العدد 2825 - الإثنين 31 مايو 2010م الموافق 17 جمادى الآخرة 1431هـ

تقية الضعفاء

نادر كاظم comments [at] alwasatnews.com

.

الضعيف العاقل «يصالح عدوه إذا اضطرّ إليه، ويصانعه، ويُظهر له ودّه، ويُريه من نفسه الاسترسال إليه إذا لم يجد من ذلك بداً، ثم يعجّل الانصراف عنه حين يجد إلى ذلك سبيلاً». هذا ما جاء على لسان الجرذ في حكاية «الجرذ والسنور» من حكايات «كلية ودمنة». وما ينسحب على الجرذ (الضعيف) حين يجد نفسه مضطراً إلى مصانعة السنور (القوي)، ينسحب على معظم الضعفاء العاقلين من البشر في كل مكان وزمان. وهذا كان حال يهود شبه الجزيرة الإيبيرية المعروفين باسم يهود المارانو (يقال إن اسمهم مشتق من المراءاة والرياء بمعنى التظاهر) بعد العام 1492م، وبعد صدور مرسوم الطرد الذي كان يخيّرهم بين الترحيل أو التعميد (التنصّر) الإجباري. والحال ذاته كان ينسحب على مسلمي أسبانيا (الموريسكيين) الذين بدأت حملات تعميدهم الإجباري منذ العام 1500م حيث «تعيّن على كل مسلمي مملكة قشتالة أن يتقبّلوا التعميد». وقد اضطر هؤلاء إلى التكتم على دينهم وستر هويتهم الحقيقية والحفاظ عليها في السر والتظاهر علناً باعتناق الدين الجديد (الكاثوليكية). وبهذا أصبح اليهود والمسلمون مسيحيين بالاسم وفي العلن فقط، فيما هم يحافظون على دينهم القديم وهويتهم الحقيقية في السر والخفاء وداخل البيوت. واستمرت هذه الوضعية قروناً حتى جرى طرد آخر الموريسكيين في العام 1614م.

لقد فرضت هذه الظروف على يهود المارانو والموريسكيين أن يعيشوا حياة مزدوجة مشطورة إلى نصفين: حياة حقيقية وصادقة في البيت وفي السرّ، وحياة مزيفة ومن باب التظاهر في العلن وأمام الناس ومحاكم التفتيش التي كانت ترتاب في صدق إيمانهم وتتربص بهم. ويطلق الضعفاء المغلوبون على أمرهم اسم «التقية» على هذا النوع من الحياة المزدوجة، إلا أن الأقوياء يعدونها رياء ونفاقاً يستحق الشجب والإنكار وحتى العقاب كما حدث مع يهود المارانو والموريسكيين إبان محاكم التفتيش الإسبانية التي استهدفت محو الشخصية الحقيقية لهؤلاء. لقد أصدرت السلطات، آنذاك، مجموعة من القوانين التي كانت تستهدف استئصال هوية الموريسكيين من خلال إجبارهم «على الحديث باللغة القشتالية أي الإسبانية، في مدى ثلاثة أعوام، وتحريم الحديث والقراءة والكتابة باللغة العربية في السر والعلن، وبطلان العقود المكتوبة بها، ووجوب التسليم الفوري لجميع الكتب العربية لسلطات محاكم التفتيش في غرناطة، وتحريم تفصيل الثياب الموريسكية (...) وتحريم شعائر الاحتفالات والطقوس الإسلامية في الميلاد والزواج والموت (...) وتحريم إطلاق الأسماء العربية على المواليد الجدد» (ملحمة المغازي الموريسكية، ص24-25).

اضطر الموريسكيون، أمام هذا الاستهداف الخطير، إلى التقية، إلى شطر حياتهم إلى نصفين، وقد وصف المطران جريرو حالهم في العام 1565م بقوله: «إنهم خضعوا في الظاهر للتنصير، ولكنهم لبثوا كفرة في سرائرهم، وهم يذهبون للقدّاس تفادياً للعقاب، ويعملون خفية في أيام الأعياد، ويحتفلون بيوم الجمعة أفضل من احتفالهم بيوم الأحد (...) ويقيمون الصلاة خفية، ويقدمون أولادهم للتعميد خضوعاً للقانون، ثم يغسلونهم في البيوت لمحو آثار التنصير، ويجرون ختانهم، ويطلقون عليهم أسماء عربية، وتذهب عرائسهم إلى الكنائس في ثياب أوروبية، فإذا عدنا إلى المنزل استبدلنها بثياب عربية، واحتفل بالزواج طبقاً للمراسم الإسلامية».

ماذا نسمي هذا الانشطار؟ بالنسبة لمحاكم التفتيش هو نفاق يستحق العقاب، ولكنه بالنسبة للموريسكيين كان قارب النجاة الوحيد الذي يسمح لهم بالعيش في بلادهم والحفاظ على دينهم وهويتهم في الوقت ذاته، ولم يكن قارب النجاة هذا سوى «التقية». وقد وجدت هذه التقية من يؤصّلها فقهياً كما جاء في إحدى الفتاوى التي صدرت في العام 1504م تحت عنوان «فتوى الغرباء». وتطرح هذه الفتوى التقية كبرنامج حياة عملي ومفصّل للعيش بنوع من التسوية بين الإيمان وظروف الإكراه التي لا ترحم. وقد جاء في هذه الفتوى: «أن الصلاة ولو بالإيماء، والزكاة ولو كأنها هدية لفقيركم أو رياء، لأن الله لا ينظر إلى صوركم، ولكن إلى قلوبكم، والغسل من الجنابة ولو عوماً في البحور، وعليكم بالتيمم ولو مسحاً بالأيدي للحيطان، وإن أكرهوكم في وقت صلاة إلى السجود للأصنام أو حضور صلاتهم فأحرموا النية، وانووا صلاتكم المشروعة، وأشيروا لما يشيرون إليه من صنم ومقصودكم الله، وإن كان لغير قبلة تسقط في حقكم كصلاة الخوف عند الالتحام، وإن أجبروكم على شرب الخمر فاشربوه لا بنية استعماله، وإن كلفوا عليكم الخنزير فكلوه ناكرين إياه بقلوبكم ومعتقدين بتحريمه، كذلك إن أكرهوكم على محرم، وإن زوّجوكم بناتهم فجائز لأنهم أهل كتاب، وإن أكرهوكم على إنكاح بناتكم منهم فاعتقدوا تحريمه لولا الإكراه وأنكم ناكرون لذلك بقلوبكم (...) وإن أكرهوكم على كلمة الكفر فإن أمكنكم التورية والإلغاز فافعلوا، وإلا فكونوا مطمئني القلوب بالإيمان إن نطقتم بها ناكرين لذلك، وإن قالوا اشتموا محمداً فاشتموا ناوين أنه الشيطان (...) وأنا أسأل الله أن يديل الكرة للإسلام حتى تعبدوا الله ظاهراً بحول الله من غير محنة ولا وجلة (ملحمة المغازي الموريسكية، ص30-31).

هذا لا يمنع أن يوجد من بين أبناء الجماعات الضعيفة والمهددة من يمتلك من شدة البأس وقوة التحمل ما يجعله قادراًً على المواجهة حتى الموت، وقادراً على المجاهرة علناً، وبكل جرأة، عن معتقداته وخصوصيته وحتى عن كراهيته تجاه الأقوياء. إلا أن الغالبية العظمى من الناس لا تمتلك مثل هذه الجرأة، ولذا تراهم يضطرون إلى المداراة والمصانعة والمسايرة والتظاهر في العلن بشيء، وفي السر والخفاء بشيء آخر. وبتعبير آخر، تراهم مضطرين إلى الالتفات إلى الآخرين وأخذ قوتهم بعين الاعتبار. ولهذا لا يمكن مقارنة أحوال يهود المارانو بأحوال يهود إسرائيل اليوم، كما لا يمكن مقارنة أحوال الموريسكين إبان محاكم التفتيش بأحوال أحفادهم، اليوم، في المغرب والدول الأخرى أو بأحوال عموم المسلمين في العالم الإسلامي. وعلى الشاكلة ذاتها، لا يمكن مقارنة أحوال الشيعة المغلوب على أمرهم إبان تسلط الأمويين والعباسيين والسلجوقيين والعثمانيين لاحقاً، بأحوال نظرائهم، اليوم، في إيران والعراق ولبنان والكويت والبحرين وحتى في المنطقة الشرقية بالمملكة العربية السعودية.

كانت التقية آلية من آليات الدفاع وضرباً من ضروب الالتفات الاضطراري إلى قوة الآخرين. ولهذا لا ينبغي أن نتصور أن هذه الآلية يمكن أن تكون طبعاً جوهرياً في نفوس أبناء جماعة من الجماعات، بل هي حيلة دفاعية وسلوك تطبّعي قابل للزوال بزوال مسبباته وظروف التهديد القاسية. وهي حيلة كثيراً ما نجح أصحابها في تأصيلها دينياً وفقاً لأحكام الضرورات، ووفقاً للاعتقاد الديني القائم على فكرة أن الله يرى ويطلع على السرائر وما تخفي الصدور، وأن القلب، دون سواه، هو الحصن الأخير الذي لا يمكن اختراقه بأي شكل من أشكال الإكراه مهما كانت فظاعته.

ومن هنا يمكننا أن نتصور سياقاً يُضطر فيه كل أبناء الجماعات القوية (ويمكننا أن نستثني من هذا الحكم من يمتلك منهم الجرأة وقوة التحمّل) إلى الاحتماء بالتقية والتطبع بأسلوب العيش المزدوج وأخذ قوة الآخرين بعين الاعتبار، وذلك إذا ما وجدوا أنفسهم، فجأة، في ظل علاقات قوة أخذ ميزانها في الميل لصالح الجماعات الضعيفة على حسابهم. لن آتي بأمثلة كثيرة للتدليل على ذلك، فالانقسام المذهبي (السني/ الشيعي) مثال حاضر وقريب منا ويفي بالغرض. كما أني لن آتي بمثال على ذلك من حياة الأقلية السنية في إيران الصفوية ولا إيران الثورة، ولا من حياة السنة في عراق ما بعد العام 2003م، بل سأقفز بعيداً إلى مثال يشبك العراق بإيران في القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي، حيث تمكّن الشيعة البويهيون القادمون من غرب إيران (من أعالي جبال الديلم) من الإمساك بمقاليد السلطة ببغداد في العام 946م، فأخضعوا الخلفاء العباسيين تحت سلطتهم ونفوذهم، وأشهروا تشيّعهم بصورة لا تخلو من استفزازية. وكانت النتيجة دورات متلاحقة من الاقتتال والمواجهات بين الشيعة والسنة في بغداد احتفظت بها كتب التاريخ وحولياته. قد يفهم من هذه المواجهات أن ثمة توازناً في القوة، لكن الصحيح أن ميزان القوة كان قد مال لصالح شيعة بغداد، الأمر الذي اضطر الكثير من العلماء والأدباء إلى مداراة البويهيين ومصانعتهم والتظاهر بالتشيع أو التكتم على سنيتهم خوفاً على حياتهم أو مناصبهم أو قربهم من مراكز السلطة الفعلية. من هؤلاء كان ابن جني الذي يذكر محقق كتابه «الخصائص» أنه كان حنفياً، إلا أنه كان «يصانع الشيعة» و»يأخذ إخذهم»، وقد قدّم كتابه «الخصائص» إلى بهاء الدولة البويهي. ولهذا تراه إذا ذَكَر علي بن أبي طالب يردفه بالصلاة عليه على عادة الشيعة، كما أنه افتتح خطبة كتابه بحمد الله والصلاة «على صفوته محمد وآله المنتخبين، وعليه وعليهم السلام أجمعين» (الخصائص، ج:1، ص1). وهذه البداية، كما يقول محقق الكتاب، من تقاليد الشيعة وشعاراتها، فهو، أولاً، يُغفل ذكر الصحابة في هذا المقام، كما أنه، ثانياً «لا يدخل «على» على الآل، وهو مما يلتزمه الشيعة» (ج:1، ص39 من مقدمة المحقق). هذا يعني أن التظاهر أو الحياة المزدوجة القائمة على ثنائية الظاهر والباطن إنما كانت حيلة دفاعية لاتقاء أذى الآخرين ممن هم في موقع القوة والهيمنة، وهي حيلة يلجأ إليها الجميع إذا ما أرادوا النجاة والسلامة، وكما قال الشاعر الجاهلي:

ومَن لم يُصانع في أمور كثيرة يُضرَّس بأنيابٍ ويُوطأ بمَنسمِ

إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"

العدد 2825 - الإثنين 31 مايو 2010م الموافق 17 جمادى الآخرة 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 8 | 10:56 ص

      التقيــــــــة ... أمـــــل بالأفضـــل

      إذاً لا يمكن اعتبار التقية – بوجه مطلق – هدف بحيث إذا وصل ( الضعيف ) سيكون قد حقق غايته بحصول الإدراك ، وإنما هنالك زمان / مكان أو حتى سبب محدّد واضطراري لذلك ، أي أن الضعيف العاقل لا ينتظرها في أهداف محدّدة ، بل يرحل معها وبتعايش من مكان لمكان ، ومن زمان لآخر .. وهكذا ، فالتقية رحلة وليست محطة وهي أمل بالأفضل ، وقبل ذلك زلفى من الله وابتغاء رضوانه . كل الشكر للكاتب وللوسط ... نهوض

    • زائر 6 | 6:33 ص

      حالات فردية

      يادكتور الموضوع التي تتحدث عنه يخص الأخوة بالمذهب الشيعي وإحتراماً للأخوة فليس لدي أي تعليق على الموضوع لخصوصيته وأبناء الطائفة يمكنهم التعليق عليه سلباً وإيجاباً، ولكن في المذهب السني لايوجد شيء أسمه التقية وإذا أشرت إلى حالة معينة أو شاذة أو فردية فلا ينبغي لدارس متمرس أن يعممها على المذهب السني أو يعتبرها مصدر تشريع يعتد به وشكراً.

    • زائر 5 | 6:07 ص

      أين الجرأة في قول الحق

      كل هذه الأشياء مبررات للتقية ولكن أين الجرأة في قول الحق ولماذا لم يأخذ الإمام أحمد بن حنبل بالتقية في محنة خلق القرآن التي نعرفها في التاريخ

    • زائر 4 | 3:22 ص

      يروى عن المرحوم آية الله السيد محمد تقي الحكيم أنه ذهب لمصر و اجتمع مع علماء الأزهر فسأله الأزهريون لماذا أنتم الشيعة تنافقوننا و تستخدمون التقية فاجابهم السيد لماذا تحاسبوننا على لجؤنا للتقية بل حاسبوا من أجبرنا على التقية.

    • زائر 3 | 2:39 ص

      سبحانه مغير طباع اليهود من الامس إلى اليوم

      أكيد الاسرائيليين اليوم من أحفاد يهود المارانو, ولكن كيف تغيرت طباعهم من التقية والخوف إلى البطش والدموية. لاشك انها القوة وصدقت يادكتور نادر لأن التقية طبع الضعفاء والأقوياء يعرفون البطش والقتل والدموية والضعفاء اذا صاروا اقوياء يرتكبون الجرائم

    • زائر 2 | 2:24 ص

      -

      great article

    • زائر 1 | 1:21 ص

      كفيت ووفيت

      هذا كلام مقنع ويرد على الذين يعتقدون ان الشيعة يستخدمون التقية من باب النفاق. كثر ألله أمثالك

اقرأ ايضاً