ردود الفعل التي نجمت عن الهجوم العسكري على «قافلة الحرية» لكسر الحصار عن قطاع غزة لم تتوقعه حكومة أقصى التطرف أن يكون بهذا الحجم الدولي والإقليمي والإعلامي والإنساني. فالتعليقات السلبية التي صدرت عن بعض العواصم في العالم أعطت عينة عن وجود متغيرات في أسلوب التعامل مع دولة استيطانية أخذت تفقد وظيفتها مع الزمن.
الردود القوية تؤشر إلى نوع من التطور الإيجابي في المواقف الدولية حتى لو كان بعضها اتسم بالميوعة والمرونة ولم يصل في نقده إلى المستوى المطلوب. ولكن ما صدر حتى الآن من بيانات استنكار ومظاهرات احتجاج ومواقف دبلوماسية تشكل في مجموعها عناصر كافية يمكن البناء عليها لتأسيس رؤية تعطي إشارات مهمة إلى تحولات أخذت تتشكل في الأفق السياسي البعيد.
حكومة بنيامين نتنياهو لم تتوقع أن تكون ردود الفعل حاسمة إلى هذه الدرجة. ولو كانت على علم بحصول هذه الاحتمالات ربما كانت اختارت سلوك طريق آخر أقل كلفة مما تمظهر على مختلف الساحات الدولية والإقليمية. فالقافلة المحملة بالسلع والمواد الغذائية والطبية لا تسدّ جوع أهل القطاع ولا تستطيع إنقاذ اقتصاد غزة من الحصار. المسألة من أساسها رمزية وهي مجرد رسالة اختبار أرادت هيئات إنسانية ومنظمات مستقلة توجيهها لتذكير العالم بأن التعاملات التي كانت تعتمدها «إسرائيل» سابقاً لم تعد مقبولة ولابد من الضغط عليها لتكون دولة تحت سقف القانون.
هذه الرسالة الصغيرة والبسيطة كان يمكن لها أن تمر بسهولة وسلام لو كانت تحكم تل أبيب حكومة ذكية تقرأ الإشارات بعقلية دولة لا مستوطنة. إلا أن سياسة الاستيطان التي تتحكم بسلوك حكومة أقصى التطرف دفعت تل أبيب إلى التعامل مع المسألة بعقلية أمنية أدت إلى إعطاء الخطوة جرعة سياسية رفعت من قيمتها الإنسانية وأبعادها القانونية ما أدى إلى تعديل الصورة وتدوير زواياها. فالصورة الآن أصبحت معكوسة رمزياً وبات القطاع يحاصر «إسرائيل» معنوياً مقابل محاصرة تل أبيب لغزة مادياً.
ما حصل من تداعيات سلبية على الجانب الإسرائيلي يتطلب قراءة ذكية من الجانب الفلسطيني لا تفرط بتلك النتائج الإيجابية لأسباب حزبية وزعامات محلية. فالمردود حتى الآن يشكل في خطوطه العريضة معالم طريق كافية لاحتواء حاجات ومتطلبات مختلف القوى من سلطة وفصائل فلسطينية. ما حصل ليس بسيطاً سواء على المستوى الدولي أو على مختلف المستويات العربية والإقليمية. و«إسرائيل» مهما بالغت في الاعتداد بنفسها فهي لن تستطيع التهرب من مسئولياتها من دون مراقبة إعلامية وملاحقة قضائية وكلفة سياسية.
الصورة التي أخذت تتمظهر على المشهد الدولي والإقليمي والعربي تحتاج إلى رؤية تؤسس منهجية جديدة في التعامل مع المسألة الفلسطينية وما تقتضيه من مراجعات تعدل جزئياً تكتيكات النضال التي كانت متبعة في السنوات الماضية. فالقافلة الإنسانية (المقاومة المدنية) أعطت نتائج سياسية أقوى بكثير من العمليات العسكرية التي كانت الفصائل مضطرة للقيام بها بين فينة وأخرى. والمردود المجمع حتى الآن يوازي في قوته الانفجارية مئات الصواريخ ذات الصنع المحلي. وبهذا المعنى الملموس لابد أن تساهم «قافلة الحرية» في تكوين قراءة فلسطينية تستطيع أن تتعامل بذكاء مع تلك النتائج الجيدة التي أعطتها تلك الخطوة الرمزية والبسيطة.
التفريط بالمردود يشكل فعلاً خطأ بحق القضية، وهو يوازي في نتائجه كل ردود الفعل التي جاءت بناءًَ على تصرف تل أبيب مع قافلة الحرية بعقلية المستوطن الذي لا يقيم الاعتبار لكل المعادلات الإقليمية والتوازنات الدولية لأنه لا يرى العالم إلا من زاويته الذاتية التي تتسم بالعنف والتوتر والقلق وضيق الأفق.
هناك فرصة قد لا تتكرر انفتحت أبوابها أمام الجانب الفلسطيني. والفرصة تؤشر إلى ضرورة الدخول في دائرة النقاش العقلاني لإعادة توحيد الشارع والمؤسسات والقيادة في إطار مبرمج يحدد الأولويات ويرتب الأوراق وفق نظام مدروس يأخذ في الاعتبار تلك المتغيرات المحدودة التي أخذت تتمظهر في الأفق الدولي وحلقاته الإقليمية وأسلوب تعاملها مع الاستيطان والاحتلال الإسرائيلي.
«إسرائيل» لم تعد دولة مطلوبة كما كانت عليه في خمسينات وستينات وسبعينات حتى ثمانينات القرن الماضي. فهذه الدولة الاستيطانية بدأت تفقد رويداً وظيفتها التاريخية، وأفعالها لم تعد مرغوبة أو على الأقل لم يعد بإمكان «الغرب» تقبلها وتمريرها والتغطية عليها كما كان يحصل منذ تأسيسها في العام 1948.
هذا التحول البسيط والهادئ والتدرجي أخذ يتراكم في القيمة الحسابية العامة ما يفتح أمام الشعب الفلسطيني (سلطة ومقاومة) مجموعة آفاق تحتاج إلى قراءة واعية تتعامل بذكاء ومن دون مبالغة وانفعال مع متغيرات في المشهد السياسي. فالفرصة قد لا تتكرر ولكنها ربما تكون فاتحة طريق أو ثغرة في جدار الفصل العنصري الذي يبدو أنه بدأ يتلاشى أمام عالم يتشكل في الأفق البعيد وقريباً من دول الجوار.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2827 - الأربعاء 02 يونيو 2010م الموافق 19 جمادى الآخرة 1431هـ