الأحلام الوردية (تحقيق المجتمع الفاضل) التي دفعت الثنائي الماركسي إلى توقع التغيير السريع وبالتالي الانزلاق نحو نوع من «المثالية المادية» يراهن على زوال التناقضات (إلغاء الطبقات والصراع الطبقي) وغياب تدرجي للدولة من مسرح التاريخ جاءت بناءً على ذلك التفاؤل العقلاني الذي اجتاح القارة بسبب الآمال التي تأسست على الاكتشافات والاختراعات والتقنيات وما أثارته من وعود أخذت بهيكلة العلاقات البشرية على قاعدة متطورة (واعية) في التنظيم.
آنذاك تحولت جامعات أوروبا ومعاهدها وأكاديمياتها في إيطاليا وفرنسا وبريطانيا وألمانيا إلى منارات تجذب دول العالم. ومنذ مطلع عشرينات القرن التاسع عشر أخذت تركيا ومصر بإرسال بعثات التعليم والتدريب للدراسة والاطلاع والترجمة والتعرف على المنجزات والاختراعات والتقنيات الآلية والعسكرية والمهنية والحرفية والصناعية والزراعية الحديثة التي أنتجتها القارة أو توصلت إليها.
الثنائي الماركسي بنى أحلامه الوردية على مشاهدات عينية وتحولات ملموسة يرى نتائجها في مختلف قطاعات الاتصالات والمواصلات وحقول الإنتاج والمعرفة والاختراقات النوعية في مجالات الطاقة وتفرعاتها الآلية والاجتماعية. وشكلت هذه المنجزات الاستثنائية في زمن قياسي من التطور النوعي حوافز شجعت النخبة على المبالغة في التوقعات والمراهنة على المستقبل والخروج السريع من تداعيات الفوضى التي أنزلتها الثورة الصناعية في موجاتها المتتالية الثلاث.
أوروبا إذاً لم تكن بعيدة عن الحلم. فالوقائع اليومية والأخبار المتناقلة والأنباء التي كانت تنشرها الصحف عن اختراعات واكتشافات وإنجازات علمية وتقنية رفعت من نسبة التفاؤل وحثت النخبة على المسارعة بالتبشير بوجود خشبة خلاص للعالم تنقله من عصور الظلمة إلى مستقبل تنويري باهر تعمه السعادة التي أخذت تشع لا من الكتب والأفكار فقط وإنما أيضاً من التطور الميداني الذي بدأ نطاقه بالاتساع. آنذاك كان الأميركي ادوين دراك قد اكتشف النفط في العام 1859 وبدأ الكلام عن وجود طاقة بديلة للفحم الحجري وكافة مشتقات الخامات البدائية التي تستخدم في الوقود وتحريك الآلات والمصانع.
اكتشاف دور مادة النفط في النصف الثاني من القرن التاسع عشر شكل قفزة نوعية في تطور الطاقة من الفحم والبخار إلى قوة بديلة تولد ديناميات حرارية لتأمين المواد للإنتاج أو السلع للاستهلاك. وتطور مصادر الطاقة شجع على تحديث آلات البخار وتطويرها حتى تكون جاهزة تقنياً لاستقبال المادة الحرارية الجديدة. ولم يمضِ الوقت الطويل حتى أقدم النمسوي سيغفرد ماركوس على إعادة هيكلة السيارة وتحديث محركها (احتراق داخلي) يعمل بالبنزين في العام 1875. وهذا التقدم الذي تحقق شجع الألماني كارل بنز في العام 1885 على إعادة هيكلة محرك السيارة لتعمل بالبنزين وتكون قابلة للتسويق والاستخدام التجاري (المواصلات والنقل).
التطور في الربع الأخير من القرن التاسع عشر لم يقتصر على تنويع مصادر الطاقة وتحديث آلات الإنتاج وإنما أخذ ينتشر ليشمل مختلف فروع النقل والمواصلات والاتصالات. آنذاك كان الاسكتلندي غراهام بيل قد اخترع الهاتف في العام 1876 ليسهل على الدوائر الرسمية والصحف والمؤسسات الصناعية عمليات الاتصال التي كانت تعتمد على أجهزة التلغراف. إلا أن الاكتشاف المهم الذي سيقلب حياة البشرية حتى أيامنا كان اختراع الأميركي توماس أديسون الكهرباء في العام 1879. فهذه الطاقة المبتكرة نقلت الناس إلى نوع من الرفاهية والتمتع بساعات الليل وهي أيضاً دفعت الطاقة قفزة نوعية من عالم النار إلى عالم الكهرباء (البطارية، والمصباح) والإضاءة في المنازل والشركات وشوارع المدن. وأديسون الذي حقق هذه الثورة الكبرى في حياة الإنسان تشجع على توسيع إنجازه (المصباح) واستخدامه لتنوير الطرقات وتركيبه في السيارات للمساعدة على النقل الليلي. وبسبب هذا الطموح نجح أديسون في العام 1883 في وضع أول نظام إضاءة كهربائي في الخدمة المدنية ما ساهم في توفير خطوة للرفاهية الاستهلاكية من جانب والتقدم الصناعي من جانب آخر.
كل هذه الخطوات النوعية في مجالات التقدم ما كان بإمكانها أن تمرّ من دون مراقبة من النخبة وتدوين ملاحظاتها على مجرى التحولات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والعلمية. فأوروبا خلال أربعة قرون حققت قفزات نوعية لا على مستوى الملاحة البحرية والاكتشافات الفلكية والإصلاح الديني فقط وإنما أيضاً على مستويات الاختراعات في الآلات والتقنيات والطاقة والطبابة والاتصالات والمواصلات.
على صعيد النقل تطورت شبكات سكك الحديد (القطار) وأخذت تسرّع من حركة المواصلات. على صعيد الاتصالات تحسنت شروط نقل المعلومات والأنباء من التلغراف إلى الهاتف. على صعيد الطبابة تطور علم التشريح (والأجنة) بعد اختراع المورفين. كذلك انتقلت الطاقة بسرعة من عصر الفحم الحجري والبخار إلى النفط (البنزين). وهذا التطور أنجز في مجموعه آليات بشرية أخذت تتحرك للتجاوب مع التقدم العلمي وحاجات السوق واتساع المتطلبات الاستهلاكية للناس.
كل هذا التقدم تحقق على قاعدة اكتشاف أو اختراع 13 إنجازاً اتسم بالنوعية القصوى. في القرن الخامس عشر كانت الطباعة، وفي الثامن عشر كانت الآلة البخارية والتلغراف والقطار والسيارة (تعمل بالمحرك)، وفي القرن التاسع عشر كان المورفين والنفط والهاتف والكهرباء (المصباح) وتحديث محرك السيارة (البنزين) والكاميرا. الكاميرا التي التقطت أول صورة في العام 1826 تطورت آلياً إلى أن نجح الفرنسي لويس لوميير في اختراع الصور المتحركة (السينما) في العام 1895 ما سيكون له أثره في تغذية مخيلة الإنسان وتطوير حسه الفني في التقاط الجزئيات والمفارقات.
الصورة العامة عن مستقبل الإنسان جميلة وباهرة وهي في أبعادها الرمزية كانت تؤشر إلى وجود شيء ما سيحصل (احتمالات مفتوحة) إذا لم تسارع الدول إلى ضبط الانفلات والفوضى وإعادة تنظيم المجتمع وتأهيله عقلانياً (كما كان يريد كونت) أو تغييره (كما كان يريد الثنائي الماركسي). فالتطور المتسارع أنتج تصورات تبالغ في التفاؤل من الابتكارات والإنجازات إلى جانب ملاحظات كانت تتخوف من الانعكاسات السلبية للتقدم التقني وتداعياته على مختلف المستويات والحقول. فالصورة العامة كانت جميلة وتبهر الأنظار ولكن وراء الستار كانت هناك تحولات مغايرة تدفع الأمور إلى نزاعات ومغامرات تعكس سلباً تلك الأحلام الوردية وتحولها إلى كوابيس. فالتقدم الأوروبي الذي تحقق في سرعة زمنية قياسية شجع على توليد طموحات هائلة تركزت على إظهار عظمة الإنسان وقوته الذاتية وعزيمة الإرادة التي يتمتع بها.
نمو الذات (التركيز على الفرد) أعطى تلك المساحة لظهور نزعات متطرفة في الإلحاد وإلغاء «العلة الأولى» وحصر الأسباب والمسببات في الطبيعة والبشر والتركيز على العقل والعلم والتجربة والزمن وبالتالي المستقبل لإنقاذ الناس من التخلف والحروب والجوع والمرض وغيرها من مشكلات اجتماعية وكوارث البيئة والزلازل والفيضانات (السيطرة على تقلبات الطبيعة).
المراهنة على عظمة الإنسان (مركز الكون) دفع التنافس البشري إلى حده الأقصى في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وشجع الدول المتقدمة تقنياً على تطوير آلات القتل بغية السيطرة على العالم. آنذاك برزت في ألمانيا ظاهرة الصناعي الفريد كروب (1812 - 1887) الذي اشتهر في زمنه بأنه صاحب أكبر مصانع التعدين (الفولاذ) التي زودت غالبية دول أوروبا بالسلاح ومن دون اكتراث للاستخدامات المؤلمة أو انتباه لمن تذهب آلات القتل والإبادة.
الصورة لم تكن كلها جميلة من مختلف الزوايا. فهناك الهاتف والكهرباء والسينما وتطور النقل والمواصلات (القطار والسيارة) وهناك أيضاً نمو اتجاهات استبدادية ترفض المزاحمة والديمقراطية والليبرالية والحرية وحق الشعوب بالمساواة والرخاء وتطمح للسيطرة والتحكم بمصادر الطاقة وثروات البشر بذريعة أن الأقوام «المتخلفة» و»المنحطة» لا تستحقها.
هذه الفضاءات الجميلة والمخيفة في آن عاصر ماركس بعض جوانبها وعايش انغلز المزيد من تطوراتها وتفاعلاتها. فالتقدم كان سريعاً ولم يتوقف إلى درجة أثار لدى بعض شرائح النخبة حالات من الجنون ترافقت مع نمو ظاهرة الانتحار خوفاً من مجهولات المستقبل.
كان من الطبيعي والمنطقي أن تترك هذه الطفرة النوعية في عالم التقنيات والاكتشافات والاختراعات تأثيرها على الحياة الاجتماعية للناس وألا تمرّ من دون أن تراكم مجموعة ملاحظات وتثير عقل النخبة الأوروبية وتحرضه على طلب المزيد وتشده نحو وضع تصورات أو مخططات تعيد توظيف المنجزات واستثمار الاختراقات في إطارات فلسفية متخالفة وغير متجانسة. فالمشكلة التي أخذت تنمو وتتطور كان لها صلة بأسلوب القراءة ومنهج التفكير وكيفية التعامل مع التقدم والتطور والرقي. وهذه المفارقات المتمثلة في عدم توافق الأمزجة النخبوية ساهم في ترسيم برامج (أطر تنظيمية) متقابلة تسير في مسارات متوازية أحياناً ومتضاربة أحياناً أخرى، إلا أن توقيت الفلاسفة للحظة التقدم الحديث وتطور أوروبا المعاصر وارتقاء منظوماتها العمرانية والمعرفية تقاربت معظم الاتجاهات على تحديده بالقرن الخامس عشر. والطفرة التي بدأت بهدوء منذ ذلك القرن الفاصل بين طورين من الحضارة تأسست على جهود آلاف السنين واختراعات الشعوب على أنواعها. فما حصل في أوروبا من اكتشافات وتطويرات نوعية في الفكر والفلسفة والفن والتقنيات نهض في لحظات زمنية سريعة على مجموعة متراكمة من تاريخ الإنسان أدت إلى توليد قفزة هائلة في حياة البشر حين توافرت لها الظروف المناسبة للاندفاع.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2828 - الخميس 03 يونيو 2010م الموافق 20 جمادى الآخرة 1431هـ