أحداثٌ كثيرة في العالم تمنحك فرصة لأن تطرح استفهاماً ثم تتفكّر في أمرها. فإحدى أهم الهِبات التي تجنيها من المتابعة الحثيثة لأخبار الدول هي أنّك تقِف أمام المفهوم منها وغير المفهوم. الواضح منها والغامض. بعضها مما يسهلُ إداركه وبعضها ما هو ممتنع. فما وَضُحَ إدراكه جازَ لك أن تهرف فيه بما تعرف. وما غَمُض منه حفّزك لأن تُعَتِّبَ نحو فهمه مرة بعد أخرى.
بين أحداث العالَم الغامضة (وهي الأهم) نتساءل: ما الذي يصل اليابانيين حلفاء الولايات المتحدة بالمجلس العسكري في ميانمار العدوّ اللدود لواشنطن؟! وما الذي يصل النمور التاميل في سريلانكا بوسط الشرق إلى حيث كَنَدا الرأسمالية في الغرب الأدنى؟! وما الذي يصل الأتراك بإقليم شينغيانغ الصيني وسكّانه الإيغور؟! وما الذي يجعل الإيرانيين حلفاءَ للأرمن أعداء تركيا التي تمتلك علاقات متينة بطهران؟! وما الذي يجعل الدول المتحالفة (جداً) مختلفة (جداً) بشأن ثلاث عشرة دولة غير معترف بها في العالم.
بالتأكيد فإن هذا ما هو إلا جزء من المشهد، وإلا لطالت القائمة على هذه الشاكلة من العلاقات الغامضة، والتي هي محلّ تساؤل وتشريح. ما يهمّ من كلّ ذلك، هو تشبيه سياسات الدول بأشكال الجبال البحرية. فالجبل البحري تظهر هامته العملاقة، وظَهْره السميك خارج سطح البحر، لكن قوامه الحقيقي والأكبر هو في عُمق المحيطات. وقد تتجاوز مساحته في العمق عن تلك الظاهِرة على السطح بأربعة أضعاف، أو يزيد، وهو ما يمنحه صلابة وتماسكاً يَشْطُر صادمه إلى نصفين ليفتّه فَتّاً.
هذا بالضبط هو حال السياسات الخارجية للبُلدان. فمواقف الدول وتصريحاتها المُعلَنَة لا تعكس بالتحديد ما ستنتهي إليه القرارات السياسية تجاه قضية ما، وإنما خواتيم أمورها منوطة بعدد كبير وغائر من الإجراءات والظروف الخاصة، التي تعتبر كمقادير لطبخة دسمة تتطلب أنواعاً متعددة من المواد الأوليّة، حتى يظهر مذاقها كما يجب، أو كما يجب أن تكون، دون أن تُرَى مراحل هذا التعاضد وهذا التوالي.
أفهم من كل ذلك أن عالَم السياسة ما هو إلا عالَمَيْن. عالَمٌ ظاهر، وعالَمٌ باطن. في عالَمِ الظاهر ترى ما يراه الآخرون الذين بدورهم يرون ذات الأشياء التي تلحظها أنت. وفي عالَمِ الباطن تُدرَك الأمور بالكاد، أو عبر رباط هنا وآخر هناك لكي يظهر جزء من حوافّها. في العالَم الظاهر ترى دولاً ورؤساءً وجيوشاً وتصريحاتٍ في الشّدة وأخرى في الرّخاء. وفي العالَم الباطن لا ترى كلّ ذلك.
بل أقصى ما يُسمَع في هذا العالم الباطن هو هَسْهَسَةً ونمنمات ليس لها ملامح؛ لأن أبطاله عبارة عن رجال استخبارات، وحروب بالإنابة. وتحالفات مُضمَرة، ودعم مالي أسْوَد، ومفاوضات خاصّة، وحسبة للمصالح والأرباح وصَفَقَات، وتسويات. وهي بمجموعها تساهم في أن يكون القرار بهذه الشاكلة أو تلك، وبمجموعها أيضاً تتضامن تلك التصنيفات من أجل تحمّل أكلاف النتائج، إن كانت جيدة أم سيئة.
العامة ترى العالَم الأول وشخوصه، لكنها تُدرك أنه ليس وجه العالم الحقيقي. وتتيه وسط طلاسم العالَم الثاني لكنها تعلَم أنه هو مَنْ يُشكّل صورة الأحداث. وهو مَنْ يسحبها إلى الصراع بحرب طاحنة، ويُخرجها إلى السِّلمِ بمفاوضات ناعِمة. وما بين العالَمَيْن تضيع حلقات وحلقات، فيظهر فاسد القول وتأويلاته. وتعوم التقديرات بالترقيم والتحليل كخشبة وسط الموج، فيُلَخط الفهم ما بين البرّ والهِر، والضحيّة هم أصحاب الآذان المُشَنّفة والرقاب المُشرئِبَّة.
في العالم الباطن، تُخَاضُ شؤونه ببذرة المصالح. دول بحاجة إلى تسوية ملف مشترك فتتحالف لتسويته دون اكتراث لمشاكلها في ملفات أخرى. ودول بحاجة إلى طاقة دول أخرى فتتحالف من أجل طاقتها. ودول بحاجة إلى إسناد من دول أخرى في المحافل الدولية فتتحالف. ودول بحاجة إلى إرغام دول أخرى لكي تمنحها مجال الحركة في جوارها فتتحالف. ودول بحاجة إلى تغيير أنظمة وميزان قوى في معادلة للصراع فتتحالف. ودول ترمي الولوج في عالم الإمبريالية وتخطّي الرقاب فتتحالف.
لقد تفاهم الأميركيون مع الإيرانيين بشأن العراق في ثلاث جولات من المفاوضات وهم أعداء. وتفاهم السوريون والفرنسيون بشأن لبنان وهم أعداء. وتفاهم الهنود والباكستانيون على أنبوب «السلام» النفطي وهم أعداء. وتفاهم السودانيون مع التشاديين بشأن حركة العدل والمساواة وهم أعداء.
واختلف الأتراك (وألمانيا شرودر، وفرنسا شيراك) مع الأميركان بشأن العراق وهم حلفاء. وتباين الفرنسيون مع الأميركان بشأن البثّ التلفزيون في أوروبا وهم حلفاء. واختلف اليابانيون مع الأميركان بشأن الكوريتين وهم حلفاء. واختلف الإسبان والبرتغاليون والبلجيكيون والإيطاليون مع البريطانيين حول الدستور الأوروبي وهم حلفاء.
في مشهد آخر من المعادلة. ليس غريباً أن تُسارع الولايات المتحدة في الدفع باستصدار قرار أممي خامس ضد إيران في الوقت الذي تمارس فيه شركات أميركية أنشطة تجارية وصناعية على الأراضي الإيرانية، ليس آخرها أنشطة شركة «هانيويل» الأميركية لإنتاج المعدات الآلية والتجهيزات الجوية باستثمارات تصل إلى 3.45 مليارات دولار.
باختصار، فإن ما نُشاهده هو جزء من صورة المشهد العالمي. بعض ما نشهده هو تصريحات تُقال للاستهلاك الداخلي. وبعضها يُقال لإعطاء صورة مُحددة لدول بعينها. وبعض المواقف تُتّخذ لبناء جسر قصير في طوله وعمره ولتحقيق غرض عارض. في المُحصّلة، فإننا نشهد المرئي من الأحداث، أما المستتر منها فإن التاريخ أو الفضائح أو التسريبات هي الأقدر على تقديمها لنا.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 2822 - الجمعة 28 مايو 2010م الموافق 14 جمادى الآخرة 1431هـ
وايضا
فالدول العربية مثلا ترعى مصالح اسيادها اكثر مما ترعى مصالحها او مصالح شعوبها وهو كلام اقوله من تجربة العراق غزة الودائع المالية البيئة والقائمة لا تنتهي
البلاء
القضية لا تتعلق بالغموض فقط ولكن بالفحش احيانا . فاذا كانت دولة ترعى مصالحها بشكل هادئ وغير فج ولا عبر الاستهتار بمصالح الاخرين فهذا مقبول اما الدول التي تاكل مصالحها ومصالح غيرها فهذا هو البلاء
اخي اختلف معك
لا عداء ظاهر و صداقة باطنة بين الدول نعم يمكن ان يكون العكس لمصالح مشتركة و حتى العداء و الصداقة نسبية و الامثلة التي اوردتها لا ترقى ان نحكم بصداقة باكستان للهند على سبيل المثال ولا امريكا لايران انها نقاط تلاقي الاضداد وليس يعني انهم على خطوط متوازية.جولات الحوار بين ايران وامريكا في العراق كانت بعد الاحتلال بسنين وليس قبلها حتى لا يفهم الترتيب المشترك للاحتلال و هذه اللقاءات لتفادي الاصدام في بلد تتصارع عليه المصالح و ايران احدى الدول التي لها مصالح بجانب السعودية و تركيا و مصر بنفوذ متفاوت .
صحيح
مقالك اليوم جميل جدا وبه رؤية جديدة وناضجة . اشكرك على مقالاتك واشكر الوسط بلا حدود