أن تقرأ المفكر العربي محمد عابد الجابري فأنت تقف أمام مشروع يتكامل كلما تمثلتَه قراءة وتمحيصاً وتفحصاً وحتى نقداً، وفي هذه الندوة نحاول أن نختبر مجموعة من المحاور للدخول إلى مشروع الرجل في قراءته للعقل العربي، بالطبع مع رجل مثل الجابري لن تكون هذه المحاور سوى محاوره هو، فمهما حاولت تسوير مشروعه لن تجد نفسك إلا داخل هذا السور.
وقد اقترح علينا هو طبعا مجموعة من الأسئلة، ربما ليس أولها سؤال المنطلقات، ولا سؤال الاحتواء، ولا سؤال الانحياز، ولا آخرها سؤال فتح آفاق للتفكير أو التنوير، فعبر تقسيمه للعقل العربي إلى بيان، وبرهان، وعرفان، نتساءل إلى أي مدى استطاعت هذه القسمة أن تحتوي العقل العربي؟
وهل ما زال علينا أن نعود لمسائل البيان وصراعات التأويل لنفهم العقل العربي في عصر الآلة والتكنولوجيا وأركلوجيا السياسات الدولية في الفضاءات المفتوحة وتأثيراتها على هذا العقل التائه المستقيل؟
وعبر استكناه البرهان كمكوِّن آخر للعقل العربي رحنا نتساءل إلى أي مدى استطاع البرهان تمثيل العقل العربي رغم أن بعضه مشرَب ببقايا فلسفة يونانية، أو هو ما آلت إليه الفلسفة اليونانية بعد ترجمتها وتداولها وأقلمتها في البيئة العربية؟
إلى أي مدى يصدق المكوّن العرفاني كسمة كبرى للعقل العربي على رغم محاولة تسكينه في بيئة معينة ووسمها به، وهو إما حالة طارئة أو ردة فعل كامنة في الذات حين تحاصرها سياسات الواقع أو يحاصرها العقل المحض بالبراهين الصرفة واليقينيات الحاسمة المطلقة؟
كان لهذه الأسئلة أن تنطلق عبر ثلاثة قراء للرجل لكل منهم طريقته في الوصال مع مشروع الجابري. ففي الوقت الذي كان السفير المغربي محمد آيت وعلي تلميذ السنتين وفيَّا لهذه العشرة الفكرية المباشرة. كان الناقد علي أحمد الديري مأخوذا في لحظة البدايات والتكوين مبهورا بأدوات شغلته كثيراً واشتغل بها فيما بعد، ولكنه تخلّص من لحظة البدايات بما صوّبه المفكر جورج طرابيشي لمشروع الجابري من نقود حاسمة. فيما كان مدير تحرير «الوسط» الباحث في الفكر والتاريخ والفلسفة وليد نويهض على تماسٍ مع مشروع الجابري نقداً وقراءة، مثمناً رصانة المشروع وقدرته على البناء والتفكيك آخذاً عليه انشغاله بمنهجية الثنائيات التي كبَّلته وظل رهينها، غير منتبه إلا حيث أراد الانتباه لتاريخية الأفكار التي انحاز إليها وأقلمها في مكان معين في الوقت الذي كانت هي نبتة كامنة في المكان الآخر.
إن العزاء لمحمد عابد الجابري هو أن نتذاكره وأن نمعن النظر ونتعمق فيما تركه، خاصة وأن الرجل قد أثبت خلال مسيرته طيلة الستين سنة أنه لم يكن يطمع في جاه ولا مناصب، وكان زاهداً في كل شيء وهو من المفكرين الذين رفضوا الجوائز من الشرق أو الغرب. ومن حق الرجل وهو غير موجود بيننا أن نعود إلى مشروعه وإلى تراثه وما ألّفه بكثير من الهدوء والتفحّص. وأكاد أزعم أنني أعرف أستاذي الجابري معرفة جيدة خاصة وأنني درست عليه سنتين كان يدرسنا كتاب موسى بن ميمون «دلالة الحائرين» واختيار الجابري تدريس هذا الكتاب لأنه أراد أن يعطي لطلابه في درس الفلسفة الأساس الفكري والأيديولوجي والمعرفي الذي قام عليه الفكر المغربي لاحقاً وهو علم الكلام وهو غير موجود لدى أي باحث عربي قديماً أو حديثاً إلى أن جاء ابن ميمون فجمع كل ما أنشئ في المغرب في علم الكلام ليقدمه للفكر اليهودي وجمعه في كتاب «دلالة الحائرين».
الجابري بنى مشروعه على أساس علمي معرفي تأصيلي، رجع إلى النصوص وغاص فيها وأخذ وقتاً كبيراً إلى أن طلع بكتابه في العقل العربي. ألف في العقود الثلاثة الأولى من حياته كثيرا في أمور تخص الواقع العربي في مشاكل التعليم ومشاكل الاستقلال وما بعده والمشاكل السياسية. الجابري كان أحد زعماء أكبر حزب في المغرب وهو الحزب الاشتراكي للقوى الشعبية إلا أنه بعد ذلك اقتنع أن المعرفي يجب أن يظل معرفيا والسياسي كذلك.
اختار الطلاق مع السياسة وابتعد عن الحزب وقدم استقالته من اللجنة المركزية للقوى الشعبية، لينطلق في مشروعه الفكري، وقد بدأ بكتاب يعتبر الأساس في مشروعه ( نحن التراث 1980) وهو ثاني كتاب في تاريخ الفكر المغربي المعاصر الذي اعتبر عتبة مهمة وتوجهاً جديداً. وقبله كتاب الأيديولوجية العربية المعاصرة لعبد الله العروي في 1967 وحينما أطل الجابري بـ (نحن والتراث) قامت ضجة كبيرة، ففيه أتى بمفهوم القطيعة آخذاً هذا المفهوم عن الفلسفة الفرنسية المعاصرة وخاصة لدى غاستون باشلار. فجاء بمفهوم القطيعة الأبستمولوجية وقامت ضده ضجة من أن هناك قطيعة بين المشرق والمغرب وهناك الكثير ممن لم يعجبهم هذا الكلام. ولاحقاً سيؤسس مشروعه في نقد العقل العربي على ثلاثية البيان والبرهان والعرفان على اعتبار أنه في الوطن العربي هناك عقل عرفاني ساد في المشرق العربي والعقل البرهاني ساد في المغرب والكثير لم يعجبهم هذا الكلام أما الجابري فما رد في يوم من الأيام وإنما استمر في مشروعه.
القول الأساس الذي جاء به الجابري حينما دافع عن مفهومه للقطيعة أن ما أراد قوله في القطيعة المعرفية الأبستمولوجية هو داخل مجال معين ليس داخل الفكر. ليس العقل المشرقي عقل عرفاني والعقل المغربي عقل برهاني إنما حينما نتكلم في الفلسفة في الفكر هنا يحصل نوع من الاعتماد على العرفانية وفي الجانب الآخر من العالم الإسلامي الاعتماد على البرهان.
الجديد الذي أتى به الجابري في مشروعه هو أنه صادف أن المدرسة المغربية كانت حديثة العهد بالمدارس الغربية عكس المشرق. فمصر مثلاً لامست فكر النهضة الأوربية مع رفاعة الطهطاوي ومرورا بلطفي السيد إلى طه حسين إلى المفكرين المعاصرين إلا أن علاقتها بهذا الفكر انتهت بعد الخمسينيات. لم تعد هناك بعثات أو اتصال مباشر. بعد الخمسينيات حدث تصارع في المدارس الفكرية في الغرب من الماركسية إلى ما بعدها إلى نقد الماركسية إلى البنيوية إلى فلسفة الاختلاف إلى فلسفة الرفض.
ثمة مجموعة من المدارس الفكرية التي تأسست على أساس درس اللسانيات لم تكن معروفة قبل الخمسينيات. قبل فردينان ديسوسير لم تكن المناهج وأدوات البحث تزودت بدرس اللسانيات الذي أعاد قراءة الأشياء قراءة أخرى، وكذلك درس الأبستيملوجيا اللذين سيسلحان المفكر والباحث ليعيد قراءة التاريخ. لذلك فإن ما قام به الجابري أنه تسلح بهذه الأدوات ورجع مرة أخرى ليدرس الفكر العربي الإسلامي. وهناك محمد أركون الذي ظل فقط على مستوى التحفيز والدعاية أو تلقين الباحثين والطلاب والمفكرين والدعوة إلى أنه يجب أن نعيد تراثنا مسلحين بالأدوات الجديدة في العلوم الإنسانية، ولكن الجابري طبق ذلك فهو ليس داعية وإنما ممارساً. وإذا كان أركون قد وقف داعية ومحفزاً لتطبيق مفاهيم أدوات البحث المعاصرة والعلوم الإنسانية المعاصرة فإن الجابري قد مارس ذلك. ومن نتائج هذا البحث أنه أتى بأشياء جديدة لم تقبلها كثير من الحقول أو بعض المفكرين والباحثين في المشرق، ولكن الذي لا يعرفه البعض أن المدرسة المغربية حينما كانت تشتغل وتستعمل مفاهيم في البحث لم تكن تستعمل مفاهيم لغوية منحوتة فقط. ليست كلمات يمكن أن نستبدلها بمفردات وإنما هي أدوات بحث. حينما يتكلم عن الأبستيمية، العقل، القطيعة، هذه أدوات بحث إذا أنت استبدلتها بمفردات أخرى يصبح النص لا قيمة له. إذاً أنت أمام نص هذا النص فيه مميزات خطاب علمي من دقة وصرامة واختصار، اختار الأدوات التي فيها حمولة معرفية. هنا ننتقل باللغة من المفهوم إلى التداول وتصبح المصطلحات المستعملة ليست مصطلحات فقط وإنما مفاهيم ذات دلالات فندخل في مجال آخر هو مبحث التداولي والمدرسة التي تنتج هذا الفكر قد أعدت على درس اللسانيات ودرس الإبستميلوجيا وستنتج الكثير.
حينما نتكلم عن الجابري نحن لا نتكلم عن مفكر فقط بل عن المفكر وعن المناضل السياسي وعلى من وجد أمام شيئين «هل أمزج بين السياسة والفكر أم أضحي بالسياسة للفكر وما قيمة الفكر إذا لم يخدم المجتمع. الجابري هو هذه الطروحات وهذه الإشكالات».
يتميز نص الجابري بالتماسك ودائما هناك ربط قوي ما بين مقدمة الموضوع وما بين النتيجة التي يريد التوصل إليها، وهذا يؤكد أنه عندما كان يكتب كان يكتب بروح السيطرة على النص وكان يدرك كيف يحفر في النص ويتم طرحه في الحياة المعاصرة، ولذلك تميز منهج الجابري بهذا النوع من التماسك وهذا لا نراه في الكثير من أعمال كبار الكتاب والمفكرين. وكان عنده قدرة على منهج التفكيك والتركيب. وباعتقادي أن الجابري كان قوياً في عملية التركيب ومن الممكن أن نلاحظ الكثير من المفكرين العرب عندهم قدرة وباع طويل في الجدل والجدلية والتحليل ولكن لدينا ضعف في المشرق والمغرب عموماً في عملية الاستنتاج أو التركيب. فبعد التحليل والتفكيك نعيد ترتيب هيكلة النص من جديد فكان الجابري قوياً في إعادة التركيب بما يتطلب عقلا قويا قادرا على السيطرة على النص. وهذه من نقاط قوة الجابري في تعامله مع النص.
تعامل الجابري مع التراث بوصفه ليس مقدساً وهو ليس من المسائل التي دخلت مرحلة الفوات التاريخي. تعامل مع النص التراثي بصفته قوة راهنة وهو ليس من الماضي بل هو قوة راهنة وفاعلة يمكن أن تفعل في آليات التفكير اليومي في طريقة تخاطبنا مع العالم مع المرأة، مع الرجل، مع السلطة تعاملنا مع الناس في حياتنا اليومية. هناك مجموعة مفاهيم متوارثة تلعب دورها ووظيفتها الراهنة فكان عنده تعامل جدلي تفكيكي وتركيبي في النص فكان يتعامل مع التراث بصفته قوة راهنة وليست فقط مسألة تم تجاوزها واعتبارها من الماضي.
إلى ذلك هناك ما يمكن تسميته بثنائيات الجابري. وعناصر قوة هذه الثنائيات ساعدته على ضبط منهجيته الفكرية وتحديدا إذا عرفنا أن شغل الجابري الأول كان على ابن خلدون ومن يعمل على ابن خلدون فإن ابن خلدون يساعده على ترتيب أفكاره لأن قوة فكر ابن خلدون يساعد على ترتيب أفكار الباحث. هذا ما حدث مع طه حسين حينما اشتغل على ابن خلدون وهذا ما حصل مع شكيب أرسلان. دائماً من كان لديهم قدرة على دراسة النص وربطه وتركيبه نجد أنهم كانوا خلدونيين في بدايات اشتغالاتهم أو في بدايات دراساتهم الأكاديمية الجامعية أو خارج الجامعة.
ثنائية الجابري التي تعاملت مع النص والتراث بين القديم والجديد أوقعته في ثنائيات معاصرة لاتزال غير محسومة وتخضع للنقاش والجدل. هنا واجه الجابري حملة من المعارضة والنقد أحياناً كانت موجهة وأحيانا كانت ملاحظات مبنية على تقسيماته المعاصرة وليست القديمة. فهو نجح في القديم وانتقل للحديث وفي التعامل مع القضايا الحداثية، كان هناك قصة المشرق والمغرب، عرب وفرس، عرفانيين وعقلانيين وبالتالي أخضع العقل إلى البيئة الجغرافية والتقسيمات الجغرافية وأصبحت الجغرافيا أحياناً تلعب دورا أساسيا في تكوين الحياة الاجتماعية والعلاقات، ولكن نتج منها نوع من المفارقات التي أدت إلى عدم فهم الكثير من الكتاب له وبعض المفكرين الذين واجهوا الجابري انطلاقا من ملاحظات ليست على قراءته للنص التراثي وإنما على سحبه لهذه الثنائيات على الواقع المعاصر.
الديري: الجابري علمني اختراق الأفكار وإعادة إنتاجها في بنية محكمة
تعرفت على الجابري في سنة 1993 تقريبا في السنة النهائية للبكالوريوس بجامعة البحرين وكنت لحظتها خريج كلية الآداب لغة عربية ولم تكن لدي أي أدوات مفاهيمية أو عدة فلسفة أو عدة نقدية، لدي مجموعة من المعارف المتراكمة أشبه بأشياء في كيس ليست لدي القدرة على أن ينظم هذه الأفكار أو هذه الأشياء ولا أن أخترقها أو أجعلها بنية. تعرفي على الجابري كان بمثابة التعرف على ساحل رأيته كيف يستطيع أن يخترق مجموعة من المعارف ويسبكها في بنية وينتج من خلالها أشياء لم تكن معروفة فكنت أراه يدخل على نقاد بلاغيين ونحويين وعلماء أصول وعلماء شريعة وفلاسفة. كنت أذهل حين يداخل بين هذه الحقول كلها وأنا خريج كلية لم تكن مرستني في هذه المجالات، وبداية هذا التعرف قد حرّك شيئاً في بنيتي الفكرية فللمرة الأولى أكون ملتفتاً إلى أن هناك مجموعة من المفاهيم هي التي نقرأ من خلالها النصوص، فبدأت عبر الجابري أعرف مفاهيم جديدة عقل مكوَّّن وعقل مكوِّن أفهم معنى البنية الذهنية، النظام المعرفي، عصر التدوين، معنى المرجعية الفكرية، معنى العقل، التفكير في العقل، التفكير بالعقل، إطار مرجعي، قطيعة معرفية. هذه المصطلحات كانت جديدة بالنسبة لي وطازجة ولم أكن حينها قادرا على هضمها كلها وجدتني لأول مرة أستطيع أن أتعرف على أدوات للفكر وهي فضلاً عن المعارف والمعلومات وأسماء الكتب والنصوص والنظريات هي ما يعينك على قراءة ذلك وتكوين معرفة من خلالها. ومنذ لحظة قراءة الجابري بدأت ألتفت إلى أن المعول على المدرسة المغربية إذا أردت أن أتجاوز التراكم الذي هو سمة المعرفة التي تعلمتها على الأقل في الجامعة عن المشرق فبدأت التفت إلى المغرب ومن خلال الجابري انفتحت على آخرين غيره من المغاربة، عبدالسلام بن عبدالعالي وعبد الفتاح كليطو وطه عبدالرحمن تشكيلة جامعة تتميز بأن لديها أدوات الاشتغال وأنت بهذه الأدوات تشكل معرفتك وقراءتك الخاصة والجابري ربما كان هو المفتاح.
آيت وعلي: ثلاثية البيان والبرهان والعرفان عملية إجرائية للسيطرة على التراث الهائل
استند الجابري في رؤيته للعقل العربي إلى ثلاثة مداخل البيان والبرهان والعرفان ما مصدر هذه الثلاثية وإلى أي مدى استطاع هذا التقسيم الثلاثي أن يلملم حالة العقل العربي؟
- هي عملية إجرائية يقوم بها الباحث لكي يسهل عليه تناول هذا التراكم المعرفي الذي أنتجه الفكر العربي والفكر الإسلامي، ولا ننسى أن الجابري لديه كتب في فلسفة العلوم الرياضية وفلسفة العلوم الفيزيائية بمعنى أن هناك علاقة تكوين وتأطر بمناهج البحث في العلوم الإنسانية الحديثة وانفتاح أساسه درس الأبستمولوجيا ودرس اللسانيات وهذين الدرسين هما الذين وجها الفكر الغربي المعاصر، والجابري حينما وضع هذه المفاهيم وحاول أن يقسم الفكر العربي إلى بياني وبرهاني وعرفاني فإن هذا العمل هو عمل إجرائي اقتضته ظروف البحث لكي يسيطر على هذا الإنتاج الهائل والمتراكم في الثقافة العربية والإسلامية، وقد يتجاوز الجابري هذا التصنيف إلى تصنيفات أخرى والذي فرض عليه ما سبق هو قراءته العميقة والغوص مسلحاً بمناهج بحث أفادته بأن يصنف لكي يسهل على نفسه عملية إيجاد جسم لهذه الأفكار. أراد أن يعطي لهذا التراث وهو الفكر العربي الإسلامي على مدى 14 قرناً أراد أن يعطيه جسماً حتى يستطيع أن يتمكن من مساءلته ومحاورته حتى يكون شيئاً حياً أمامه. ومن خلال غوصه وبحثه رأى أن كل ما يدور في فلك العلم الديني كقرآن وكحديث هو أقرب إلى البيان. لأن المعجزة الإسلامية بنيت على البيان. وكل ما هو آتٍ من الفلسفة القديمة وقبل اليونانية وما بعد الأفلاطونية المحدثة فهو عرفاني، وكل ما بني على أساس أرسطو وطوره لاحقاً ابن رشد فهو برهاني. ومن هذا المنطلق استطاع الجابري أن ينهي مشروعه بشيء مهيب وجبّار وهو تفسير القرآن بأدوات جديدة ليس منها أن تتملك ناصية اللغة وتفسر القرآن تفسيراً نحوياً أو بلاغياً نحوياً كما فعل الزمخشري أو بلاغياً كما فعل آخرون أو أدبياً كما نجد لدى السيد قطب رحمهم الله جميعاً. الجابري أراد أن يقرأ القرآن قراءة مسلحة بأدوات العلوم الإنسانية تسائل الرأس مال الرمزي للإنسان أو اللاشعور المعرفي الذي هو موجود في داخل كل مسلم وكل عربي الذي حينما ينتج يصبح تراثا مكتوبا.
نويهض: حصر العقلانية والبرهانية في مكان معين وعزله عن مكان آخر افتقد إلى المنهجية التاريخية
هناك محاولة لتبيئة أو أقلمة البرهان في بيئة جغرافية والبيان في بيئة جغرافية أخرى إلى أي مدى استطاع الجابري من خلال هذين المفهومين قراءة البيئتين باعتباره قارئاً للعقل السياسي الذي ينتج حالات قطيعة معرفية بين المغرب والمشرق؟
- يجب التمييز بين قراءة الجابري وأي قراءة أخرى للنص. فهو ينبهك إلى المخزون القوي من المعرفة في مجال التراث والاطلاع على المدارس الفكرية والمناهج الأوروبية الحديثة، هذا المزج أعطاه القدرة على تفكيك النصوص ورؤية مالا يراه غيره في هذا النص، هناك نصوص قرأها الآلاف والملايين ولكن القدرة على الاجتهاد في النص وانطلاقه من الواقع المعاصر كان محصورا في قلة من المفكرين ممن عندهم القدرة على استقراء النص بطريقة أكثر عصرية مستفيدا من العلوم المعاصرة وهذا كان جهد الجابري.
في السؤال إشارة إلى جغرافية وإقليمية المدارس الفكرية وتاريخية المدارس الفكرية. فقد تنطلق الأفكار من بيئة جغرافية محددة في البداية ولكنها تاريخيا تنتقل، فعندما كتب مثلا صاعد الأندلسي في طبقات الأمم تحدث عن انتقال الأفكار، الأفكار تنتقل وترحل من بيئة إلى بيئة وتتطور بحسب البيئة الجديدة ثم تنتقل إلى بيئة أخرى، كما حصل مع الفلسفة اليونانية إذ تم ترجمتها إلى العربية وأخذ بها بدايةً من ثم تم تجاوزها لاحقا، فبالتالي هناك البيئة والمنابع والمصادر الأولى للمادة وهناك خضوع المادة إلى التطور التاريخي والانتقال من جغرافيا إلى جغرافيا من زمن إلى زمن ومن ثم إعادة إنتاجها وإخضاعها إلى المزيد من التقدم.
رغم ما أشرت إليه هل أسس الجابري إلى قطيعة معرفية أخرى عبر هذا التقسيم وإن كان لجوؤه إليه لجوءا منهجيا .
- الاختلاف لم يكن في البداية وإنما كان في عدم المتابعة التاريخية للفكر وبالتالي حصر العقلانية والبرهانية في مكان معين وعزله عن مكان آخر، افتقد هذا المنهج التاريخي فقد ظل أسير المنطلق الجغرافي، وكذلك موضوع التصوف والصوفية الذي انتقل إلى المغرب وكانت هناك مدارس مغربية صوفية مهمة تختلف عن المشرق وعن بعض المناطق ولها طبيعتها وخصوصيتها. المدارس الصوفية موجودة وهي مثال على العقل العرفاني. الإمام الشاطبي دعا إلى مؤتمر في عصره لبحث مشكلة مدارس التصوف التي اجتاحت المغرب أيامه ، أي في عصر ابن خلدون (الشاطبي يكبر ابن خلدون بـ 19 عاما) وحدث خلاف بين الشاطبي وابن خلدون حيث لم يدع ابن خلدون إلى هذا المؤتمر وبالتالي أدى ذلك إلى انزعاج ابن خلدون وكتابته (شفاء السائل) عن حركات التصوف. إن المدارس العقلانية كانت في حالة تفاعل وانتقال بسبب التقاليد الدينية ورحلات الحج، وبالتالي كان هناك دائماً نوع من التلاقح. من المهم الإشارة إلى أنه لم تكن كان هناك عملية تعقب تاريخي وتحقيق تاريخي في هذه المسألة وقد انتبه إليها الجابري باشتغاله على القرآن حين اتخذ المسائل التاريخية كأساس. المنهج التاريخي في قراءة القران الذي اتبعه الجابري يعتبر خطوة نوعية جديدة وتأسيسية وكانت هذه آخر أعماله وكان من الطبيعي والبديهي جداً أن شخصا قضى 40 عاماً من حياته يعمل على التراث ويحفر فيه أن يصل إلى البداية الأولى إلى الكتاب الذي أسس كل هذا، فكان منطقياً جدا أن ينهي الجابري حياته بتفسير القرآن وهذا تفسير جديد أي أنه أعاد ترتيب الآيات القرآنية بحسب النزول وقام بدراستها رابطاً مسألة التفسير بنقطتين السيرة النبوية وتاريخ الدعوة. وربطها بالآيات، آية بعد آية من البداية إلى النهاية. هذه الملاحقة التاريخية أو هذا التعقب التاريخي يعتبر انجازا مهما وخطير جدا ويمكن يؤدي إلى ردود فعل لا تقل عن الردود التي حصلت ضده في الموضوعات الأولى.
الديري: الجابري قرأ العقل العربي كقصر مكون من مجموعة من الغرف المتصلة
لعل كثير من المشاريع كان منطلقها الواقع العربي والبحث في سؤل النهضة عبر إعادة النظر في التراث، ألا ترى أن إرجاع الجابري العقل العربي إلى مسائل البيان القديمة اللفظ والمعنى وصراعات التأويل هي مسائل تم تجاوزها في عصر الآلة وما عاد لها من أثر كبير وأن المتحكم في العقل العربي الحديث هي أشياء أخرى طرأت عليه لاحقا.
- ذكرت المنطلق ومهم جدا مع الجابري كرجل يؤسس للأفكار دائما على أصولها أن نتحدث أيضا عن أصول الجابري ومنطلقه في مقدمة كتابه «تكوين العقل العربي». يقول الجابري أنه يريد أن يقرأ العقل العربي كقصر مكون من مجموعة من الغرف ولا يريد أن يقرأه كمجموعة من الخيام المنفصلة، بمعنى أنه يريد أن يقرأ العقل العربي كوحدة لها سور وسور هذا القصر هو الذي يجمع هذه الغرف المشكلة وفق نظام السور وهو إطارها المرجعي وهذه العلوم التي هي الغرف تستمد من السور بنيتها المعرفية وطريقة بنائها، في حين إن مجموعة الخيام هي التي تجعلك تقرأ العقل كأنه جزر منعزلة أو تقرأ هذه العلوم في هذه الحضارة العربية كأنها جزر منعزلة وكل جزيرة لوحدها. ما أعان الجابري على هذه القراءة أنه جاء، وتسبقه لحظة عربية مقدارها 100 عام قد تم فيها تحقيق نصوص كثيرة ودراسة العلوم العربية واستخراج نصوص رئيسية تم تقعيدها وهناك أيضا دراسات اشتغلت على هذه العلوم كخيار فهو جاء الآن يريد أن يستثمر كل هذا الانجاز لكي يدخلها ضمن السور، وقد نجح نجاحا كبيرا جدا في أن يرينا كيف أن هذه المرجعية دخلت في كل هذه العلوم ولكن هذا النجاح في حد ذاته شابه الكثير من الإشكاليات. وأشير إلى أن تقسيم العقل العربي إلى ثلاث حالات فيه شيء من الانحياز ليس أيديولوجيا وإنما انحياز إبستومولوجيا أو معرفي. ولست ادري إن كان يصح أن نسمي الأبمستومولوجي انحيازاً لأن الإبستومولوجيا هي معرفة من الدرجة الثانية وليست معرفة من الدرجة الأولى، المعرفة من الدرجة الثانية بمعنى أنها تخضع المعرفة للتفكير وهي تفكير في العقل، منطلق الجابري لدراسة العقل هو أنه كان يريد أن يفهم، كان يريد أن ينتصر إلى العقل الذي يعني ربط الأسباب بالمسببات.
هذا هو العقل الذي انحاز له الجابري وكان يشتغل عليه طوال مشروعه، والذي جعله يمايز بين العقول في الثقافة العربية. إن لب مشروع الجابري كان قائما على فهم العقل باعتباره ربط سبب بمسببات، من أين يأتي هذا المفهوم ؟ يأتي هذا المفهوم من العقل اليوناني، العقل اليوناني كما فهمه الجابري هو العقل الذي يربط الأسباب بالمسببات ربطا علميا محكما في مقابل أن العقل العربي عقل لا يربط الأسباب بالمسببات، عقل قابل للتجوز قابل أن يتجاوز فيه السبب مع المسبب قابل لهذه الانزلاقات وهذا هو مأزق العقل العربي كما يفهمه.
محمد آيت وعلي: السؤال ليس عن أصالة الفكرة بل عن اشتغالها في البيئة الجديدة
إلى أي مدى كانت جزئية البرهان أصيلة أو متمكنة في العقل العربي حتى نستطيع قراءته من خلالها، أليست جزئية البرهان في العقل العربي قادمة من مداولات أو مآلات الترجمة العربية للعقل اليوناني ومحاولة إعماله في البيئة العربية؟
- علمتنا الفلسفة المعاصرة أن انتقال وافد من ثقافة إلى أخرى ليس عيبا وإنما لا يجب أن نلاحق مكونات فكر معين ونرجعه إلى أصول، ونتساءل عن القيمة التي أصبح يلعبها في بنيته الجديدة، وليس عن أصله بل ما هي القيمة وما هو الدور الذي أصبح يلعبه في بنيته الجديدة. هناك عناصر وافدة إلى الثقافة العربية من الثقافة اليونانية أصبحت تلعب أدواراً داخل هذه البنية وهنا يجب أن نبتعد نهائياً عن ما قام به المستشرقون في نسبتهم أن هذا من عند أرسطو وأن هذا من عند أفلاطون أو فلان ويخرج العربي كأنه ما عمل شيئاً، هذا غير صحيح. قوة الثقافة العربية هي أنها أعادت إنتاج ما جاءها من اليونان داخل منظومة جديدة داخل بنية جديدة وأصبحت تعلب أدوارا أخرى خاصة ما نقل من أرسطو كفلسفة يونانية في جانبها البرهاني الذي أخذ أبعادا أخرى في الغرب الإسلامي في المشرق. اختلط العقل اليوناني بالموروث القديم من غنوصية وهرمسية ومانوية هذا مع ابن سينا والغزالي والفارابي. أما في الغرب الإسلامي فسوف يصبح هناك منتوج آخر هو ما سنراه عند ابن رشد وعند ابن حزم وعند الشاطبي وعند ابن خلدون وغيرهم. نحن أمام عقل توجه نحو مناخ فكري ابتعد على ما جاءت به مشاكل الخلافة وابتعد على ما جاءت به الفتنة الكبرى وابتعد نسبياً عن ما يسميه الجابري بالموروث القديم (الغنوصية، والهرمسية، والمانوية) وكل ما استطاع أن يعيش بعد ما جاء الإسلام بحيث أن الإسلام لم يستطع أن يمسح الطاولة في المشرق ولكنه في المغرب وجد بيئة أخرى تكاد تكون ممسوحة طاولتها. انتقل إلى بيئة بريئة نسبيا من كل ما هو (غنوصية وهرمسية ومانوية) كل ما هو موروث قديم هذا هو الأساس الذي قام عليه البرهان لذلك نحن نستطيع أن نفسر توجه الجابري أنه استمرار لابن رشد وابن حزم والشاطبي وابن خلدون. في الغرب الإسلامي قليلا ما تجد بعض الشطحات حتى التصوف كان أقرب إلى التصوف الفلسفي. إن ما قام به الجابري هو أحد المشاريع التي طرحت لتحديد العقل العربي بعد رفاعة الطهطاوي وسؤال النهضة لماذا تأخرنا وتقدم غيرنا، كيف السبيل لتجاوز التأخر التاريخي والهيمنة الاستعمارية، بأشكالها حتى الحالية. هذا السؤال هو هذه النقطة التي حاول المفكرون العرب الإجابة عنها، هناك من اختار الأفكار الدينية رشيد رضا، وحسن البنا وسيد قطب وما عرف فيما بعد بالحركات الإسلامية التي حاولت أن تجيب عن هذا السؤال « وأنه لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها» وكذلك محمد عبده وجمال الدين الأفغاني. الاثنان جمعهما رشيد رضا وأصبحت هذه الأفكار موجودة في الواقع فيما يسمى بالحركة الدينية خاصة حركة «الاخوة المسلمين». هناك اتجاه آخر الذي قال يجب أن نكون ليبراليين وأن نكون دستوريين وأن نبني المؤسسة الدستورية، لطفي السيد وغيره من الليبراليين. وهناك من قال بالعقل والفكر كطه حسين وهناك من قال إنه يجب أن نأخذ بالتجربة اشتراكية كالطيب تزيني وحسين مروة وغيرها كمشروع رؤية جديدة للفكر العربي الوسيط في النزاعات المادية.
نويهض: كان الرازي في نصه الفقهي فيلسوفاً كبيراً
ولابد من إعادة ترسيم الحدود بين ما نسميه فقه الفلسفة، وفلسفة الفقه
هل استطاع العقل اليوناني أن يعمل في البيئة العربية الصحراوية القائمة على النقل وعلى مسألة التنقل مقابل ثقافة الحاضرة القائمة على الثبات والتدوين؟
- لا شك أن ترجمة الفكر اليوناني للعربية كان له أثره على رغم أن هناك اختلاف في إجابة سؤال متى بدأ الفكر الفلسفي عند العرب هل هو بعد الترجمة أو عصر التدوين أو كان هناك تفكير فلسفي قبلهما، وحين نرجع إلى صاعد الأندلسي نرى أنه كان هناك أسئلة فلسفية بالمعنى العام طبعا وليس بالطريقة الأرسطوية، كان عندنا أسئلة فلسفية أكثر منها منهجية فلسفية كان لها دور في إثارة العقل وتحديدا في الآيات المجملة التي كانت تثير أسئلة عامة وكذلك ظاهرة الناسخ والمنسوخ، وجاء منهج الجرح والتعديل الذي استخدم في إعادة ترتيب وتحديد الأحاديث من حيث دقة النقل وصحتها. طبعاً ظهرت منهجيات كثيرة وكان هناك عملية الترجمة الفلسفية، ولابد من إعادة ترسيم الحدود بين ما نسميه فقه الفلسفة وفلسفة الفقه. والاختلاف بين المسألتين لا يلغي التداخل إذ كانت بدايات الأسئلة الأولى وتحديداً ما نشأ بين الحسن البصري وخلافه مع واصل بن عطاء، من ثم بدء الاعتزال وصولا إلى فقدان مدارس الاعتزال وظيفتها التاريخية بعد حكم لمدة 40 عاماً في العصر العباسي برز الكندي الذي عاصر المعتضد وهو يعتبر أول فيلسوف عربي، كما كان هناك الفارابي وهو الفيلسوف الحقيقي، بمعنى أنه اشتغل على المنهج. وهنا لابد أن نبحث في كيفية اختلاف المناهج، ومنها تأثير المهنة على الفكر. كان الكندي لغوياً ومصححاً وكان مشرفاً على الترجمة، بينما الفارابي كان يهتم بالموسيقى وهذا له تأثر على الفكر والفلسفة. ابن سينا كان جراحاً وكان كيماوياً يمزج الأدوية مع بعض، وكذلك الرازي الذي جاء قبل الفارابي. كذلك الغزالي الذي كان من بيت فقير مسكين يشتغل على غزل الصوف توفي والده الذي كان خادماً يتصف بالأمانة وكان يتعامل مع بعض العلماء وهذه ورثها الغزالي عن والده وعن أصحاب والده وبالتالي كان له علاقة بالمؤسسات. إذاً المهنة والبيئة الجغرافية والظروف تلعب دورها في الإنتاج الفكري. هناك الفكر نأخذه من المصادر الأولى نقرأ أفلاطون وأرسطو والفكر الأوروبي ونأخذ عنه، وأيضا هناك ظروفنا وبيئتنا التي تلعب دورا أساسيا في تعديل الكيفية التي نستقيها من القراءات ومنابتها المختلفة، ولذلك لابد من إعادة قراءة تاريخ الفلسفة انطلاقاً من أنه ماذا يعني عندنا الفقه هل الفقه هو فلسفي أم لا، هل الفقهاء ارتقوا في مناهجهم الفكرية إلى مرتبة الفلاسفة أم لا. هناك نقاط كثيرة لابد من ملاحظتها مثلاَ عندما نقرأ فخر الدين الرازي في نصه الفقهي تشعر أنك مع فيلسوف كبير رغم أنه لا يدرج بصفته أحد الفلاسفة، عندما تقرأ نصوص العقل والنقل مع ابن تيمية نجد أننا أمام عقل كبير يحاول أن يساجل النصوص اليونانية والعربية. كذلك الغزالي و الشاطبي في كتاب «الموافقات» الذي هو كتاب فقهي ولكنك تشعر أنك أمام كتاب فلسفي. إذاً لابد من إعادة الاعتبار للفقه الإسلامي واعتباره فعلاً فلسفة. الفكر الإسلامي جزء كبير من طرحه ومن منتوجه ومن الجهد البشري كان فقهيا بالمعنى الفلسفي باعتبار أن الفقيه يعمل على الاجتهاد في النص وبالتالي يربط العام بالخاص والمطلق بالوقائع الجارية كما يسميها ابن خلدون أو المصالح المرسلة كما يسميها الإمام مالك.
أنت هاهنا تؤكد على وجود فلسفة عربية في الوقت الذي البعض ينفي وجود فلسفة عربية ومن هنا في نفي ظل وجود فلسفة عربية أصلا هل نستطيع القول بوجود عقل عربي؟
- هناك فلسفة عربية ومستقلة في مقابل عقل يوناني. غير صحيح أن الفكر العربي الإسلامي في إطاره الفلسفي أو في منظومته الفلسفية هو يوناني. إذا أردنا أن نؤكد على استقلالية الفلسفة العربية لابد أن يكون لنا فلسفتنا كما قال مثلاً طه عبدالرحمن في كتابه (الحق العربي في الاختلاف). «من حقنا أن يكون لدينا مشروعنا الفلسفي المستقل ومن الممكن أن نعيد قراءة الفقه وأن نستنبط من هذا الفقه الفلسفة المستقلة.
آيت وعلي: الأفكار حينما انتقلت من الفلسفة اليونانية إلى بنية أخرى أصبحت لها هوية جديدة
حينما انتقلت الأفكار من بنية الفلسفة اليونانية إلى بنية أخرى أصبحت لها هوية جديدة ليس بالضرورة أن نبحث عن أصلها ونتتبعها، بل ما هو الدور التي أصبحت تلعبه في بنية جديدة لا نسأل ما أصلك. هناك مجموعة من المفاهيم لم تكن موجودة في الفكر العربي نقلت من الفلسفة اليونانية منها الجوهر وغيره، كلمات غير موجودة أصلاً ثمة مفاهيم لم تكن موجودة على الإطلاق في الفكر العربي ولكنها أصبحت تلعب دوراً مهماً. فكلمة الجوهر في علم الكلام مفهوم مركزي جداً وله حمولة معرفية كبيرة، حينما نسأل عن الذات والصفات لم يستطع المتكلمون تفسير الذات والصفات والخوض فيها إلا بالاستعانة بمفاهيم فلسفية مثل الجوهرالبسيط الذي يعني غير مجزأ وإذا كان غير مجزأ فهو لا يقبل من يركبه ولا يسري عليه الزمان والمكان، والجزء اليسير الذي انتقل في البداية مع كندي من مفاهيم فلسفية إلى فكر الإسلام العربي أصبح يلعب أدواراً أخرى وأصبح له حمولة معرفية أخرى. لن نستطيع أن ندرك هذه الأشياء إلا باستحضار دروس جيِّدة في اللسانيات، فطه عبدالرحمن حينما نحت مفهوم التداول في الفكر العربي ونقل البرجماتيك إلى العربية وسماها بمبحث التداول أعطى معنى آخر للأفكار. فما هي القيمة التداولية التي أصبح يلعبها هذا المفهوم اليوناني داخل بنية جديدة.
الديري: أنا أضيف على كلام السفير، أن فهم الأفكار وانتقالها عبر التأثر والتأثير. واقعنا في مشكلة المستشرقين الذين دائما يتحسسون من مسألة التأثير. وللخروج من ذلك ممكن نستخدم مصطلح الاسترجاع فكل فكر يسترجع أفكاراً سابقة ويبني عليها ويعيد صياغتها من جديد، فننتهي من فكرة من أثر وأين المؤثِر فيه ويظهر لنا الفاعل، والمفعول الذي دائماً هو أدنى من المفاعل، بينما هي استرجاعات تصبح لها وظيفة في بنية أخرى، بنية جديدة.
آيت وعلي: المغرب لم يتأثر كثيراً بالفتنة الكبرى، ولكن يجب أن نكون صادقين مع التاريخ، ما انتقل من الأفكار من المشرق إلى المغرب هي أفكار خارجية ممزوجة بكثير من المعتزلة، أفكار خوارج اعتزالية، والحفر في هذا الموضوع يجيبنا لماذا سيكون لاحقا ابن رشد والشاطبي نوعاً من البرهان ونوعاً من العقلانية.
الديري: استرجع من جديد أن فكرة السببية التي أخذ بها الجابري في دراسة العقل، بقدر ما هي نقطة قوة، هي أيضا نقطة ضعف في مشروع الجابري لأنه حصر مفهوم العقل في مفهوم السببية وأعطاه قيمة حكمية فصارت الحضارة أو العقل. لا يستعمل العقل بهذا المفهوم هو درجة أدنى، تحوّل إلى أداة تبضيع أداة تبخيس لبقية الأدوات العقلية. واستناداً إلى هذا الانحياز الذي قدمه للعقل اعتقد أنه قسم العقل العربي إلى ثلاثية ليس فقط تقسيماً إجرائياً ليسهل عليه التعامل مع هذه النصوص وإنما هو قسمه لانحيازه إلى مفهوم العقل السببي، فهذا جعله يستطيع أن يفصل ثلاثة عقول فصلا ليس معرفيا فقط، ليس لأن بنية العقل تشتغل بهذه الطريقة ليس هذا هو السبب وإنما هو يريد ذلك. وما أفهمه من أن ( الجابري هو ابن رشد هذا العصر) هو أنه مال إلى ابن رشد وابن رشد مال إلى أرسطو وفتن به واعتبر أن العقل بمفهوم الأرسطي هو العقل الجدير بأن نأخذ به، والجابري هو ابن رشد أيضا لأن موقف ابن رشد من بقية العقول العقل الصوفي أو من العقل البياني هو أيضا موقف سلبي، والجابري هو ابن رشد لأنه يعول أيضاً على استعادة مفهوم العقل لتأسيس عقلانية جديدة وتأسيس عقل جديد وتأسيس فلسفة جديدة هو حصر نفسه في هذا المفهوم عن العقل، في حين نحن الآن في عصر تجاوزنا فيه مفهوم العقل الأرسطي بل تجاوزنا فيه أرسطو، بل إن الحضارة الأوروبية القائمة الآن هي حضارة على أنقاض أرسطو على نقد أرسطو، نسترجع فرنسيس بيكون حينما وضع الأوركونان الجديد علم المنطق الجديد، هو وضعه لكي ينقض المفهوم الأرسطي، فمع هذا المنهج تجاوزنا العقل الأرسطي في العقلانية الحديثة بل تجاوزنا مفهوم العقل كبنية ثابتة أن هناك عدم تعارض وأن هناك مبدأ هوية تجاوزنا أيضاً هذا المفهوم إلى أن ننفتح على عقلانيات متعددة في العالم، وأن نجد في كل عقلانية بما هي مجموعة من القواعد والمعايير لقراءة العالم وقراءة الإله وقراءة الكون، ننفتح على عقلانيات متعددة في هذه القراءات لا أن نبخسها ونجرحها لا أن نقف منها موقف المنتقص الذي يريد منها أن ترتفع وتلحق بالعقل الأرسطي وعلاقاته السببية. لكي تكون عقلانياً جديراً لابد أن تؤخذ كل الإضافات في الاعتبار. وأرجع إلى التقسيم الموجود وأرى أنه ليس إجرائياً وإنما هو انحياز إلى هذا المفهوم السببي وعلى أساس هذا الانحياز هو بخَّس أيضاً من العقل العرفاني ومن العقل البياني.
آيت وعلي: حينما تكلم الجابري عن القطيعة الأبستمولوجية حصرها داخل الحقل الفلسفي الواحد
في الوقت الذي يحصر الجابري البرهان في المغرب. ويتجلى المغرب العربي باشتغاله على المجال العقلي ثمة مفارقة أنه ذو أصول صوفية فقبل أن نتحدث عن الفترة الحديثة واشتغاله بمنهاج العقل الحديث أو علوم الإنسان الحديثة والمجال العقلي هو من أصول صوفية متعددة المشارب والمذاهب. وعودة إلى الجابري هل يتحمل مفهوم العرفان أن يصبح مكوناً للعقل العربي في ظل خصوصيته وكونه طارئاً أو مفتعلاً أو فيه شيء من ردة الفعل على الاتجاه العقلي أو شيء من ردة الفعل على الاتجاه السياسي كنوع التصوف أو الانعزال إلى جهة معينة حين تستلبه أيدي السياسة أو يقينيات العقل الصاخبة.
- يمكن أن نكون واضحين فإذا قلنا إن المفاهيم السابقة كانت خياراً إجرائياً بمعنى أن هذه الأشياء لم تكن مفصولة، لم يكن في تاريخ الفكر العربي هذا شيء عرفاني وهذا برهاني بهذا الشكل -لا أبداً- فحتى مع ابن رشد نجد أن من مكونات فكره أشياء بيانية، حينما قلت إنها عملية إجرائية تسهّل عملية البحث فقط لكي تتضح الرؤية، وليس بالضرورة أن يكون ما أنتج في المغرب هو فقط برهان غير صحيح، وإنما داخل العرفان حتى داخل التصوف هناك نوع من الواقعية ونوع من العقلانية بمعنى أن الجابري في تكوين العقل العربي يقول في أحد بحوثه داخل تكوين العقل العربي، القرآن كان يدعو الآخرين إلى العقلانية وهم يدعونه إلى أشياء أخرى، غير عقلانية ، مائدة من السماء، شيء من الخوارق ولكن القرآن كان عقلانيا، جاء ضد ما كان شائعا من غنوص وهرمسية ومانوية وغير ذلك وكان اقرب إلى منطق الواقع كان بعيدا عن الأشياء التي هي غير عقلانية. هذا المنطق هو الذي انتقل إلى الغرب الإسلامي بعيداً عن البيئة التي كان موجودا فيها، وحينما انتقل إلى الغرب الإسلامي وجد بيئة أخرى وجد أفكاراً أخرى وجد طاولة ممسوحة غير موجود فيها هذه الأشياء القديمة فاستطاع أن يعطي فكرا أقرب إلى العقلانية أقرب إلى البرهان ولكنه مشدود إلى البيان ومشدود إلى العرفان لأن الأصل آتٍ من المشرق، ولم تكن هناك قطيعة نهائية حينما تكلم الجابري عن القطيعة الأبستومولوجية، تكلم عن القطيعة داخل حقل واحد هو داخل الحقل الفلسفي، كان لديه ابن رشد وأمامه الغزالي أو ابن سينا، ليست هناك قطيعة داخل الحقل هناك امتداد للعقل المشرقي نحو المغرب ومن الصعب جداً أن نقطع بهذه الأشياء ونقسم جغرافياً أن العرفان كان في المشرق والبرهان كان في المغرب.
الديري: أحببت أن اعلق على الطاولة الممسوحة التي وردت في أكثر من مرة، وهي مغرية للتعليق، الطاولة الممسوحة كما يستخدمها السفير بأن هي الفكر الصافي أو الفكر الذي لم تصبه شائبة العقل الغنوصي، وهذه نقطة من النقاط التي هي ناتجة من انحياز الجابري لمفهوم العقل السببي. في الحقيقة أنا لا أعتقد أن هناك طاولة ممسوحة لا في الفكر المغربي ولا في الفكر العربي ولا في الفكر اليوناني أيضا، حتى الفكر اليوناني كانت إلى جانب العقلانية الموجودة عند فلاسفته كسقراط وأفلاطون وأرسطو أنفسهم كانت طاولاتهم مليئة بغبار إن صح ان نسمي أن الأساطير هي غبار في حين أجدها مادة للتفكير، لذلك نجد أفلاطون حواراته يفكر من خلال الأساطير يطوّر آلية إجراء الحوار عبر استرجاع مجموعة من الأساطير والتفكير من خلالها، كذلك أرسطو حينما توفي أحد أقاربه وضع القرابين. العقل البشري ليس طاولة ممسوحة، العقل البشري في كل لحظاته ملتبس دائماً بالميثولوجيا ملتبس دائما بالأساطير وهذه هي مكونات معرفية ومكونات العقل نفسه، هذه مسألة ناتجة من انحيازات معرفية من الجابري كونه يعتبر منطقة المغرب هي منطقة ممسوحة من غبار الأساطير ومنطقة المشرق هي منطقة مليئة بغبار الاساطير، وهذا أيضا يعبر عن هذا الانحياز.
- آيت وعلي: لا ليست المسألة مسألة الأساطير، فالفلسفة اليونانية انتهت إلى كثير من العرفان مع الأفلاطونية المحدثة هذا الجزء فقط لم ينتقل إلى المغرب بالشكل الذي استطاع أن يعيش في المشرق، أرض الديانات، وأرض الأفكار، والروحانيات هي المشرق، وهناك من يقول إن مكة هي وسط بين الوحي والمادي كلما اتجهت غرباً تقل الروحانيات وتزداد الماديات وكلما اتجهت شرقا تقل الماديات وتزداد الروحانيات إلى درجة أن في الهند مَنْ يعبد الحيوان، بينما هذا صعب جداً في الغرب. ليست المسألة مسألة أساطير بل مركز الديانات عاشت فيها الافلاطونية المحدثة، وما نقل نقل مع النخبة، وهي التي انتقلت إلى الغرب، النخبة التي هربت من مشكلة الخلافة ولجأت إلى أقصى نقطة جغرافيا ولم ينتقل معها الكثير من الأساطير المشرقية فقد كانت عندهم أساطير أخرى، والأمازيغ واليهود والمسيحيون نقلوا أساطير أخرى.
نويهض: اشتغال الجابري على التراث خطوة نوعية لتجاوزه
هل مازال العقل العربي يتحمل المزيد من الاستعادة للإشكاليات العربية القديمة والفلسفات القديمة كاشتغالات ابن رشد الفارابي ابن سينا، هل مازال المثقف العربي يتحمل المزيد من الاستعادة للاشكاليات العربية القديمة وإعمالها في الواقع الآني، ألا تجر هذه الاستعادة إلى استعادة أوضاع ومسائل من المفترض تم تجاوزها إلى معايشة حقيقية لأدوات هذا العصر واشتغالات حكام العصر واشتغالات الدول الكبرى واشتغالات آلة وتكنولوجيا هذا العصر؟
- هذه إشكالية كبيرة كيف نتعامل مع الماضي مع الحاضر والمستقبل. هذه مسألة معقدة ولكنها متداخلة لا بد أن نعترف أننا لا نستطيع أن نتجاوز التراث إذا لم نشتغل عليه واشتغال الجابري على التراث كان خطوة نوعية مهمة لأنه أعطى روحية وحيوية للاشتغال على هذا النص القديم باعتباره ليس قديماً فقط وإنما له دور فاعل ومعاصر، وربطه في بداية البحث عن سؤال النهضة الأوروبية وصلتها بتراث ودستور الرومان والفكر اليوناني. والنهضة الأوروبية أعادت ترجمة ما كانت تأخذه من اللغة العربية إلى البحث مباشرة عن النصوص الأصلية وتم الاشتغال على أرسطو وتجاوزه، فإذا أردنا أن نتجاوز لا بد أن نعود ونقرأ ونسترجع بعض هذه النصوص نعيد قراءتها حتى يتم تفكيكها وإعادة تركيبها وتجاوزها. لا نستطيع أن نتجاوز إذا لم نكن نعرف ماضينا وكيف يمكن التعامل معه، هذا الجانب مهم في التعامل مع التراث لأن هناك كلام أن التراث هو عائق أو مكبل ونحن في عصر التكنولوجيا، هذا لا يلغي العودة أو استعادة النص وإعادة قراءته ومن ثم تجاوزه.
مختارات من مقالات كُتبت عن الجابري بعد رحيله
الوسط – محرر الشئون الثقافية
كتب الكثير من المقالات والتعليقات في الصحف العربية عن أفكار محمد عابد الجابري ومشروعه الفلسفي بمناسبة رحيله. وتراوحت تلك الموضوعات بين الانطباعات الشخصية أو تبيان بعض النقاط أو إلقاء الضوء على زوايا غامضة في كتاباته.
«الوسط» اختارت بعض ما نشر في «الحياة» و»السفير» من قراءات حاولت إظهار دور الجابري في صناعة الفكر العربي المعاصر وتأثيره على جيله.
في صحيفة «الحياة» (الأحد 23 مايو/ أيار) كتب محمد الحداد عن «الجابري والتراث والاختلاف». وفي صحيفة «السفير» اللبنانية (الخميس 13 مايو أفردت صفحة كاملة حملت عنوان «حفيد ابن رشد» نشرت بالتعاون مع صحيفة «الاتحاد الاشتراكي» المغربية كتب فيها كمال عبداللطيف عن «طريق الحداثة يبدأ بنقد العقل»، وعبدالإله بلقزيز عن «رحلة بين العقل والوحي»، وعزيز الساطوري عن «الجابري لم يتأثر بخصومة الفكريين»، ويحيي بن الوليد عن الجابري «بين واجب التأويل ومقصلة التأويل».
الجابري والتراث والاختلاف
محمد الحداد
إني اعترفت أكثر من مرة بفضل الجابري في الدراسات التراثية، فهو الذي فتح أفق القارئ على تنوع المدونة التراثية وثرائها، وخلص التقليديين من أسر النص التراثي كما خلص الماركسيين من نزعة الإسقاط عليه. للجابري علينا دين لا ننساه وفضيلة لا ننكرها، لقد صالحنا مع النص التراثي، وكتبه الأساسية الأولى في التراث: «نحن والتراث»، «تكوين العقل العربي» و»نقد العقل العربي»، هي كتب مناصفة بين الجابري والمتن التراثي، فهذا المتن حاضر في كل صفحة حضوراً مباشراً، وهو منجم في فقرات وعبارات وجمل يقدمها الجابري على سبيل الاستشهاد، ولعله قد بالغ في ذلك إذا حاكمناه بحسب قواعد منهجية البحث، لكنه قد أمتع قارئه وجعله يتصالح مع النص التراثي إن لم أقل، مستعيداً رولان بارط، يتلذذ بهذا النص قراءة وتفكيراً. من هناك اندفع كثيرون يعودون إلى الأصل للاستزادة، ويتجاوزون الاستشهاد لقراءة الفصل والباب، ويسجلون العنوان المذكور في الهامش لاقتناء الكتاب كله. وعلى عكس عبدالله العروي ومحمد أركون، لا يكتفي الجابري بملامسة النص التراثي ملامسة رقيقة ثم يمضي في طرائق التأويل والتنظير، الجابري يشدك إلى النص في ذاته، فلا تدري وأنت تقرأ هل استهواك النص أم تعليق الجابري عليه، وهل تقرأ دراسة أم شرح نص. لقد علمنا الجابري حب النص والتعلق به. صحيح أنه كان ينبغي بعد ذلك أن نتخلص من الانبهار بالجابري للتخلص من أسر النص التراثي، لكن هذه الضرورة المشروعة لا تنفي أهمية الدين الذي نحمله للجابري. لم أترك الجابري ولم ألفظه يوماً، يبد أني تخليت منذ فترة طويلة عن قراءته بالشغف نفسه الذي كنت اقرأه به قبل ربع قرن، وأعترف أني ظللت أتابع كتاباته إلى الأخير منها، وأن نبأ وفاته نزل على نفسي كالصاعقة، ربما لأنه ذكرني أياماً من شبابي، وربما لأن الجابري قد فارقنا ونحن في أشد الحاجة إليه. أجل، المشكلة اليوم لم تعد «كيف نقرأ النص التراثي؟» بقدر ما أصبحت «كيف نرغِّب الناس في القراءة؟» ولقد كان الجابري، هذا المعلم العظيم، بارعاً في تقديم الإجابات على السؤال الثاني وتنويع طرق استهواء القارئ لإقحامه في شعاب التراث المعقد.
طريق الحداثة يبدأ بنقد العقل
كمال عبداللطيف
يتسم المشروع الفكري لمحمد عابد الجابري أولاً باقتناعه الراسخ بالوظيفة التاريخية للفكر والمفكر. وقد سمح له هذا الاقتناع برسم حدود معينة لمساره الثقافي والسياسي، فهو يعتبر أن للفكر وظيفة محددة تتمثل في قدرته على بناء التصورات المساعدة في عمليات تعقل وإضاءة أسئلة المجتمع والتاريخ بهدف المساهمة في تغييره وتطويره. وقد عمل في مختلف مؤلفاته على إنتاج الأفكار التي يعتقد بقدرتها على إسناد مشاريع ومؤسسات التغيير في المجتمع. وتعتبر هذه الخاصية في فكره محصلة لتكوينه الفلسفي المتبع بتصور معين لنزعة فلسفية تمنح المثقف والسياسي امتياز صناعة الأحداث وتوجيهها في التاريخ، نستطيع التأكد من ذلك في مختلف أعماله، كما نستطيع معاينة ذلك ونحن نستمع إلى الرجل مشاركاً في الندوات واللقاءات العلمية والسياسية.
ويتسم مشروعه ثانياً باهتمامه بإشكالات التحول السياسي الوطني في المغرب وإشكالات مشروع النهوض القومي في أبعاده الثقافية والسياسية، حيث تقدم أعماله مداخل قوية في مجال النظر إلى هذه الإشكالات. وقد ساعده في إنجاز ما أنجز من آثار نصية في هذا الباب استثماره كما قلنا لتكوينه الفلسفي ولمجموع العبر والخلاصات التي ترتبت عن التزامه بالعمل السياسي الوطني والقومي، وكذا مواكبته للمتغيرات المرتبطة بأشكال الصراع الدائر في العالم. فقد سمحت له محصلة العناصر المذكورة بتركيب المعطيات المعبرة عن مسعاه النظري، الهادف إلى إعادة بناء المشروع النهضوي العربي بالصورة التي تجعله يستوعب متغيرات التاريخ ومكاسبه، ومن دون إغفال مقتضيات الصراع التاريخي العالمي التي تشكل القضايا العربية في إطاره محوراً مركزياً، وذلك بحكم عوامل عديدة أبرزها نتائج التركة الاستعمارية، ونتائج الصراع الإيديولوجي الذي ساد في العالم بعد الحرب العالمية الثانية، ثم نوعية التحولات التي عرفتها نهايات القرن العشرين وما خلفته من نتائج، ومعطيات جديدة معمقة لدرجات وآليات الصراع الدائر في مجال العلاقات الدولية. فعندما يعمل الجابري في أبحاثه على مواجهة كل ما ذكرنا، فإنه يتجه أساساً إلى تركيب أشكال جديدة من المواءمة بين الطموح التاريخي لأمة معينة، ومتطلبات الشروط والظروف المؤطرة للحاضر، دون أن يعني ذلك التفريط في المبادئ الكبرى التي لا يتأسس المشروع النهضوي العربي من دونها، ونقصد بذلك الاستقلال والتحرر والنهضة.
أما السمة الأبرز والأهم في أعمال الجابري، فتتمثل في نظرنا في مشروع نقده للعقل العربي، وهو مشروع يهدف من ورائه إلى تفكيك آليات عمل الفكر العربي، من أجل تخليص الثقافة العربية من الوسائل الفكرية التقليدية المتحكمة في أنماط مقاربتها وفهمها للظواهر، ولاشك في أن إشكالات الحاضر العربي في أبعادها ومستوياتها المختلفة هي التي أملت عليه العناية بسؤال التراث وبنائه لأطروحة فكرية في موضوعه، أطروحة تجسدها بكثير من الجهد والاجتهاد مجلدات أربعة كبيرة سمحت له ببناء أطروحة متميزة في باب الموقف من التراث.
عبدالإله بلقزيز
الحق أن «نقد العقل العربي» هو بيت القصيد في المشروع الفكري للأستاذ الراحل، فهو مصبّ روافده الفكرية كافة. وبيان ذلك أنه إذ اجتمعت في فكره اهتمامات شتى: من الانشغال بالتراث الثقافي والديني، إلى العناية بالدرس الابستيمولوجي، إلى الانقطاع الدائم للسياسة وأسئلتها...، فإن الاهتمامات هذه إنما وجدت كيمياءها التركيبية في «نقد العقل العربي». فإلى موضوعه (التراث الإسلامي)، اتسعت مساحة تشغيل أدوات التحليل الابستيموالوجي، ووجد سؤال الراهن السياسي مكانه ولو من وراء حجاب.
على أن الجابري شاء أن يجعل من هذا المشروع مناسبة لتطوير الاهتمامات تلك وشحذ أسئلتها أكثر:
فالهاجس العلمي المنصرف إلى دراسة التراث – وقد بدأ مبكراً في أطروحته للدكتوراه عن ابن خلدون وفي دراساته المضمومة على بعضها في «نحن والتراث» – ترشد أكثر منذ مطالع الثمانينيات من القرن الماضي، فانتقل من حده الابتدائي – التدشيني (نقد التراث) إلى حده الأعلى والأنضج (نقد العقل)، فاتحاً بهذا الانتقال أفقاً جديداً أمام دراسات التاريخ الثقافي الإسلامي لم يشاركه أحد في فتحه – من الباحثين العرب – سوى محمد أركون (فياشتغاله على نقد العقل الإسلامي).
وهاجس الدرس المنهجي الابستيمولوجي، الذي بدأ تربوياً في دروس الجامعة ونشر منه دراستين حول «فلسفة العلوم»، والذي اختبر بعض مفاهيمه في دراساته المجموعة في كتابه «نحن والتراث» ثم في «الخطاب العربي المعاصر»، سينعطف في التطبيق انعطافة حاسمة مع «نقد العقل العربي»، حيث ستتجاور مفاهيم التحليل النفسي الفرويدية ومفاهيم ميشيل فوكو وأخرى لريجيس دوبري (في تحليل العقل السياسي) تجاوراً خلاقاً وتركيبياً لا افتعال فيه ولا تلفيق، مع مرونة في الاستخدام وتبيئة (للمفاهيم) مدهشة.
أما هاجس السياسة، فما فارق الجابري. ولكن بينما أطل على تأليفه في سنوات الستينيات والسبعينيات على نحو صريح وفي لغة سياسية مباشرة، جنح – بدءاً من عقد الثمانينيات – نحو اللغة النظري أو قل نحو استشكال نظري أعمق، نلحظ ذلك في كتب مثل «الخطاب العربي المعاصر»، و«الدولة والدين وتطبيق الشريعة»، وفي «الديمقراطية وحقوق الإنسان»، و«في نقد الحاجة إلى الإصلاح». غير أن حضوره في مشروع «نقد العقل العربي» اكتسب قيمة فكرية أشمل، فإلى أنه أفرد له جزءاً خاصاً، هو الجزء الثالث («نقد العقل السياسي»)، ظل هاجس السياسة هذا في أساس المشروع كله: وإن بلغة المعرفة. ومع أن أحداً لا يملك أن يتجاهل البعد الفكري والمعرفي للمشروع كنص نظري ودراسي رفيع المستوى في التاريخ الثقافي، إلا أن سؤال السياسة يقبع خلفه ويؤسسه. وليس السؤال ذاك سوى سؤال النهضة والتقدم واتصال التراث به: إعاقة أو تمكيناً.
عزيز الساطوري
انبرى الكثير من المفكرين لمناقشة نظرية الجابري، وشهدت الساحة الفكرية العربية سجالات عديدة بهذا الخصوص، لكن يبقى أشهرها تلك التي خاضها المفكر السوري جورج طرابيشي الذي خصص نحو عشرين سنة لمناقشة نقد العقل العربي والرد عليه، والتي اعتبرها المفكر السوري صادق جلال العظم أنها ذكَّرته بالمناظرة التاريخية «التي جرت بين العزالي في المشرق وابن رشد في المغرب».
ويفسر طرابيشي تخصيصه كل هذا الوقت والجهد للرد على مشروع الجابري عوضاً عن إنجاز مشروعه الشخصي لقراءة التراث الإسلامي بالقول: هذا المأخذ صحيح وغير صحيح في آنٍ. فهو صحيح مادام كل «مشروعي»، قد انحصر بنقد للنقد. ولكن هل فعلاً ما فعلت شيئاً سوى أن «رددت» على الجابري. لا أعتقد... فالواقع أن الجابري قدم لي المناسبة، التكئة، نقطة الانطلاق، لكن ليس محطة الوصول. فقد كفّ مشروعي عن أن يكون مشروعاً لنقد النقد ليتحول أيضاً إلى إعادة قراءة وإعادة حفر وإعادة تأسيس. أو هذا ما أرجوه على الأقل.
أخذ طرابيشي على الجابري قوله إنه يوظف «الابستمولوجيا في خدمة الإيديولوجيا. وهي إيديولوجيا متعصبة لما يسميه بالعقلانية المغربية ضد اللاعقلانية المشرقية، وللبيان السني ضد العرفان الشيعي، وللإسلام السياسي في خاتمة المطاف ضد الإسلام الروحي. لكن أنا مدين للجابري، ولأعترف بذلك، فقد اضطرني إلى أن أخضع نفسي قبل أن أخضعه هو نفسه لمراجعة حساب شاملة».
غير أن المدافعين عن المشروع النهضوي الكبير الذي أسس له الجابري يرون أن معظم منتقديه، وعلى رأسهم طرابيشي، اكتفوا بدراسة الكفر العربي ونقده من منطلق أن «الفكر» هو الذي ينصبغ بالخصوصية المحلية، فيما «العقل» وادٍ في الشرق والغرب، في الوقت الذي قام فيه الجابري ينقض هذه البديهية، مبتكراً مصطلح «العقل المستقيل» وقد أثبت بذلك أنه لا يمكن الاكتفاء بنقد الفكر بل العقل العربي في كليته.
وفي لقاء له مع صحيفة «الاقتصادية» السعودية، تعرض الجابري إلى سجالاته مع الكثير من المفكرين، وقال بهذا الخصوص عن طرابيشي: «طرابيشي استقبل كتابي» «نحن والتراث» بحفاوة كبيرة، غير أن حادثة شخصية غيرت رأيه الفكري كلياً تجاهي، ليؤلف لاحقاً كتاباً يقول في مقدمته «لقد سيطر الجابري على عرش الثقافة العربية ويجب إنزاله منه». وقد توقفت عند هذه الجملة ولم أجد ما يدعوني لاستكمال قراءة الكتاب».
وكشف الجابري عن أنه كلم محمد أركون طالباً منه أن يشرف على أطروحة جورج طرابيشي للدكتوراه ليفاجأ لاحقاً بأن الأخير لا يحمل الشهادات العلمية الكافية لهذه الدرجة، وأنه يريد أن يحصل على الدكتوراه من خلال مناقشة مقالاته فقط!
بين واجب التأويل ومقصلة التأويل
يحيى بن الوليد
كتبت عنه كتب مستقلة أنجز بعضها مفكرون مكرسون ولهم مكانتهم في خريطة الفكر العربي، عدا نشير إلى كتاب «هل هنك عقل عربي؟» لهشام غصيب (1993)، و«من الاستشراق الغربي إلى الاستشراق المغربي» لطيب تيزني (1996)، و«نقد العقل العربي في الميزان» ليحيى محمد (1997)، و«نقد العقل أم عقل التوافق» لكمال عبداللطيف (1999)، و«الرؤى المختلفة» لسيار الجميل (1999)، و«الجابري بين طروحات لا لاند وجان بياجيه» لمحمد مبارك (2000). ثم جورج طرابيشي الذي يفرض ذاته أكثر مادام الوحيد الذي كرس لمشروع «نقد العقل العربي» مؤلفا ضخما جاء تحت عنوان «نقد نقد العقل العربي» وقد اطلعنا على ثلاثة أجزاء منه هي «نظرية العقل» (1996)، و«إشكاليات العقل العربي» (1998)، و«وحدة العقل العربي الإسلامي» (2002). وهناك أيضاً كتاب «الرؤية العرفانية في العقلية العربية» لفاطمة سامي فرحات (2002)، و«الكتلة التاريخية من غرامشي إلى الجابري وملاءمتها للبحرين» لعبدالله جناحي (2004)، و«الفكر الإمامي في نقد الجابري» لأحمد محمد النمر (2005)... وصولاً إلى كتاب «التحليل والتأويل: قراءة في مشروع محمد عابد الجابري» لعلي المخلبي الذي هو من بين آخر الإصدارات حول الجابري (2010).
هذا بالإضافة إلى الحضور المتميز للمشروع، الذي بلغ حد الهيمنة في أحيان، داخل كتب مثل «مدخلات» لعلي حرب (1985)، و«مذبحة التراث في العقل العربية المعاصرة» لجورج طرابيشي (1993)، و«تجديد المنهج في تقويم التراث» لطه عبدالرحمن (1994)، و«البنيوية وتجلياتها في الفكر العربي المعاصر» لإبراهيم محمود (1994)، و«قراءات نقدية في الفكر العربي المعاصر» لعلي حب الله (1998)... كما حظي مشروع الجابري بمناقشات أخرى في كتب مثل «الوعي والوعي الزائف في الفكر العربي» لمحمود أمين العالم (1986)، و«التراث والهوية» لعبدالسلام بن عبدالعالي (1987)، و«التراث بين السلطان والتاريخ» لعزيز العظمة (1987)، و«نقد العقلانية العربي» لإلياس مرقص (1987)، و«نقد النص» لعلي حرب (1993)، و«أسرى الوهم» لأحمد برقاوي (1996)، و»الفلسفة العلمية» لعبدالقادر محمد علي (1997)، و»سلطة النص» لعبدالرحمن الهادي (1998)، و«قراءة نقدية في الفكر العربي المعاصر ودروس في الهرمينوطيقا التاريخية« لمحمود إسماعيل (1998)، و»ميشيل فوكو في الفكر العربي المعاصر» للزواوي بغورة (2001)، و«جاذبية الحداثة ومقاومة التقليد» لمحمد الشيخ (2005)... إلخ.
بعض إضاءاته
- ليس في وسعنا مقاومة الهيمنة العالمية الامبريالية الاستعمارية من خارج نظامها، أو مواجهتها من الخارج؛ بل لابد من أن نجد لأنفسنا طرقاً ومداخل للنضال والسعي والعمل ضدها من الداخل.
- إننا نهرب من الوقائع ونفكر على أساس الممكنات.
- عبر منهج تفكيك النصوص وخلخلة الثوابت العقلية، يمكن قيام حوار وحصول نتائج تطول تلك الثوابت وتصلحها وتغير فيها.
- عنصر الحلم يطغى على واقعنا وتفكيرنا.
- نحن واحد من «نحن» كبيرة جداً هي العالم الذي يسمى الآن جنوباً.
- «التبْيئة» تعني أن نأتي بالأسس التي يقوم عليها العمل فننتج ونطور نحو الأفضل.
- العمل النقدي في التراث يشترط استرجاعه ومحاورته للرفع من مستوى التفكير إلى المستوى الذي يرتقي فيه مع العصر.
- إن إرادة المستقبل مشلولة جوفاء إن لم تبن على إرادة التغيير وعلى الممارسة العقلانية.
- ما الذي بقي مستمراً فينا من التراث؟
- من الصعب أن يتحول العقل العربي إلى عقل نقدي بممارسة النقد في تراث الآخر؛ الأجدى ممارسة النقد في تراثنا لنكتسب من خلال الممارسة روحاً نقدية أصيلة.
- الأسئلة الزائفة هي التي تسأل عما لم يحصل في التاريخ، وتروم معرفه سببه، في حين أن السؤال التاريخي هو الذي يسأل عما حصل فعلاً.
- لو أردت أن تقول: «إن أرسطو لم ينتفع به اليونان لصح قولك؛ فبعد أرسطو وقع انحطاط لدى اليونان والذي انتفع بأرسطو هم العرب، كذلك الأمر في خصوص ابن رشد لم ينتفع به العرب وأفادت منه أوروبا.
- لم تبق الفلسفة اليوم ذاك القطاع الفكري الذي يملك حلولاً سحرية جاهزة لمشكلاتنا كلها. اليوم تتولى العلوم الأعباء وحل المشكلات.
- أرى أن الأميركيين يختبئون خلف خيالهم بالقول: إنه «صراع حضارات» إنه توازن مصالح، لا صراع حضارات.
- أن يضع المرء المجتمع المدني في مقابل الأصولية فهذا موروث فرنسي.
- لا يسعك أن تمنع مجتمعاً من تعدد الأفكار والصياغات والسياسات والتوجهات.
- الإسلام ليس فكراً وحيداً؛ الإسلام فكر متعدد لأنه اجتهاد.
- ثمة فراغ في مجال التأريخ الفكري الأخلاقي في الإسلام.
العدد 2834 - الأربعاء 09 يونيو 2010م الموافق 26 جمادى الآخرة 1431هـ