بالإجماع وافق مجلس النواب اللبناني بمن حضر على قرار خفض سن الاقتراع من 21 إلى 18 سنة بعد جدل سياسي استمر أكثر من ثلاثة عقود. بعض الذين طالبوا بخفض سن الاقتراع في سبعينات القرن الماضي بلغوا الآن مرحلة التقاعد والبعض الآخر رحل عن الدينا قبل أن يشهد ولادة القانون.
كيف توصل النواب إلى التوافق على قرار كان مدار نقاش طويل؟ ولماذا اجتمعت مصالح قوى «8 آذار» مع تطلعات قوى «14 آذار» على مسألة خلافية؟
موضوع التصويت في لبنان لا يمكن عزله عن مخاوف الديموغرافيا والنمو السكاني المتفاوت بين طائفة وأخرى ومذهب وآخر. وبسبب مشاعر الخوف من الغلبة السكانية لجأ المعترضون على قانون خفض سن الاقتراع إلى ذرائع كثيرة منها «قلة الخبرة» و«نقص الوعي» و«حماس الشباب» و«صعوبة الاختيار» و«الضعف في اتخاذ القرار المستقل» و«تأثير الأهل» وغيرها من عوامل شكلت مجتمعة واسطة سياسية لتأخير القرار دورة بعد دورة.
الاعتراضات اختلفت وتنوعت وتطورت من جيل إلى جيل ولكنها كانت في مجموعها تتحايل أو تتهرب من قول الحقيقة. فالأسباب الاجتماعية والتربوية والثقافية التي اتخذت ذرائع للتغطية لم تكن هي العوامل الفعلية للاعتراض على خفض سن الاقتراع. ربما يكون العامل السياسي أحد الروافد الفرعية باعتبار أن سن المراهقة يتميز بالحراك الميداني وأحيانا التهور وعدم التفكير الدقيق في اختيار المترشح المناسب في المكان المناسب. إلا أن السياسة الناضجة أو المجردة من الأهواء والأنواء لم تكن هي الدافع الذي حال ومنع التوافق على اتخاذ القرار.
العوامل الأخرى، وهي مخفية في تفصيلات النصوص المضادة، شكلت في مجموعها قوة دفع رباعية لتعطيل الإجماع على تعديل سن الاقتراع. وأبرز تلك الأسباب الكامنة في الخطاب الإعلامي كان الخوف من تعديل التوازن الطائفي المتوافق عليه في التمثيل النيابي. فالنمو الديموغرافي الذي عرفته المذاهب المسلمة منذ إعلان دولة لبنان والحصول على الاستقلال ساهم في تعديل التوازن السكاني وشجع على نهوض ثقافة غير قادرة على الاستمرار في حماية نموذج يعتمد نظرية التساكن أو التعايش بين الطوائف في بيت واحد.
اختلاف نمو الديموغرافيا كان السبب، وهو شكل العائق الحقيقي للتهرب من موضوع خفض سن الاقتراع باعتبار أن «جيل الشباب» الذي يتكاثر في طائفة ويتناقص في طائفة يمكن أن يهدد التوازن ويكسر الاحتكار ويعدل التمثيل النيابي.
إلى النمو المتفاوت في التكاثر الديموغرافي جاءت الهجرة اللبنانية إلى العالم لتشكل ذريعة إضافية لتأخر القرار. فالهجرة التي بدأت مسيحية وتطورت جيلا بعد جيل لعبت دورها في تفريغ طوائفها من الشباب الباحث عن مصادر رزق في بلاد الاغتراب. وساهمت مسألة الهجرة في تجديد السؤال عن هوية «اللبناني» في العالم وموقعه ودوره وصلته بالوطن الأم. فهل المغترب مثلا في البرازيل «لبناني» أم برازيلي؟ وهل يحق له الترشح أو التصويت من مكان الاغتراب أم عليه التوجه إلى لبنان لممارسة حقه؟
هذه الأسئلة الشرعية كانت تثير إشكاليات فعلية بشأن معنى الهوية ومتى تسقط عن حاملها؟ هل هي دائمة تتحدى الزمن والمتغيرات أم أنها موقوتة ومحددة بفترة معينة؟ وأيضا كانت الطائفية والمذهبية تفعل فعلها السلبي في تعطيل أسئلة دقيقة عن الهوية. فمن يعارض حق المغترب في التصويت كان يتغطى بالثقافة حتى لا تنكشف دوافعه الفعلية. ومن يؤيد كان يتجه إلى أزلية لبنان وأبديته حتى لا تظهر نتؤات الطائفة والمذهب من وراء التمسك بحق المغترب في الاقتراع.
الأحزاب ذات الغالبية المسيحية عموما كانت تؤكد دائما على حقوق المغتربين التي يجب أن تبقى على حالها وألا تتلاشى أو تضمحل بفعل تقادم الزمن. والأحزاب ذات الغالبية المسلمة عموما كانت تشير دائما إلى تقلص شرعية اللبناني وتناقص حقوقه في الاختيار والتصويت ما دام اتخذ قرار التوطن في بلاده الجديدة.
الأمر نفسه كان يحصل على مستوى خفض سن الاقتراع. فالقوى المسيحية كانت تتهرب من الموضوع حتى لا تؤدي الغلبة السكانية إلى تعديل التوازن البرلماني. والقوى المسلمة كانت تشجع على اتخاذ هذه الخطوة لأنها «حضارية» و«إنسانية» و«تقدمية» وغيرها من مفردات وصفات باعتبارها تمهد الطريق إلى تغيير الخريطة التعادلية في المجلس النيابي.
استمر التجاذب الأهلي حتى بعد توقيع «اتفاق الطائف» الذي حدد الحصص دستوريا وكرس التوازن بين الطائفتين بغض النظر عن النسب السكانية. فالاتفاق الذي تجاوز الاختلاف وأعاد تشريح المقاعد وفق ضوابط لا تخضع للنمو السكاني أعطى فرصة لإعادة التفكير بخفض سن الاقتراع. كذلك جرى ربط المواطن المقيم بالمغترب إذ أفسح الاتفاق إمكان التواصل ومد الجسور بين لبنان والشتات اللبناني في العالم من خلال تشريع حق المغتربين في التصويت.
صيغة «واحد ضد واحد» مهدت الطريق نحو التوافق على تعديل سن الاقتراع. فاللبناني المسيحي لم يعد خائفا من النمو الديموغرافي المسلم باعتبار أن تصويت المغتربين يعدل التوازن. واللبناني المسلم لم يعد في موقع الضعيف ما دامت الخطوة اتخذت وأعطت للشباب في سن المراهقة حق الاقتراع.
المسألة في جوهرها طائفية وليست شبابية حتى لو اعتبرها الشباب خطوة انتصارية في معركة طويلة. فالحق في الاقتراع مسألة قانونية تأخذ شرعيتها من الدستور، ولكن حق الفرد في بلد طائفي/ مذهبي يتحول من صيغة المفرد إلى صيغة الجمع باعتبار أن الفرد يختار جماعته للتصويت ولا يختار الشخص المناسب في المكان المناسب.
مسألة الشباب في لبنان لا يمكن عزلها عن التجاذب الأهلي. فالاختيارات منقسمة طائفيا ومذهبيا حتى حين تتخاطب قوى «8 آذار» و«14 آذار» بلغة السياسة وتستخدم مفردات ومصطلحات «حداثية» لترسيم خطوط الاختلاف والائتلاف. كذلك مسألة الاغتراب فهي طائفية مهما جرت المبالغة في الكلام عن دور المغتربين في صنع لبنان من الخارج وحمايته من الداخل بضخ المال إلى شرايين الاقتصاد.
النهاية متطابقة لكون قنوات الاختيار محكومة سلفا بذاك التوافق على توزيع الحصص بعيدا عن التوازن الديموغرافي الشبابي أو الاغترابي. فالشباب في سن 21 أو18 لا يتغير كثيرا في بلد تصنع سياسته بالتوافق مع قوانين التجاذب الأهلي. والشتات المغترب في أميركا الشمالية والجنوبية وأوروبا الشرقية والغربية وإفريقيا تحت خط الصحراء من غربها إلى شرقها وصولا إلى أستراليا ونيوزيلندا مرورا بالخليج كلها عناصر إضافية لا نوعية. والسماح للمغترب بأخذ حقه يرفع كمية الأصوات في صناديق الاقتراع ولن يغير من معادلة التعايش الطائفي المرسومة في الدستور أو المحفورة في الذاكرة.
الإجماع النيابي على مسألة لبنانية خلافية خطوة مهمة لأنها في حدها الأدنى جمعت مصالح «8 آذار» مع تطلعات «14 آذار» ولكن محصلة التوافق بين الكتلتين هي تعزيز نزعة التساكن الطائفي على قاعدة كيدية: واحد ضد واحد.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2388 - الجمعة 20 مارس 2009م الموافق 23 ربيع الاول 1430هـ