ليعذرني أمير الشعراء أحمد شوقي لأن أغيِّر في بيته شيئاً، لا لثلمة تسترعي التقويم قطعاً، ولكن هناك ثمة أمر طارئ يستوجب التغيير!
لقد بات للحرية الحمراء «أسطولٌ» وليس «بابٌ» فحسب كما رأيت يا أمير الشعراء. وأعترف لك سلفاً أنني كسرت البيت موسيقياً على غير لوازم النظم. ولكن بوسعي أن أجزم لكم أن شوقي سيشاطرني الرأي تماماً لو كان بين ظهرانينا اليوم، فالوزن والإيقاع ليس بنظم الأحرف ونسج الكلمات، فكل إيقاعٍ يخجل أمام ما صنعه الأحرار في قافلة الحرية في مشهد بطولي تاريخي في الطريق إلى غزة.
لقد كشّر قادة هذا الكيان عن دمويتهم للعالم مجدداً، فأشبعوا النشطاء المدنيين العزّل وابلاً من الرصاص الحي والغازات السامة من الطائرات والبوارج المهداة من رعاتهم الرسميين الذين يجاهدون دون إدانة مجرمي الحرب في أي محفلٍ عالمي.
من خلال همجيته التي فاقت كل التصورات، وأمام أشلاء شهداء أسطول الحرية يعلن قادة الحرب أنَ في عرف هذا الكيان، لا مكان للقانون الدولي ولا معنى للشرعية الدولية ولا حرمة للإنسان تحت أي مسوغ، فقاموس هذا الكيان يخلو إلا من آلات البطش والنزف.
لقد خرج ما يربو عن ألف من أحرار العالم من شتى بقاع المعمورة، وغايتهم كسر الحصار المفروض على غزة من جهتين: الحصار الأقل وطأة هو ذاك المفروض عليها من أعدائها وأعداء الإنسانية، والحصار الآخر الأكثر ألماً وغرابة وقسوة، هو حصار غزة من جيرانها الذين يخنقون أهل غزة بالجدران، ويهدمون الأنفاق ويجاهرون لمحاكمة من يدافع عن شرف الأمة وعزها المفقود.
في كل الحسابات لم يكن أمس يوماً عابراً، فالدماء المتناثرة على طول الساحل المحتل ستترك ارتدادات عنيفة بقدر ستضيف الكثير لجهة تغيير كفة الصراع لصالح الشعوب ولصالح خيار المقاومة ولكن ربما ذلك لن يسعد قطار الاستسلام.
لقد أثبت هذا الكيان دمويته تحت جنح الظلام كما أثبتها بحق أبناء الضفة والقطاع في رابعة النهار، ودمويته أمس بلغت حداً، بحيث لم يترك أية فرصة حتى لحلفائه لتبرير جريمته!
هالة من الإحراج تطوق موقف الإدارة الأميركية للرئيس باراك أوباما، فالرئيس الأميركي سيكون عليه الاختيار بين خيارين مُرّين: رفع الدعم المطلق لإسرائيل أو التضحية بنهاية مأساوية ومبكرة لمشروع ترميم العلاقات وتوطيد الجسور مع العالمين العربي والإسلامي اللذين فقدا الثقة.
وربما هذا ما دفع بنيامين نتنياهو لأن يلغي زيارته المقررة لواشنطن، لحفظ ماء الوجه أمام أي إحراج محتمل أو عتاب شديد من جانب الإدارة الأميركية التي سببت لها الحكومة اليمينية المتشددة في تل أبيب الإحراج تلو الإحراج.
من بطن الشر قد يولد الخير، كما تقول الحكمة المأثورة. فالأمر الإيجابي الوحيد لما حدث أمس في مجزرة هذا العدو هو أن هذا الكيان يمعن في عزلته الدولية أكثر فأكثر، والدليل هو سيل الانتقادات حتى من جانب الاتحاد الأوروبي، ومسارعة غالبية العواصم الأوروبية لاستدعاء السفراء الصهاينة لديها وتوبيخهم وهو أمر لم يحدث في كثير من عواصمنا، لقد جمع الأوروبيون سفراءهم للتشاور، في وقت تفقد فيه أمتنا الأمل في صحوة حكوماتها!
ليس جديداً القول بأن إسرائيل خُلقت لأجل الحروب ونزف الدماء، فهي في عداء مستمر مع كل محيطها منذ زرعها بالقوة لتحقيق غايات من فرضها، فقد خاضت حروباً مع جميع جيرانها العرب، ولكن المعادلة المهمة التي تضاف أن تركيا دخلت الآن في إحداثية الصراع، وتحديداً منذ وصول «العثمانيين الجدد» بقيادة حزب العدالة والتنمية إلى كرسي الحكم في أنقرة.
ومن المفارقة أن شواطئ غزة هي التي قُدّر لها أن تكون دائماً القشة التي تقصم ظهر العلاقات المتوترة بين أنقرة وتل أبيب. فلن يجهد رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان كثيراً في التفكير لإدانة الجريمة الجديدة، يكفي أردوغان أن يستعير من ذاكرته ما قاله أمام رئيس هذا الكيان في منتدى دافوس: «إن الجيش الإسرائيلي يقتل الأطفال في شواطئ غزة، ورؤساء وزرائكم قالوا لي إنهم يكونون سعداء جداً عندما يدخلون غزة على متن دبابتهم».
بوادر الأمل أن هناك محوراً جديداً وعريضاً في المنطقة قد يقلب الموازين، يضم هذا المحور «تركيا وإيران وحزب الله في لبنان وحركة «حماس» مضافاً إلى ذلك الدور القطري المساند». ويتمتع هذا المحور بثقل حقيقي، لأنه محور الشعوب. وهذا المحور يأتي في قبالة محور «الصمت العربي» الذي كشفت ظهره حرب غزة.
ومن حسن الحظ، أن إسرائيل ليست الآن بحاجة لأن يدعو لها أحد بالزوال، فهي تقضي على أية فرصة لإنقاذ مستقبلها من خلال انهيار شعار مفاوضات التسوية العقيمة. فالإسرائيليون يثبتون اليوم لمن يحتاج إلى مزيد من الإثبات: أن هذا الكيان الغريب لا مستقبل له في هذه المنطقة.
هل لنا أن نسأل ما يسمى بالمجتمع الدولي: أين هي الشرعية الدولية التي تتشدقون بها: أين هي محكمة الجنايات الدولية، وما الذي ينتظره المدعي العام السيد أوكامبو ليثبت شبهة جريمة الحرب بعد تواطؤه مع الكيان الغاصب في حرب غزة، وأين هو مجلس حقوق الإنسان؟ وأين هي كل شرائع الأرض؟ وأين هو القانون الدولي الإنساني، وأين هو «العالم الحر»؟ ولكن قبل ذلك يجب أن نسأل: أين هي أمتنا؟ أين هي أنظمتنا؟ أين هي حكوماتنا؟ أين هي كرامتنا المهدورة على شواطئ غزة؟
إن وحشية إسرائيل بعيدة عن استيعاب المنطق البشري، لأنها لا تدخل إلا في خانة سلوك شريعة الغاب، ولكن يمكن القول بكل ثقة أن هذه الجريمة هي البداية الحقيقية لمحاصرة إسرائيل في المجتمع الدولي عوضاً عن حصار غزة.
لن نبكي شهداء قوافل الحرية على شواطئ الكرامة في غزة، ولكن هؤلاء الأبطال وضعونا في زاوية التحدي لإثبات الوجود... لن نبكي الذين قتلوا من أجل إنعاش ضمائرنا، ولكننا نبكي مصيبة أنظمتنا وعجز حكوماتنا ونبكي صمتنا المعيب!
إقرأ أيضا لـ "حيدر محمد"العدد 2825 - الإثنين 31 مايو 2010م الموافق 17 جمادى الآخرة 1431هـ