام المتبادل» واعترف بأهمية إيران التاريخية والجغرافية وموقعها ودورها في مختلف الميادين. أوباما في رسالته كرر عزمه على فتح صفحة جديدة وإقفال القنوات السرية «الفنية» و«التقنية» والبدء في الحوار العلني على أساس سياسي واضح المعالم في قواعد تعامله.
دعوة أوباما إلى مفاوضات مباشرة ومعلنة تشكل نقطة مفصلية لأنها من جهة ترفع الغطاء عن دور شبكات الاستخبارات الميدانية وتبادل المعلومات العملانية، وتدفع من جهة أخرى الاتصالات إلى موقع سياسي شفاف لا يخجل من دوره ووظيفته. ورسالة أوباما إلى «الشعب والقيادة» في مناسبة عيد النيروز قدمت مجموعة عروض في التجارة البينية لأنها أوضحت أن أميركا تعترف بموقع إيران ودورها والآن على القيادة السياسية الإيرانية أن توضح لأميركا ما هو الموقع الذي تريده؟ وما هو الدور الذي تطمح إليه؟
الكثير من المسئولين الإيرانيين سواء نائب الرئيس محمود أحمدي نجاد وصهره أو الناطق باسم الخارجية أوضحوا وظيفة إيران والخدمات التي يمكن أن تقدمها في حال أبدت واشنطن استعدادها للتعاون. وخلاصة تلك التقديمات التي أشار إليها الكثير من المسئولين الإيرانيين اقتصرت على إعطاء معلومات وتقديم مساعدة في الملفين العراقي والأفغاني. وأحيانا كانت التصريحات تتخطى الدائرتين العراقية والأفغانية لتشير إلى إمكان توسيع نطاق الخدمة والعطاءات في أمور أخرى يمكن التفاهم عليها من خلال فتح قنوات جانبية.
معظم الاقتراحات الإيرانية التي صدرت علانية ومن أعلى المستويات اقتصرت على تبادل المعلومات ولم تتجاوز القاعدة الاستخباراتية للتعامل «الفني» و«التقني». فالقيادة كما يبدو مترددة في سياسة الانتقال من طور المخابرات السري إلى طور التفاوض العلني على برنامج واضح المعالم والأهداف والغايات.
رفض أوباما للسرية وإصراره على الشفافية والوضوح والمكاشفة يعتبر نقطة مفصلية تميز عهده (حتى الآن) عن عهد سلفه بوش. فهو كما يبدو لا يريد التورط في سياسة تعتمد لغة مزدوجة: من جهة تتهم إيران بأنها «محور الشر» ومن جهة تتعاطى معها عملانيا وتتعايش معها وتتساكن وتتبادل المعلومات الميدانية.
بهذا المعنى يمكن فهم بعض الإرباك الذي واجه قيادة طهران حين أرسل أوباما قنبلته الصوتية نحو «الشعب والقيادة» معا من دون تمييز ولا تفرقة بين المحكوم والحاكم. فالرئيس الأميركي الجديد لا يريد، كما يفهم من رسالته، إعطاء دور سياسي مواز لأجهزة المخابرات في عهده، كذلك لا يريد لتلك الشبكات الاستخبارية أن تلعب دورا في صوغ الاستراتيجية الخارجية حتى لو كان في السر. فالدور المهني والحرفي يعني عودة إلى الازدواجية في اللغة والتعامل وبالتالي يضعف وزارة الخارجية ويعطل عليها ذاك الموقع في إدارة الدبلوماسية الأميركية.
الوظيفة والدور
رسالة أوباما واضحة وهي تختزل بسؤال قيادة طهران عن الوظيفة التي تريدها وما هي الخدمات التي تستطيع تقديمها حتى تقوم واشنطن بدراسة الملفات وفتحها علانية ومن دون أغطية أو كواليس وخفايا يطلق عليها «مفاوضات غير مباشرة».
الكرة الآن في الملعب الإيراني. وهناك فرصة حقيقية للقيادة السياسية أن تتقدم وتلتقط المبادرة وتسددها بالاتجاه الصحيح ما سيكون له وقعه الإيجابي على دول المنطقة والجوار ويؤدي لاحقا إلى نوع من الهدوء والانفراج بعد فترة متوترة اتسمت بالتشنج واستعراض القوة وتصريحات «طاووسية» استفزازية. والرد الإيراني السريع على دعوة أوباما ليس كافيا لأنه طالب بخطوات ملموسة من دون توضيح مضمون تلك الخطوات وحدودها.
الاتجاه الصحيح يتطلب الوضوح والمكاشفة والشفافية والإقلاع عن ازدواجية اللغة والمعايير في التعامل اليومي. وهذا يعني أن طهران يجب أن تستغل الفرصة إذا كانت قيادتها السياسية تفكر فعلا في لعب دور إيجابي انفراجي في المنطقة أو تطمح إلى تطوير موقعها باتجاه تعزيز النفوذ حتى لو جاء على حساب التوازن والاستقرار والاحترام.
الخيارات أمام إيران مرسومة بمسارات إذا اتجهت نحو تقمص الموقع الآخر والمضاد لقوى المنطقة ومصالحها. ولكن حتى هذا الاحتمال غير وارد الآن إلا إذا قررت الولايات المتحدة العودة بعقارب الزمن إلى مرحلة الشاه في سبعينات القرن الماضي وقبل أن يطيح به الإمام الخميني.
احتمال نكوص أميركا إلى فترة السبعينات مسألة مستبعدة في الأفق المرئي لأنها رفضت آنذاك تقديم وظائف على «طبق من فضة» للشاه ويرجح ألا توافق على القبول بدور إقليمي لإيران يتجاوز الحدود التي ترسمها لها الدول الكبرى.
إيران في عهد الشاه تقدمت آنذاك بعروض للولايات المتحدة يمكن إيجازها بثلاث نقاط: دور الواشي الإقليمي الذي يوفر المعلومات الاستخبارية لواشنطن. دور الراعي الإقليمي الذي يضمن حماية المصالح الأميركية ويدافع عن مواقعها وخطوط إمداداتها. ودور الوكيل الإقليمي الذي يلعب مهمة الشرطي البديل (الإمبريالية الفرعية). فهذه الخدمات أبدى الشاه استعداده لتوفيرها للولايات المتحدة مقابل طلبات تقدم بها لواشنطن تجيز له أن يلعب دور الشريك في تقاسم الغنيمة.
آنذاك ترددت الولايات المتحدة ثم وافقت على وظيفة المخبر «الواشي»، ثم تنازلت إلى موضوع القابل بدور الراعي (صفقات بأسلحة متطورة وقوة نارية متفوقة على العراق والجيران) ولكنها رفضت التساهل في موضوع الوكيل (الشريك المضارب) وإعطاء طهران مرتبة متقدمة ترفعها إلى موقع «الإمبريالية الفرعية» أو الإقليمية وذلك لحسابات مصالح شديدة التعقيد والتداخل.
المسألة إذا واضحة بناء على تجربة سابقة. وتأسيسا على منطق القياس (المقارنة بين معادلتين) تكشف رسالة أوباما عن استعداد أميركي للانفتاح والتحاور والاعتراف بمكانة إيران وموقعها ودورها... ولكن مضمون القنبلة الصوتية لا يتجاوز الحدود التي ترسمها الولايات المتحدة لمعادلة التوازن الإقليمي. فإذا كانت واشنطن رفضت في سبعينات القرن الماضي التنازل عن مصالحها لصديقها الشاه فهل يعقل أن توافق على هذه الوظيفة لطرف غير مضمون في تضامنة وعلاقاته؟
الإجابة عن هذا السؤال الاستفهامي محكومة بالقراءة السياسية للقيادة الإيرانية. فطهران هي العنوان الذي قرر أوباما توجيه رسالته إليه وهي الجهة التي تملك حق الرد وبالتالي تتحمل في النهاية مسئولية أقوالها وأفعالها
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2389 - السبت 21 مارس 2009م الموافق 24 ربيع الاول 1430هـ