حكاية حوادث السفن في عرض البحر تتكرر، مرة في شكل مأساة وأخرى كمهزلة بالنسبة للتاريخ الإسرائيلي.
في آخر اثنين من شهر ابريل/ نيسان الماضي شيعت قيادة البحرية الإسرائيلية يوسي هرئيل، قائد سفينة أكسيدوس التي تقول الروايات أن سفن البحرية البريطانية اعترضتها قبل 61 عاما. وبعد أن أطلقت النار على عدد منهم أعيد ركابها الأربعة آلاف وخمسمئة يهودي إلى ألمانيا، حيث معسكرات الاعتقال النازية. وإلى يومنا هذا ظلت الصهيونية العالمية تستغل هذا الحدث لابتزاز بريطانيا وكل أوروبا لمصلحة إسرائيل، حتى أصبح «خروج أوروبا» هو الاسم العبري لأكسيدوس.
وفي آخر اثنين من شهر مايو/ أيار الماضي أعاد الإسرائيليون إنتاج القصة التي طالما رووها للعالم. لكن «أبطالها» هذه المرة هم الإسرائيليون أنفسهم، أما ضحاياها فمدافعون عن حقوق الإنسان وبرلمانيون ورجال فكر وصحافة من شعوب مختلفة يمثلون الحضارة الإنسانية جمعاء، جاؤوا يحملون المساعدات الإنسانية لكسر الحصار الذي ضربه الإسرائيليون على غزة منذ ثلاث سنوات. إضافة إلى جميع سكان غزة المحاصرين.
قبل هذه الحملة نظمت ثماني حملات أقل حجماً تمت جميعها بلا ضحايا. وقد تعرض المتطوعون أحيانا لعدة أيام من السجن. من بينهم سينتيا ماكيني المرشحة السابقة لانتخابات الرئاسة الأميركية وغيرها من الشخصيات المعروفة. أما هذه المرة فقد تصرف السياسيون والعسكريون الإسرائيليون وكأنهم فقدوا كل عقل ليحدثوا في الرأي العالمي تحولاً جوهرياً لغير صالحهم. فخارج المياه الإقليمية، وعلى بعد قرابة 150 كلم من الشواطئ الفلسطينية قام مظليو الحوامات الإسرائيلية في ساعة مبكرة من فجر ذلك اليوم بإنزال على ظهر سفينة «مرمرة» وهاجموا أناساً عزلاً من السلاح. لقي بعضهم حتفه بعد أن أفاق من النوم وقبل أن يدرك ما الذي يحدث. حسنا، كان الإسرائيليون لا يعيرون أدنى اهتمام للقيم الإنسانية وللقانون الدولي حين كانوا يقتلون الفلسطينيين بدم بارد. أما وهم يفعلون ذلك اليوم بمسالمين جاؤوا من مختلف أنحاء الأرض فقد أدرك العالم خطورة هذا الكيان عليه. وعبرت عن ذلك بوضوح الصحافية الروسية والمدافعة عن حقوق الإنسان ناديا كيفوركوفا في الحشد الجماهيري أمام مبنى السفارة الإسرائيلية في موسكو: «إن الدولة التي لا يفهم جيشها ما الذي يقترفه، هي دولة خطرة». وقد أدرك هذه الحقيقة يهود من مختلف الاتجاهات حول العالم.
ما الذي حدث هذه المرة لتنال الهستيريا من الصهاينة ما نالت؟ هل لأن المتطوعين مسلحون؟ لا، بل وفي آخر ميناء غادروه طالب رسل السلام بوعي من السلطات القبرصية تفتيش سفنهم والتأكد من خلوها من أية أسلحة. هل لأن هذه أكبر حملة من نوعها، وبالتالي ستشكل خطوة عملية كبرى على طريق كسر الحصار؟ نعم، جزئياً. لكن إسرائيل نفسها ربما اقتنعت بأن لا حصار غزة ولا حصار كوبا ولا غيرهما أتت أكلا، عدا حصار نظام جنوب أفريقيا الأشبه بإسرائيل. وهي قد فعلت الكثير لتحطيم قدرات قطاع غزة الضعيفة أصلا. فحتى قبل عملية «الرصاص المسكوب» تم تدمير 70 ألف شجرة زيتون، كما تم تدمير معظم المباني المهمة وأهم طرق المواصلات، ويجري التدمير المبرمج (مرة في الأسبوع) لمشاريع الصناعة (فقبل شهر فقط تم خلال أسبوع واحد وقف مصنع ميتالورجي وآخر للزجاج). إذاً، هل لأن هذه الحملة ضمت متطوعين إسرائيليين ؟ نعم أيضا. فقد كان بينهم أعضاء في الكنيست الإسرائيلي ومتعاطفون كثيرون أحدثوا اختلالا عدديا ونفسيا في التوازنات المجتمعية الإسرائيلية. وأخيرا، هل لأن تركيا كدولة إقليمية كبرى دخلت طرفا جديا في معركة فك حصار غزة؟ نعم جزئيا، وكليا. وهنا بيت القصيد.
أسطول الحرية ضم تمثيلا تركيا شعبيا وشبه رسمي أيضا. وللحضور التركي بعد تاريخي يُذَكّر بتضحيات آلاف الأتراك الذين سقطوا على هضاب غزة العام 1917 دفاعا عن فلسطين. والأهم أن له بعدا حاضرا، إذ تقف تركيا المستقلة عن الإرادة الأميركية وإرادة الناتو في السنوات الأخيرة سدا منيعا للحيلولة ضد المخطط الشامل من وراء وصول نتنياهو للحكم بتعزيز نزعة المغامرة الإسرائيلية لضرب سورية وإيران، بما في ذلك استخدام غزة كذريعة. بالعكس عقدت تركيا مع هاتين الدولتين اتفاقية شكلت في الواقع محورا نوعيا جديدا في المنطقة. كما أن تركيا كانت أحد أطراف اتفاقية طهران إلى جانب البرازيل حول تبادل اليورانيوم، وأشادت نظام دفاعات جوية بالقرب من الحدود السورية. ولا يخفي رجال الأعمال الأتراك الذين تبرع الكثير منهم لصالح أهالي غزة، أنهم يعدون العدة لاستثمارات ضخمة هناك وفي كل أراضي السلطة الفلسطينية بعد استتباب الوضع. وتدرك تركيا أن في مقابل كل خسارة في علاقاتها الإسرائيلية (التي لن تخسرها كلية) هناك مكاسب في وضعها الشرق الأوسطي. وهذا الأخير سيقوي مواقعها التفاوضية مع الاتحاد الأوروبي باعتبارها جسرا موصلا بين أوروبا والشرق الأوسط بكل المعاني.
باستهداف الباخرة التركية «مرمرة»، وبقتل تسعة أتراك من متطوعي أسطول الحرية أرادت إسرائيل أن ترسل رسالة أقوى من مجرد إهانة السفير التركي كما حدث قبل أشهر، فتحدث ردود فعل في الداخل التركي ضد التقارب التركي السوري الإيراني والعلاقات التركية الفلسطينية العربية. لكن ردود الأفعال تبين أن كل مراكز القوى في تركيا تعي جيدا مصالحها كدولة كبرى في المنطقة.
ورغم كل المحاباة الأميركية فقد قلبت العنجهية الإسرائيلية الوضع على هذا الصعيد، ولو مؤقتا. عاد نتنياهو من واشنطن هذه المرة دون لقاء مأمول مع الرئيس أوباما غير المعجب كثيرا بضيفه. عاد ليجد وضعا إسرائيليا داخليا يموج من تحت أقدامه.
وإضافة إلى جريمة اغتيال المبحوح في دبي بمردودها السياسي، فملخص القصة أن إسرائيل تصبح أكثر من أي وقت مضى قوة غاشمة بعلائم ضعف متسارعة. الدور العربي هو الغائب الوحيد عن تسريع تفاعلات المعادلة.
إقرأ أيضا لـ "عبدالجليل النعيمي"العدد 2834 - الأربعاء 09 يونيو 2010م الموافق 26 جمادى الآخرة 1431هـ